أحكامُ الشتاءِ في السنة المطهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أمـا بعـد:
فهذا بحثٌ يحوي مسائل مهمة تتعلق ببعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالشتاء.
لم تَرِدْ كلمةُ الشتاءِ إلَّا مرةً واحدةً في سورةِ قريش:
قال الإمام مالك: (الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها)(1)، نقله أبو بكر بن العربي ثم قال: (والذي قال مالك أصح؛ لأجل قسمة الله الزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثاً ...)(2).
نزول المطر في الشتاء قد يكون رحمةً، وقد يكونُ عذاباً كما هو الواقع في العالم:
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ المَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الكَرَاهِيَةُ، فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ العَذَابَ، فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)(3).
وفى صحيح مسلم: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ، عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ، وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي»، وَيَقُولُ، إِذَا رَأَى الْمَطَرَ: «رَحْمَةٌ»)(4).
قال النووي في شرح مسلم: (وكان خوفه أن يُعاقبوا بعِصيان العُصاة، وسروره لزوال سبب الخوف)(5).
وسنذكر بعض الأحكام الشرعية في أبواب الطهارة والصلاة والمساجد والصيام والأذكار فقط:
(1) من باب الطهارة:
1- ماء المطر طاهرٌ في نفسِه مطهر لغيرِه: قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}[الفرقان:48].
2- الوضوء في البرد من الكفَّارات: قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثُ كفَّارات: انْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ، وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ)(6).
قال المناوي: (السبراتُ هي شدة البرد)(7).
وقال القرطبي: (أي تكميله وإيعابه مع شدة البرد، وألم الجسم، ونحوه)(8).
3- طين الشوارع: الأصل فيه الطهارة ولا يجب غسلُه من الثوب: في مصنف عبد الرازق عن عدة من التابعين: (أنهم كانوا يخوضون الماء والطين في المطر، ثم يدخلون المسجد فيصلون)(9).
4- المسح على الخفين والجوربين: كما ثبت ذلك في كثير من الأحاديث الصحيحة، وكذلك صحح الترمذي وابن حبان والألباني المسح على النعلين في الوضوء، وهي رخصةٌ، قال الألباني: (إذا عرفت هذا فلا يجوز التردد في قبول هذه الرخصة بعد ثبوتِ الحديث بها)(10).
(2) مِن باب الصلاة:
1- نزولُ المطرِ يجيزُ التخلفَ عن مسجدِ الجماعةِ للعذرِ وليس للوجوبِ:
صلاةُ الجماعةِ في المسجدِ واجبةٌ على الرجال لحديث: (مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ)(11).
والمطرُ عذرٌ قليل كان أو كثير: لحديث أسامة بن عمير قال: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَصَابَنَا مَطَرٌ لَمْ يَبُلَّ أَسَافِلَ نِعَالِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ: «صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ»)(12).
قال القرطبي في المفهِم بعد ذكر أحاديث الرخصة: (وظاهرها جوازُ التخلف عن الجماعة للمشقة اللاحقة من المطر والريح والبرد، وما في معنى ذلك مِن المشاقِّ المحرجة في الحضر والسفر)(13).
في صحيح مسلم عن جابر قال: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَمُطِرْنَا، فَقَالَ: «لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِي رَحْلِهِ»)(14).
وبوَّبَ ابن حبان قبله بقوله: (ذكرُ البيانِ بأن الأمر بالصلاة في الرحال لمن وصفنا أمر إباحة لا أمر عزم)(15).
2- الآذان في المطر أو البرد: ويقول المؤذن بدل حي على الصلاة: (صلوا في رحالكم)، أو يقول بعد الانتهاء من الأذان (صلوا في بيوتكم)، أو (رحالكم)، أو يقولها بعد الحيعلتين كما في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يومٍ مطير: (إِذَا قُلْتَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَلاَ تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قُلْ: «صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ»، فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا، قَالَ: فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي)(16).
وكما في الصحيحين عن نافع قال: أذن ابن عمر في ليلة ثم قال: (صلوا في رحالكم)، فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنا يؤذن ثم يقول على إثره: (أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ، أَوِ المَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ)(17).
ويجوز التخلف عن الجماعة حين العذر، سواء قال المؤذن: (صلوا في الرحال) أو لم يقل!.
3- مشروعيةُ الجمع بين الصلاتين في المطر وعند وجود حاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة:
والجمعُ رخصةٌ منوطةٌ بدفع الحرجِ والمشقةِ، والأخذ بها يرفعُ كثيراً من الحرجِ عن أناسٍ قد تضطرُّهم أعمالُهم أو ظروف قاهرة إلى الجمع بين الصلاتين، كالأطباء وغيرهم.
في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، فِي غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ)(18).
ورواه الإمام مالك في الموطأ(19) ثم قال: (أرى ذلك كان في مطر، ووافقه الشافعي وغيره)(20).
ولكن في مسلم، وأحمد، وأبي داود، والترمذي، والنسائي عن ابن عباس، وفيه: (مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ)، ورجحه ابن تيمية في الفتاوى (24/67) و (24/84)، وذكر أن العلة هي رفع الحرج عن الأمة.
وقال ابن المنذر: (ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار، لأن ابن عباس قد أخبر بأن العلة رفع الحرج)(21).
وقال النووي: (وذهب جماعةٌ من الأئمة إلى جواز الجمع في الحَضَرِ للحاجة لمن لا يتخذ عادة، وهو قول ابن سيرين، وأشهب من أصحاب مالك، وعن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر(22)، وكذا قال ابن حجر(23)، والزرقاني(24)، وكذلك يجوز الجمع بين الصلاتين بعذر المطر في الجماعة تقديما أو تأخيراً، وقال الخطابي: (وهو قول مالك والشافي وأحمد)(25).
ولا فرق بين المسجد القريب أو البعيد في جواز الجمع في المطر.
ولا يجمع بعذر المطر في البيت والمصلى: وإنما في المسجد فقط؛ لأن الخروج إليه مظنة المشقة، قاله الشافعي في الأم(26)، وهذا في عذر المطر والبرد والريح ونحوها، والجمع هنا لا يجوز إلا في جماعة لكونه عذراً عاماً، أما العذر الشخصي كالمرض والأذى والحرج الخاص ونحو ذلك فإنه جائز لكونه متعلقاً بالمشقة التي تلحق المصلي الفرد، والمرأة في هذا العذر كالرجل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْأَمْرُ الَّذِي يَخَافُ فَوْتَهُ فَلْيُصَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ، يَعْنِي الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ)(27).
4- صلاة السنن عند الجمع:
قال النووي رحمه الله: (والصواب الذي قاله المحققون: إنه يصلى سنة الظهر التي قبلها، ثم يصلى الظهر، ثم العصر، ثم سنة الظهر التي بعدها، ثم سنة العصر)(28).
ولا يُعترَض على هذا القول بما ورد في الأحاديث في النهي عن الصلاة بعد العصر: لأنها أحاديث مطلقة قيدتها أحاديث أخرى بأن النهي إنما في آخر وقت العصر قبل الغروب.
فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تُصَلُّوا بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَّا أَنْ تُصَلُّوا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ)(29)، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تُصَلُّوا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلا عِنْدَ غُرُوبِهَا فَإِنَّهَا تَطْلُعُ فِي قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَصَلُّوا بَيْنَ ذَلِكَ مَا شِئْتُمْ)(30).
قال الألباني: (وفى هذين الحديثين دليل على أن ما اشتُهِرَ في كتب الفقه من المنع عن الصلاة بعد العصر مطلقاً مخالف لصريح هذين الحديثين، وحجتهم في ذلك الأحاديث المعروفة في النهي بعد العصر مطلقاً، غير أن الحديثين المذكورين يقيدان تلك الأحاديث، فاعلمه)(31).
5- المسألة الخامسة في الصلاة: كيفية الأذان والإقامة عند الجمع:
قولان:
أ- ذهب الجمهور إلى أنه يؤذن أذان واحد، ويقام لكل صلاة إقامة خاصة بها: ودليلهم حديث جابر عند مسلم وفيه: (أنَّ النبيَ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم صَلَّى الصَلَاتينِ بعرفةَ بأذانٍ واحدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ)(32).
قال الشافعي في الأم: (وفيه الدلالة على أن كل من جمع بين صلاتين في وقت الأولى منهما أقام لكل واحدة منهما، وأذَّن للأولى، وفي الآخرة يقيم بلا أذان)(33).
ب- وخالف في ذلك المالكية: واستدلوا بما ورد في البخاري عن أبي مسعود: (أنَّهُ أمرَ رَجُلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثمَّ صَلَّىْ المغرِبَ، ثمَّ أَمَرَ رَجُلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ)(34).
قال ابن القيم: (والصحيح الأخذ بحديث جابر، وهو الجمع بينهما بأذان وإقامتين)(35)، وقال عن أمر ابن مسعود أنَّه موقوفٌ عليه مِن فِعْلِهِ، والمرفوع خلافه).
6- 7: تغطية الفم في الصلاة، والسدل في الصلاة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنَّ النبيَ صلى اللهُ عليه وسلَّم نَهَى عَنِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ)(36).
وتغطية الفم: هي التلثم، ويكون غالباً من شدة البرد في الشتاء، وقد يُفعل في الصيف.
والسدلُ: قال ابن الأثير في النهاية(37): (هو أن يلتحف بثوبه، ويُدخِل يديه من داخل، ويركع ويسجد وهو كذلك، وهذا مطَّردٌ في القميص وغيره من الثياب)(38)، أي: وضع الملابس كالمعطف ونحوه على الكتفين دون إدخال الأيدي في الأكمام، ويستثني السدل في البرد الشديد: كما روى أبو داود بسندٍ صحيحٍ من حديث وائل بن حجر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلك، قال في آخره: (ثُمَّ جِئْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَرَأَيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمْ جُلُّ الثِّيَابِ تَحَرَّكُ أَيْدِيهِمْ تَحْتَ الثِّيَابِ)(39).
8- صلاة الاستسقاء: وهو طلب السُقيا: في الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ)(40).
قال النووي: (أجمع العلماء على أن الاستسقاء سنة)، ثم قال: (فيه استحباب الخروج للاستسقاء إلى الصحراء)(41).
تبدأ بخطبة واحدة: لما ثبت في حديث عائشة عند أبي داود والطحاوي، وصححه ابن حبان والحاكم: (ثم يدعو في نهاية الخطبة ويحول الخطيب رداءه عند استقبال القبلة وإرادة الدعاء).
كذلك فإن تحويل الرداء يكون للناس أيضا: كما هو للأمام وهذا مذهب الجمهور، بل قال ابن عبد البر في الاستذكار: (ولا أعلم خلافا أن يحول الناس وهم جلوس)(42)، واستدلوا بما رواه أحمد عن عبد الله بن زيد بلفظ: (وحول الناس معه)(43) ولكن حكم الألباني على هذه الزيادة بالشذوذ(44).
عن أنس: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى، فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ)(45)
والسنة في تحويل الرداء: (جعل ما على الأيمن على الأيسر وعكسه).
وهو قول الجمهور: كما ذكره ابن عبد البر في الاستذكار(46) وذكره ابن باز في تعليقه على فتح الباري(47)
ثم يصلى ركعتين كصلاة العيد: كما رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
ويجهر في صلاة الاستسقاء: كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن زيد(48)، ولم يصح تعيين سور معينة في صلاة الاستسقاء(49)، وليس لها وقت معين يخرج فيه ولكن لا تفعل في أوقات النهى لعموم الأدلة(50).
ويجوز الاستسقاء في خطبة الجمعة ولها أحكام خاصة:
قال البخاري في صحيحه: (كتاب الاستسقاء / باب 7) (بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الجُمُعَةِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ القِبْلَةِ) ثم ذكر حديث أنس: (أنَّ رجُلاً دخل المسجد يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب، فاستقبل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله هَلَكَتْ الأموال ... فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: (اللهم أغثنا)(51).
قال ابن حجر: (وفيه إدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر ولا تحويل فيه ولا استقبال، والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء)(52).
فائــدة: (في دعاء الاستسقاء صح رفع الأيدي في الدعاء للإمام والمأمومين؛ لذلك بوَّب البخاري بقوله: (باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء (21).
وليس من السنة رفع اليدين بالدعاء في خطبة الجمعة كما قال النووي(53)، وعزاه إلى مالك والشافعية وغيرهم، وهو الصحيح: لما ثبت عن مسلم عن عمارة بن رؤيبة قال: (لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة … أي يوم الجمعة)(54).
ويؤيده حديث أنس في الصحيحين قال: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ)(55)، والحديثان يدلان على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء، وأنه بدعة(56).
(3) من باب المساجد:
1- قطع الصفوف بسبب المدفأة: قال الشيخ الألباني في الصحيحة: عند كلامه على مسألة الصلاة بين السواري وقطع الصفوف: (ومثل ذلك في قطع الصف، المدافئ التي توضع في بعض المساجد وضعاً يترتب منه قطع الصف دون أن ينتبه لهذا المحذور إمام المسجد والمصلون)(57)
2- الفوضى الناشئة عن الجمع وعدمه: بسبب اختلاف الناس في الجمع وعدمه، والمساجد لها حرمة ومهابة ومكانة ولا يجوز رفع الصوت فيها، والإمام هو سيد الموقف، وهو الذي يتحمل مسؤولية فعله بينه وبين ربه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الْإِمَامُ ضَامِنٌ، فَإِنْ أَحْسَنَ فَلَهُ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءَ، يَعْنِي، فَعَلَيْهِ، وَلَا عَلَيْهِمْ)(58)، فمن رضي بجمعه فليجمع، ومن لم يرض يصلى بنية النفل أو ينصرف صامتا هادئاً.
(4) من باب الصوم:
1- اغتنام الصوم في أيام الشتاء: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ)(59).
2- حكم أكل البَرَدِ للصائم: عن أنس رضي الله عنه قال: (مُطِرْنَا بَرَدًا وَأَبُو طَلْحَةَ صَائِمٌ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُ، قِيلَ لَهُ: أَتَأْكُلُ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قَالَ: إِنَّمَا هَذَا بَرَكَةٌ) أي ليس طعاما ولا شرابا، وسنده صحيح كما قال ابن حزم ووافقه الألباني في الصحيحة(60).
ولكن اتفق العلماء على ترك العمل بفعل أبي طلحة: كما قال ابن رجب في شرح علل الترمذي(61)، وقال البزار في مسنده: (لا نعلم هذا الفعل إلا عن أبى طلحة)(62)، وقال ابن حزم في المحلَّى: (ومن الشواذ أن أبا طلحة كان يأكل البَرَدَ وهو صائم)(63).
(5) من باب الأذكار:
1- أذكار الاستسقاء: وهي كثيرة في كتب الأذكار، وأكثر الدعاء الاستغفار؛ لقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح 10 :11].
2- دعاء رؤية الريح: في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ، قَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ)(64) وهناك أدعية أخرى لرؤية الريح في كتب الأذكار.
3- الدعاء عند رؤية السحاب والمطر: عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذَا رَأَى نَاشِئًا فِي أُفُقِ السَّمَاءِ تَرَكَ الْعَمَلَ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا» فَإِنْ مُطِرَ قَالَ: اللَّهُمَّ صَيِّبًا هَنِيئًا)(65) وفي رواية: (اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا)(66).
فوائـد أخـرى:
1- في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ)(67).
2- أن من غرق نتيجة الفيضانات والسيول في الشتاء أو غيره وكان على دين وصلاح وحُسن حال يرجى له الشهادة، كما هو نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ:... وَالغَرِيق)(68).
3- في البرد، لابد من الحذر الشديد من إبقاء المدافئ بأنواعها كافة مشتعلة حالة النوم، لما في ذلك من خطر الاحتراق أو الاختناق: لذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطفاء النار عند النوم، (إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ)(69).
وقال أيضاً: (لاَ تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ)(70).
قال ابن حجر في الفتح: ( قيَّدَه بالنوم لحصول الغفلة به غالباً، ويستنبط منه أنه متى وجدت الغفلة حصل النهى)(71).
4- تنبيه على بعض الأحاديث الضعيفة التي لها صلة بالموضوع:
(أ) ( الشتاء ربيع المؤمن): تفرَّد به عمرو بن دراج، قال أحمد: أحاديث دراج منكرة(72).
(ب) (لولا شباب خُشَّع، وشيوخ رُكَّع، وأطفال رُضَّع، وبهائم رُتَّع، لصب عليكم العذاب صبا) في إسنادِه إبراهيم بن خثيم بن عراك، تركه النسائي، وقال الساجي: (ضعيف ابن ضعيف).
(جـ) (اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب): قال الألباني في تمام المنة (صـ266): فيه إبراهيم بن يحي الأسلمي متروك متهم بالكذب).
(د) (اتقوا البرد فإنه قتل أخاكم أبا الدرداء): ودليل بطلانه أن أبا الدرداء مات بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره السخاويُّ في المقاصدِ الحسنة(73).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(1) تفسير القرطبي ( 20/207).
(2) أحكام القرآن ( 4/1982 ).
(3) رواه البخاري برقم: (4829)، واللفظ له: ومسلم برقم: (899).
(4) صحيح مسلم برقم (899).
(5) شرح النووي على مسلم: (2/500).
6() المعجم الأوسط للطبراني برقم (5754)، وهو في صحيح الجامع برقم (3045 ).
7() فيض القدير (3/307).
(8) المُفهِم (3/593).
(9) المصنف (93) و ( 96).
(10) تمام النصح (صـ83).
(11) مسند ابن الجعد (ص: 85) ورواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما، وصححه الألباني في إرواءِ الغليل برقم (551).
(12) رواه أحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وبَّوبَ عليه في صحيحه (43815) بقوله (ذكر البيان بأن حكم المطر القليل وإن لم يكن مؤذيا حكم الكثير المؤذي منه).
(13) المفهِم ( 3/1218).
(14) صحيح مسلم (698).
(15) صحيح ابن حبان برقم (43815).
(16) رواه البخاري برقم (901) ومسلم برقم (699).
(17) رواه البخاري برقم (623) ومسلم برقم (697).
(18) صحيح مسلم برقم (705)، وصححه ابن عبد البر في الاستذكار ( 6/24).
(19) الموطأ (1/144).
(20) المجموع (4/378).
(21) الأوسط (2/432).
(22) شرح مسلم (5/219).
(23) الفتح (2/24).
(24) شرح الموطأ (1/294).
(25) معالم السنن (1/264).
(26) الأم (1/95).
(27) سنن النسائي برقم (588)، وحسنه الألباني، وهو في صحيح الجامع برقم (487).
(28) روضة الطالبين (1/402).
(29) رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن حزم وابن حجر (4/63)، والألباني في الصحيحة برقم (1/561).
(30) رواه أبو يعلى برقم (348)، وحسنه الألباني في الصحيحة برقم (314).
(31) الصحيحة (1/561).
(32) صحيح مسلم برقم (1218).
(33) الأم (1/106).
(34) البخاري (1675).
(35) تهذيب السنن عون المعبود (5/405 -410).
(36) أبو داود والترمذي وأحمد، وصححه ابن خزيمة، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6880).
(37) النهاية ( 3/74).
(38) انظر الأوسط لابن المنذر (5/75)، والروضة الندية لصديق (1/82).
(39) صحيح سنن أبي داوود برقم (717).
(40) صحيح البخاري برقم (1012) ومسلم برقم (894).
(41) شرح مسلم (6/187).
(42) الاستذكار: (7/139).
(43) مسند أحمد (4/164).
(44) تمام المنة (صـ 264).
(45) رواه مسلم (895).
(46) الاستذكار (7/138).
(47) (1/498).
(48) صحيح البخاري (1024).
(49) تمام المنة (صـ264).
(50) المغني (2/432).
(51) البخاري برقم (1014).
(52) الفتح (2/506).
(53) شرح مسلم للنووي ( 2/471).
(54) مسلم (874).
(55) البخاري برقم (1031) ومسلم برقم (895).
(56) راجع نيل الأوطار للشوكاني (3/208) وعون المعبود (3/453)، والآثار عن السلف في إنكار رفع اليدين للدعاء على المنبر يوم الجمعة كثيرة –انظر مصنف ابن أبي شيبة (2/147 و 14/78).
(57) الصحيحة: (1-592).
(58) رواه ابن ماجة برقم (981)، وهو في السلسلة الصحيحة (1767).
(59) رواه أحمد برقم (18959)، وغيره، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (1922 )، وهو حسن لغيره.
(60) السلسلة الصحيحة (1/154).
(61) علل الترمذي (1/12).
(62) مسند البزار: (1/481).
(63) المحلَّى ( 6/255 – 258).
(64) صحيح مسلم برقم (899).
(65) سنن أبي داوود برقم (5099).
(66) صحيح البخاري برقم (1032).
(67) صحيح مسلم برقم (898).
(68) صحيح البخاري برقم (653) ومسلم برقم (1914).
(71) الفتح (11/85).
(72) راجع كتاب (الواهيات) لابن الجوزي (501).
(73) المقاصدِ الحسنة (19).