وظيفة المسلم في شهر الله المحرَّم
إنَّ المتأمِّلَ في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله ليُدرك تماماً شدة عنايته بمواسم الطاعة، وأزمان الخير، وأوقات العبادة، وحثه الأمة على اغتنامها وذلك بتحرِّي الأعمال المشروعة فيها.
ومن تلك الأزمنة التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أمتَهُ إلى التعرض فيها لنفحات رحمة الله شهر الله المحرَّم، هذا الشهر الذي هو مفتتحُ العام الهجري، وأحد الأشهر الحُرُم الأربعة التي قال الله تعالى فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}[التوبة: 36]، وخيرُ ما يُستقبلُ به هذا الشهر من الأعمال الصالحة ما جاءت به النصوص الشرعية من الحث عليه والترغيب فيه، ألا وهو الصيام([1]).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّم، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ»([2]).
ففي هذا الحديث يُرغِّبُ النبي صلى الله عليه وسلم الأمة في الإكثار من الصيام في شهر الله المحرم، حيث وصفَهُ بأنه أفضل الصيام بعد الفريضة، ووصْفُهُ بذلك يقتضي أفضليته على غيره، وتقديمه على ما سواه من صيام التطوع.
وفي تخصيص هذا الشهر بالصيام سِرٌّ بديع نبَّه عليه الحافظ ابن رجب رحمه الله، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى المحرَّم شهر الله، وإضافته إلى الله تدلُّ على شرفه وفضله، والصيام من بين سائر الأعمال مضافاً إلى الله تعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّه لي وأَنا أَجْزي بِهِ...»([3])، فلمَّا كان هذا الشهر -وهو محرَّم- مختصاً بإضافته إلى الله، ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام([4]).
وأفضل أيام صيامه وأولاها العاشر منه، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يتقصدُهُ بالصوم ويطلب فضله على غيره من الأيام، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ»([5])، وفي لفظ أن ابن عباس رضي الله عنهما سُئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: «مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ...»([6]) يعني عاشوراء، وهذا في خاصة نفسه.
أمَّا مع غيره فيقول جابر بن سمرة رضي الله عنه: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِصِيَامِ يَوْمِ عاشوراء، وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ، وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ...»([7]).
ولَمَّا سُئل صلى الله عليه وسلم عن ثواب صوم يوم عاشوراء وأجره قال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ»([8])، وفي رواية: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ»([9]).
وقد استجاب الصحابة رضي الله عنهم لهذا النداء النبوي فصاموا هذا اليوم المبارك حضراً بل وسفراً، بهذا وردت الآثار عنهم رضي الله عنهم([10])، حتى بلغ ذلك بهم إلى تصويمهم أبناءهم الصغار هذا اليوم، تقول الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنها: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: «مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ»، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ»([11])، وفي لفظ: «...فَإِذَا سَأَلُونَا الطَّعَامَ أَعْطَيْنَاهُم اللُّعْبَةَ تُلْهيهِمْ حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ»([12]).
والأفضل أن يُصام معه اليوم التاسع، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ». قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم([13])، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ»([14])؛ وذلك لمخالفة اليهود حيث كانوا يقتصرون على صيام اليوم العاشر فقط، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «خَالِفُوا الْيَهُودَ، وَصُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ»([15]).
ومن صام يوم عاشوراء مفرداً فلا يكره ذلك في حقه؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم اليوم العاشر فقط إلى أن مات؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة، ولا يكره إفراده بالصوم"([16])، إلا أن الأولى والأفضل والأكمل ما تقدَّم وهو أن يصام معه اليوم التاسع.
وإذا كان هذا شأن هذه الأيام، فالمتأكد في حق المسلم الاجتهاد في القيام بوظيفتها، ومَن عَلِمَ الله منه الحرص على ذلك أعانه، ووفَّقه، وسدَّده.
ومما يستفاد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدِّم وبقية الأحاديث السابقة:
1- أن أفضل شهر يتطوع به بعد الفريضة هو شهر الله المحرَّم لظاهر الحديث([17])، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وهذا الحديث صريح في أن أفضل ما تُطوِّع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم..."([18]).
2- الندب إلى صيام غالب شهر محرَّم، وقيدتُ ذلك بالأغلبية أو الأكثرية مع أن ظاهر الحديث صيامه كله لعدم ورود السُّنة بذلك([19])، تقول عائشة رضي الله عنها: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ...»([20]).
3- أن الحكم بالأفضلية على عمل من الأعمال، أو قول من الأقوال، أو حال من الأحوال مصدره النص الصحيح الصريح من الكتاب والسُّنة، يقول ابن عبد البر رحمه الله: "والفضائل لا تُدرك بنظر، ولا مدخل فيها لقياس، فإن الله تعالى مُنْعِم متفضل، له أن يتفضل بما شاء على من يشاء فيما يشاء من الأعمال، ولا مُعقِّب لحُكْمه، ولا رادَّ لِفضْلِه"([21])، وبيان ذلك هنا: أنه لولا ورود النص الشرعي بأفضلية صيام شهر محرَّم، وترتيب مزيد ثواب على صيام بعض أيامه -كعاشوراء- لم يجز لنا الحكم بشيء من ذلك.
4- أنه لا يُصار إلى تخصيص شهر من الشهور، أو يوم من الأيام، أو ليلة من الليالي بعبادة معيَّنة إلا بنص؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ»([22]).
وفي توضيح هذا يقال: إن يوم الجمعة لَمَّا كان ظاهر الفضل على سائر أيام الأسبوع كان الداعي قويّاً إلى تخصيصه بالصيام أو القيام، وهذه عبادات نهى الشرع عن تخصيص يوم الجمعة بها؛ لأن مَظِنَّة تتابع الناس عليها كبيراً، وفي هذا إدخال في الشرع ما ليس فيه، وتخصيص لهذا اليوم بعبادات لم يرد بها النص، فلذلك جاء النهي عن تخصيص يومها بصيام أو ليلتها بالقيام سداً للذريعة([23])، وحمايةً للمِلَّة، ومنعاً للبدعة، واكتفاءً بما ثبتت به السُّنة، ولذا فإنه لا يشرع في يوم عاشوراء إلا الصوم فقط، أما ما ورد في ذلك من الترغيب في الصدقة أو صلاة تطوع([24]) أو الاغتسال أو إظهار الزينة ونحوها في هذا اليوم فلا يثبت شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هذا مع أن عاشوراء لم يشرع فيه غير الصوم باتفاق المسلمين"([25])، وقال أيضاً: "وكل ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء غير صومه فهو كذب"([26])، وقال: "وليس في عاشوراء حديث صحيح غير الصوم"([27]).
5- أن بالوقوف على المشروع في هذا الشهر يُعلم ما عليه البعض من البُعد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في هذا الباب، فالتشاغل بالهدي النبوي فيه غُنية، والآخذ به سائر على الحنيفيَّة السمحة، وعامل بالفاضل من الأعمال، مأجور على سعيه وتقربه إلى ربِّه، موفَّق للمتابعة، بعيد عن الهوى والمخالفة.
6- تعويد الصغار على هذه العبادة -أعني الصيام- وتعاهدهم على صيام يوم عاشوراء المكرَّم عند الله وحثهم عليه، ترغيباً في فضله، وفوزاً بأجره، ففي ذلك اقتداء بالصحابة، وتربية للأولاد على التقرب إلى الله بعبادة الصيام، ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عند حديث الرُّبيع بنت معوذ رضي الله عنها آنف الذِّكر (فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا...): "وفي الحديث حجة على مشروعية تمرين الصبيان على الصيام...لأن من كان في مثل السن الذي ذُكر في هذا الحديث فهو غير مكلَّف، وإنما صنع لهم ذلك للتمرين..."([28]).
قال هشام بن عروة: "كان أبي يأمر الصبيان بالصلاة إذا عقلوها، والصيام إذا أطاقوه"([29]).
وهذا تلقين عملي للصغار على حب السُّنة والجِد في تحقيقها، والعمل على تعظيمها في قلوبهم، وترسيخها في نفوسهم، ومتى نشأ الطفل على حب الطاعة، والرغبة في العبادة، والميول إلى الفضيلة، فإنه يرجى خيره، ويؤمَنُ شره، فما على المؤمن إلا الرجاء في الله ودعاؤه، وبذل الأسباب في تأديب أولاده وإصلاحهم مع التوكل على الله والاعتماد عليه والثقة بوعده.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هذا وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وآله وصحبه وسلَّم.
([1]) انظر: المفهم (3/235).
([2]) رواه مسلم (1163).
([3]) رواه البخاري (5927) واللفظ له، ومسلم (1151).
([4]) انظر: لطائف المعارف (ص:81-82).
([5]) رواه البخاري (2006).
([6]) رواه مسلم (1132).
([7]) رواه مسلم (1128).
([8]) رواه مسلم (1162).
([9]) رواه مسلم (1162).
([10]) انظر: لطائف المعارف (ص:109-113).
([11]) رواه البخاري (1960) واللفظ له، ومسلم (1136).
([12]) رواه مسلم (1136).
([13]) رواه مسلم (1134).
([14]) رواه مسلم (1134).
([15]) رواه عبد الرزاق في المصنف (7839) وغيره، وصححه ابن رجب في لطائف المعارف (ص:108).
([16]) اختيارات ابن تيمية الفقهية للبعلي (ص:110).
([17]) رسالة في أحاديث شهر الله المحرم (ص:53).
([18]) لطائف المعارف (ص:77).
([19]) انظر: رسالة في أحاديث شهر الله المحرم (ص:53).
([20]) رواه مسلم (1156).
([21]) التمهيد (19/26).
([22]) رواه مسلم (1144).
([23]) انظر: زاد المعاد (1/526).
([24]) انظر: درء التعارض (1/150).
([25]) جامع المسائل (3/376).
([26]) جامع المسائل (5/151).
([27]) منهاج السنة (7/433).
([28]) فتح الباري (4/201).
([29]) رواه عبد الرزاق في المصنف (7293).