أحكامُ صلة الأرحام
بسم الله الرحمن الرحيم
الرَّحُم، لغة واصطلاحًا، وأنواعه:
الرَّحُم لغةً: بيتُ مَنْبَتِ الولدِ، ووعاؤهُ فِي البَطْنِ، والرَّحِم أيضًا: القَرَابةُ.
فَأُطلِقَ على القرابة وأسبابها، كما في مراجع لسانِ العرب.
الرَّحُم اصطلاحًا: اسم جامع لكلّ ذي رحمِ من الأقارب يجمع بينهم نَسب، من غير تفريق بين محرمٍ أو غير مَحْرَم.
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾[آل عمران:6]
وقال تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾[سورة الأنفال: 75].
فجاء لفظ الأرحام بالمعنَيَين، بمعنى موضع تكوين الجنين، وبمعنى الصلةِ والقرابةِ.
أنواع الرَّحم: نوعان: رحم مَحْرَم، ورَحم غيرُ محرم.
فالرحم المَحْرَم: كل شخصين بينهما رابطة، لو فرض أحدهما ذكرًا والآخر أنثى، لم يحلَّ لهما أن يتناكحا، كالآباء والأمهات، والإخوة والأخواتِ، والأجدادِ والجدَّاتِ وإن علو، والأولاد وأولادهم وإن نزلوا، والأعمامِ والعمَّاتِ والأخوالِ والخالاتِ.
وأما الرَّحِمُ غير المحرَّم: فهم من عدا ذلك كبناتِ الأعمامِ وبناتِ العمَّاتِ، وبناتِ الأخوالِ، ونحوهم.
حكمُ صلةِ الرَّحم: قال القرطبي: (اتفقت الملَّة على أن صلةَ الرَّحم واجبة، وأن قطيعتها محرَّمة) [1]
معنى صلة الأرحام: قال النووي رحمه الله: (هي الإحسان إلى الأقارب على حَسَب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك).[2]
وقال المناوي رحمه الله: (صِلةُ الرَّحم، مشاركة القرابة في الخيراتِ) [3]
وقال ابن الأثير رحمه الله: (الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والعطف عليهم والرفق والرعاية لأحوالهم، وكذلك أن بعدوا أو أساءوا، وقطع الرحم ضد ذلك كله.[4]
وقال السَفاريني نقلا عن البَلْبَاني ما نصُّه: (المراد بصلة الرحم: موالاتهم ومحبتهم أكثر من غيرهم لأجل قرابتهم، وتأكيد المبادرة إلى صلحهم عند عداواتهم، والاجتهاد في إيصالهم كفايتهم بطيب نفس عند فَقْرهم، والإسراعُ إلى مساعدتهم ومعاونتهم عند حاجتهم، ومراعاة جبر خاطرهم مع التعطَّف التَّلَطُّف بهم، وتقديمهم في إجابة دعواتهم، والتواضع معهم في غناهُ وفقرهم، وقوَّتِه وضَعفهم، ومداومة مودَّتهم ونصحهم في كل شؤونهم، والبداءة بهم في الدعوة والضيافة قبل غيرهم، وإيثارهم في الصدقة والهديةُ والإحسان على من سواهم).[5]
فضائلُ صلةِ الرَّحم في الدنيا والآخرة:
1- أنها تقوِّي الروابطَ الأسريَّة بين الأقارب:عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا من أنسابكم ما تَصِلُون به أرحامكم، فإن صِلة الرَّحم مَحبّة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر)، [6]
وروى ابن قتيبة في عيون الأخبار عن عمر رضي الله عنه قال: (مروا الأقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا). [7]
قال الزبيدي شارحًا قول عمر رضي الله عنه: (أي يزور بعضهم بعضًا رغبًا، فإن ذلك يورث الألفة والمحبة، وقوله: (ولا يتجاوروا) أي لا يُساكنُوا في محل واحد، وإنما قال ذلك لأنَّ التجاوُر يُوجبُ التزاحم في الحقوق، وربَّما يُورثُ الوحشة، وترفَعُ الحُرْمَة والهَيبَة، فيفضي إلى قطيعة الرحم والتدابر)، .[8]
ولأن صلة الرَّحم تُقِّوي العلاقات الأُسرَيَّة، فهي مدعاة لحُبِّ الأقارب وعطفهم وإيثارهم.
2- أنها توسع في الأرزاق، وتزيد في الأعمار:
فعن أبي هريرة قال:: سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول: (مَنْ سَرَّه أن يبسط له في رزقِه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه).[9]
وزيادة العمر في الحديث زيادة حقيقية، وهي بالنسبة لعلم الموكَّل بالعُمُر، وإما ما ورد في قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾[النحل:61]، فهو بالنسبة لعلم الله تعالى، فيكون معنى الحديث: إنَّ التأخير يكون أثرُهُ المكتوب في صحف الملائكة، وأما أثره المعلوم عند الله فلا تقديم فيه ولا تأخير.
3- ومن فوائد صلة الرحم: أن الله يصل من وصلها: أي يصله بالخير والرضا والمعونة على كل مطلوب محبوب:
وفي صحيح البخاري في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرَّحم شَجْنَة من الرَّحمن، قال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته). [10]
3- أن صلة الرَّحم سَبَبّ لدخول الجنة: فعن أبي أيوب رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال القوم، مالَه، مالَه، فقال رسول الله: أرَبٌ مالَه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرَّحم) متفق عليه، وكفى بهذا فضلا مرغبًا في صلة الرحم.
5- صلة الرَّحم فيها طاعة لله تعالى وتحصيل لمرضاته لأنه أمر بصلة الرَّحم.
6- صلة الرحم فيها زيادة لأجر الواصل في الدنيا وبعد موته، لأن أرحامه يدعون له كما ذكروا صلته لهم.
الأسباب المعينة على صلة الرحم:
1- الإخلاص في هذه العبادة: أن تكون الصلة قربة لله تعالى خالصة لوجهه.
2- الاستعانة بالله تعالى وطلبُ التوفيق منه والثبات.
3- التفكر في فضائل وثمرات صلة الرحم، وكذلك عواقب قطع الأرحام.
4- مقابلة إساءة الأقارب بالإحسان وهذا مما يبقى الودّ والعَهَدَ بين الأقارب، ويُهوِّنُ على الإنسان ما يلقَاه من جفاء الأقارب، فعن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ قال: (لئن كنت كما تقول، فكأنما تسفهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دُمْتَ على ذلك) .[11]
قال النووي في شرحه: (وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه.
وقيل معناه: إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم، لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم، وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالملَّ يحرق أحشاءهم، والله أعلم.[12]
ومما يحسن فعله مع الأقارب: أن يقبل الإنسان أعذارهم إذا أخطأوا واعتذروا كما فعل يوسف عليه السلام.
قال تعالى: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:92].
5- ومما يُعين على الصلة: بذل المستطاع لهم من الخدمة بالنفس أو الجاه أو المال، وأن لا يمن عليهم ويطالبهم بالمثل، فالوا صل ليس بالمكافئ.
6- ترك التكلف مع الأقارب ورفع الحرج عنهم وتجنب الشدّة في عتابهم.
7- تحمل عتابهم، وحمل كلامهم على أحسن المحامل وحسن الظن بهم، فإذا عاتبه أحد أرحامه وأغلظ عليه لتقصيره في حقه لم يجاريه في عتابه، بل يتلطف به، ويشكره ويعتذر له حتى يهدأ، لأن من الناس من لا يستطع التعبير عن حبه إلا بكثرة اللوم والعتاب.
8- الاعتدال في المزاح مع الأرحام، وتجنب الخصام، والجدال العقيم معهم، فإذا شعر بأن أحد أرحامه قد حمل في نفسه عليه فليبادر إلى الهدية، فالهدية تجلب المودة.
9- أن يستحضر الإنسان أن أرحامه لحمة منه، فلابد له منهم، ولا فكاك له عنهم فيصبر عليهم.
10- تدوين أسماء الأرحام إذا كثروا، وأرقام هواتفهم للتواصل معهم، ونصحهم، وصلتهم.
11- أن يسعى إلى إصلاح ذات البين إذا فسدت بين بعضهم، وأن تكون لهم لقاءات شهرية تعين على الصلة.
12- تعجيل قسمة الميراث بين الأقارب حتى يأخذ كل واحد نصيبه، لئلا تكثر المطالبات والخصومات، وأن يكتبوا ما يتفقون عليه، فإذا كانت هذه حالهم أيس الشيطان منهم، وسادت المحبة والصلة بينهم.
عقوبة قطيعة الرحم في الدنيا والآخرة:
1- إن عقوبة قطيعة الرحم معجلة في الدنيا، عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من ذنب أجدر أن يُعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)[13].
2- أن قطيعة الرحم تحرم قاطعها بركة الرزق وطول العمر؛ لأن صلة الرحم سبب لبسط الرزق وطول العمر، وضده قطيعة الرحم.
قال ابن حجر في الفتح قال الطيبي: (إن الله يبقى أثر واصل الرحم طويلا، فلا يضمحل سريعًا، كما يضمحل أثر قاطع الرحم). وهذا يكون للقاطع بحرمانه من بركة الرزق وطول العمر. [14]
3- أن قاطع الرحم عاص لله تعالى، مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، إن مات عليها بغير توبة، فحكمه حكم مرتكب الكبيرة وهو على خطر عظيم.
4- أن قاطع الرحم يدخر له العذاب يوم القيامة إن لم تتداركه رحمة الله تعالى، ودليله الحديث عن أبي بكرة في العقوبة الأولى.
5- أن قطيعة الرحم سبب لمنع دخول الجنة:-
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة قاطع، قال سفيان قاطع رحم) [15]
قال النووي في شرحه: هذا الحديث يتأوَّل تأويلين:-
أحدهما: حمله على من يستحل القطيعة بلا سبب ولا شبهة مع علمه بتحريمها، فهذا كافر يخلد في النار، ولا يدخل الجنة أبدًا.
الثاني: معناه: (لا يدخلها في أول الأمر مع السابقين، بل يعاقب بتأخره القدر الذي يريده الله تعالى) [16]
أسباب قطيعة الرحم:
1- الجهل بالحكم الشرعي لقطيعة الرحم والجهل بعواقب القطيعة في الدنيا والآخرة، وكذلك الجهل بحكم صلة الرحم، وأنه من الواجبات والجهل بفضائل صلة الرحم في الدنيا والآخرة.
2- ضعف التقوى وضعف الاستقامة على الدين وتضييع الواجبات كالصلة وكذلك عمل المعاصي كقطع الأرحام.
3- الكبر: فبعض الناس إذا نال منصبًا أو جاهًا أو مالاً، تكبر على أرحامه فقطعهم.
4- الانقطاع الطويل فترة طويلة عن الأقارب فوجدت الوحشة منهم، فيبدأ بالتسويف بالزيارة، فيتمادى به الأمر إلى القطيعة بالكلية، فيعتاد القطيعة فيصير قاطعًا لرحمه.
5- العتاب الشديد واللوم والتصريح من بعض الأقارب بعد طول انقطاع، فتحصل النفرة منهم والهيبة من المجيء إليهم، خوفًا من شدة عتابهم فيقطعهم.
6- التكلف الزائد أكثر من اللازم، فيخسر الأموال الطائلة، يجهد نفسه في إكرامهم فوق استطاعته، فلا يصله أرحامه خوفًا من إيقاعه في الحرج والمشقة.
7- قلة الاهتمام بالأرحام الزائرين والشح والبخل معهم مما يقلل زيارتهم حتى تحصل القطيعة.
8- تأخير قسمة الميراث وكل يريد حقه، فيحصل الاختلاف وتشيع العداوة والبغضاء بين الأقارب وتكثر المشكلات فتحل الفرقة وتسود القطيعة.
9- الشراكة بين الأقارب في مشروع أو تجارة دون الاتفاق على أسس ثابتة وعقود موثقة فإذا ما اتسع العمل وزاد الإنتاج، ودب الخلاف وحدث سوء الظن، وساءت العلاقة وحلت الفرقة وربما وصل الأمر إلى الخصومات في المحاكم، فيحصل التقاطع بين الأرحام.
قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:24].
10- الاشتغال بالدنيا واللهث وراء حطامها، فلا يجد وقتًا لصلة أرحامه فتحصل القطيعة.
11- المشكلات العائلية ومنها الطلاق بين الأقارب سبب لقطيعة الرحم.
12- بعد المسافة والتكاسل عن الزيارة عند البعض.
13- قلة تحمل الأقارب والصبر عليهم وعلى أذاهم وعلى زلاتهم.
14- الحسد والغيبة والنميمة وسوء الخلق وكثرة المزاح، أسباب لقطيعة الأرحام.
فعلى المسلم أن يتجنب هذه الأسباب التي تؤدي إلى قطيعة الرحم، ويبادر إلى معالجتها فورًا.
أقسام صلة الرحم:
الصلة الواجبة الصلة المستحبة، صلة الرحم الفاسق، صلة ذي الرحم الكافر.
1- الرحم الواجب صلتها ويحرم أن تقطع: وهي كل رحم محرم كالأجداد والجدات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والإخوة والأخوات، وهذا هو المشهور عند الحنفية وقول عند المالكية وقول عند الحنابلة، واستدلوا بحديث النهي عن الجمع في الزواج بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها عند أصحاب السنن الأربعة.
قالوا: علة النهي عدم حصول القطيعة بين المرأة وعمتها بسبب الغيرة بين الضرائر، مما يدل على أن الرحم التي يجب أن توصل ويحرم قطعها من الرحم المحرم، وأما غير المحرم فلا يجب صلتها لجواز أن يجمع بين بنتي العم وبنتي الخالة.
وهو ما أشار إليه القرافي من قول الطرطوشي المالكي رحمهما الله كما في كتاب الفروق.[17]
2- الرحم المستحب صلتها ويكره أن تقطع وهي كل رحم غير محرم كأبناء الأعمام وأبناء العمات وأبناء الأخوال وأبناء الخالات.
وتستحب صلتهم لعموم النصوص الواردة في الحث على صلة الرحم
قال القاضي عياض رحمه الله: (الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، فأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام، ويختلف باختلاف القدرة والحاجة، فمنها واجب ومنها مستحب، فلو وصل بعض الصلة لم يسم قاطعا، ولو قصر عما يقدر عليه لم يسم واصلا).[18]
3- صلة الرحم الفاسق: الفاسق: من خرج عن طاعة الله بارتكاب كبيرة أو بالإصرار على صغيرة.
ذو الرحم الفاسق: إذا كان مجاهرًا بفسقه وفجوره داعيًا لذلك، فلا يجامل في ذلك، بل يهجر ويقطع ولا يوصل، ويعتبر هذا من أجل القربات عند الله تعالى إلا إن كان في مداراته وإتقانه درء مفسدة أو جلب منفعة، استحب صلته بحسب الحاجة.
وقد انبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن يتألفه ثم قال عنه (بئس أخو العشيرة) ثم قال: (إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) .[19]
وهذه الصلة لهذا الفاسق المهاجر الداعية للمعصية لمداراته واتقاء شره دون الانبساط إليه والتوسع في مجالسته أو المشاركة في منكراته فإن ذلك محرم كله.
أما الثاني: ذو الرحم الفاسق المستتر بفسقه وبدعته، فهذا يعامل معاملة المسلم مستور الحال، وتجب صلته ومناصحته، فإذا دل الدليل على صلة المشرك والكافر غير المعادي فصلة ذي الرحم الفاسق المستور واجبة من باب أولى.
قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأَصِل أمي؟ قال: (نعم صلي أمك).[20]
فتجب صلة ذي الرحم الفاسق المستور إلا إذا كان في مقاطعته زجر له عن الفسق وحمل له على الطاعة فلا يحرم.
4- صلة ذي الرحم الكافر
وهو قسمان: الكافر المعادي والكافر المسالم وبينهما فرق والله فرق بين الكافرين في العذاب حيث جعل النار دركات فينغي مراعاة هذه الفروق.
أما صلة ذي الرحم الكافر المعادي للإسلام المحارب المقاتل للمسلمين فلا تجوز، وتجب مقاطعته، ولا يوصل إلا من باب المداراة و اتقاء شره.
فنوح عليه السلام دعا على قومه المحاربين للدين وفيهم أرحامه ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح:26].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين)[21].
فقد دلت النصوص على أن الأصل في القريب الكافر المعادي أن يقاطع ولا يوصل إلا في بعض الحالات، كاتقاء شره ومداراته درء لمفسدة أو جلب لمنفعة شرعية.
وأما صلة ذي الرحم الكافر المسالم، فلم يمنع الشارع الحكيم من صلته والإحسان إليه إذا كان لتأليف قلبه للإسلام.
قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة:8]،
قال ابن حجر رحمه الله: (أن صلة الرحم الكافر ينبغي تقييدها بما إذا آنس منه رجوعًا عن الكفر، أو رجا أن يخرج من صلبه مسلم).[22]
أحوال الناس في صلة الرحم: من هو الواصل ومن هو المكافئ ومن هو القاطع؟
1- الواصل لرحمه: عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (.. لكن الواصل هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها). [23]
ضابط الواصل للرحم:
أن تكون صلته لأجل الله تعالى، يصلها تقربًا إلى الله وامتثالا لأمره، أما إذا كانت الصلة مكافأة وردًا للجميل، فإنها ليست بصلة، كمن يهدي مقابل الهدية، ويزور من زاره ويهجر ويقاطع من لم يزره.
2- المكافئ هو الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير فيصل من وصله ويقطع من قطعه ودليله حديث (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل هو الذي إذا قطعت رحمه وصلهما) [24]
قال العيني في شرحه (معناه ليس الواصل رحمه الذي يصلهم مكافأة لهم على صلة تقدمت منهم إليه، فكافأهم عليها بصلة مثلها..).[25]
3- القاطع: هو الذي يقطع من وصله من أرحامه ومن غيرهم.
أن يقطع الرحم الواجب صلتها من غير عذر شرعي، وأن يكون ذلك بما عرف في الشرع والعرف أنه قطيعة كالإساءة إلى أرحامه، وعدم الإحسان إليهم، وعقوقهم، ونحو ذلك. وقد تكون الإساءة إليهم بالقول أو الفعل من ضرب وشتم وهجر وعبادة.
وسائل صلة الرحم: الصلة بالأفعال والصلة بالمقال، والصلة ببذل المال والصلة بوسائل الاتصال الحديثة.
أ :الصلة بالأفعال:
1- الصلة بالزيارة وتعتبر من أهم وسائل صلة الرحم، وهي قصد المرور إكراما له واستئناسًا له.
قال النووي وهو يعدد وسائل الصلة: (فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك) [26]
وقال الدمياطي: (وتكون صلة الرحم بالمال وقضاء الحوائج والزيارة والمكاتبة والمراسلة بالسلام ونحو ذلك) [27]
قال العثيمين: (وصلة الأقارب بما جرى به العرف واتبعه الناس لأنه لم يبين في الكتاب ولا السنة نوعها ولا جنسها ولا مقدارها... ولذلك يرجع فيها للعرف فما جرى به العرف أنه صلة فهو الصلة، وما تعارف عليه الناس أنه قطيعة، فهو قطيعة) [28]
2- الصلة بإجابة الدعوة إلى الطعام وغيره إذا كانت الدعوة مشروعة، والإجابة حق من حقوق المسلم وخاصة دعوة وليمة العرس فهي واجبة على كل مسلم مدعو إليها بعينه ولا يكون فيها منكر.
قال ابن قدامة: (إنما تجب الإجابة على من عين بالدعوة، بأن يدعو رجلا بعينه أو جماعة معينين) .[29]
وقال أيضًا: (إذا دعي إلى وليمة فيها معصية كالخمر والزمر والعود ونحوه، وأمكنه الإنكار لزمه الحضور والإنكار، لأنه يؤدي فرضين: إجابة أخيه المسلم وإزالة المنكر، وإن لم يقدر على الإنكار لم يحضر)، .[30]
وإذا كان من أرحامه يكون قد أدى فرضًا ثالثًا وهو صلة الرحم.
3- الصلة بعيادة المريض وهي فرض كفاية على الراجح لأنها من حق المسلم وللأمر بها الذي يدل على الوجوب الكفائي لحديث ابن عمر وأن رجلا جاء إليهم وهم جلوس مع رسول الله ثم سأله رسول الله (يا أخا الأنصار، كيف أخي سعد بن عبادة) فقال: صالح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يعوده منكم) ، حيث لم يأمرهم رسول الله بعيادة سعد، بل جعل الخيار لمن شاء بقوله: (من يعوده منكم).[31]
4- الصلة باتباع الجنازة: وهو السير مع الجنازة، والراجح أن اتباع الجنازة فرض لغاية وخاصة إذا كان الميت قريبًا، أو جارًا، لورود الأمر باتباعها ولورود نصوص خاصة تفيد تقديم القريب ذوي الأرحام والجار على غيرهما من عامة المسلمين.
فينبغي على المسلم أن يحرص على تشييع الجنائز وأن يخرج مع أرحامه ويشارك معهم فإن ذلك من الصلة.
5- ومن الصلة بالأفعال: الصلة بإصلاح ذات البين أي المصالحة بين المتخاصمين بإزالة أسباب الخصام أو بالتسامح والعفو أو التراضي على وجه من الوجوه المشروعة، والنصوص كثيرة في الأمر بذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى: قال: إصلاح ذات البين) .[32]
6- الصلة بالمشاركة في الأفراح والمواساة في الأحزان: وذلك بزيارة ذوي الأرحام ومساعدتهم بالخدمة والعون، وقد مر معنا: إجابة الدعوة في الأفراح واتباع الجنائز في الأحزان، وكذلك التهنئة في الأفراح والتسلية والعزاء في الأحزان، وغيرها من الأفعال التي تكون سببًا لصلة الرحم.
ب: الصلة بالأقوال:
1- الصلة بالسؤال عن ذوي الأرحام ومعرفة أخبارهم وأحوالهم وحمل همومهم، ومعرفة مطالبهم.
2- الصلة بدعوة ذوي الرحم وتعليمهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ونصيحتهم وإرشاد من كان متساهلاً منهم، فإذا كان هذا واجبًا تجاه عامة الناس فوجوبه تجاه الأقارب والأرحام أكثر.
3- الصلة بالدعاء لأقاربه وذوي رحمه، فإذا كانت دعوة المرء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مستجابة فكيف بدعائه لأرحامه وأقاربه فمن مظاهر صلة الرحم الدعاء للأرحام بالخير والصلاح والهداية.
قال ابن أبي جمرة: (تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه وبالدعاء)، .[33]
ج: الصلة ببذل المال:
1-الصلة بالنفقة وهي ما يجعل للقريب غيره من مال للطعام والكساء والفرش والخدمة والسكنى وغيرها. قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى﴾[البقرة:215]، والنفقة على الوالدين والأصول والفروع والزوجة واجبة، وسبب وجوبها أنها قرابة يحرم قطعها ويجب وصلها، ودلت الأدلة على وجوب النفقة على هؤلاء من الكتاب والسنة وكذلك الإجماع.
أما النفقة على الأرحام غير الأصول والفروع وهم الأخوة والأخوات ومن في حكمهم، فالراجح أنها لا تجب إلا بشرط منها أن يكون معسرا أو عاجزًا في الكسب، وأن يكون المنفق موسرًا غنيًا، وهذا من صلة الرحم.
3- ومن الصلة ببذل المال: الصلة بدفع الزكاة الواجبة والصدقة المستحبة، فالأرحام أولى من غيرهم في ذلك قال تعالى: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75].
وقال صلى الله عليه وسلم: (الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان، صدقة وصلة).[34]
فائدة: أجمع العلماء على عدم جواز دفع الزكاة للوالدين والأولاد والزوجة لأن نفقتهم واجبة بالاتفاق.[35]
فائدة: (يجوز للمرأة دفع الزكاة لزوجها على الراجح لإقرار عليه السلام لامرأة ابن مسعود).[36]
فائدة: يجوز دفع الزكاة بشروطها لبقية الأرحام كالأعمام والأخوال والإخوة وأبنائهم ذكورًا وإناثًا لعدم وجوب الإنفاق عليهم، لحديث (الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة).[37]
فائدة: (يجوز قضاء ديون الأقارب: جميعًا من الزكاة حتى وإن وجبت نفقتهم على المزكي).[38]
فائدة: الصلة بالصدقة أفضل ولو على القريب العدو لحديث: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) يضمر عداوته في باطنه. [39]
3- الصلة بالهدية والعطية والوصية والوقف، فإنها من وسائل صلة الأرحام ببذل المال لهم
د: الصلة بالوسائل الحديثة:
الهاتف أو الرسالة والانترنت وغيرها، وهي من أنفع وأسهل الوسائل في صلة الرحم خصوصًا إذا كانوا بعيدين لكنها لا تغني عن الصلة في بعض الحالات كعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة والمشاركة في الأفراح لكن وجود هذه الوسائل للصلة خير من القطيعة، قال ابن باز رحمه الله: (والواجب عليك صلة الرحم حسب الطاقة بالزيارة وبالمكاتبة والهاتف) .[40]
فالإمكان استخدام وسائل الاتصال كالرسائل الهاتفية والبريد الإلكتروني أو برنامج الماسنجر للمراسلات الفورية وصلة الأرحام.
وبذلك انتهينا من ذكر أحكام صلة الأرحام والحمد لله رب العالمين
إبراهيم عبد الله بن سيف المزروعي
[1] الجامع/ لأحكام القرآن (5/6).
[2] شرح صحيح مسلم (2/201)
[3] التوقف على مهمات التعاريف ص460
[4] ) النهاية (5/190).
[5] كتابه: غذاء الألباب (1/273)
[6] حم، ت، ك،السلسلة الصحيحة (276).
[7] (3/88)
[8] إتحاف السادة المتقين للزبيدي (7/284).
[9] متفق عليه
[10] (5642)
[11] أخرجه مسلم برقم (2558).
[12] شرح مسلم (16/115)
[13] حم . د ت، الصحيحة (918)
[14] (10/416)
[15] متفق عليه خ (5638) م (2556).
[18] ذكره النووي في شرح مسلم (16/113)
[19] رواه البخاري (6032).
[20] متفق عليه
[21] متفق عليه (5644)
[22] فتح الباري (10/421)
[23] البخاري (5645)
[24] خ(5645)
[25] شرح سنن أبي داود (6/455)
[29] المغني (7/213).
[30] المغني (7/213).
[31] أخرجه مسلم (925)
[32] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وهو في (تصحيح الترغيب 3/44).
[33] فتح الباري (10/418).
[34] رواه أحمد والترمذي والنسائي وهو في صحيح الجامع (3858).