منهجُ السلفِ في تزكية النفوس
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خاتم النبيين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله. وبعد،،
إنَّ السلوك الصحيحَ وتزكيةَ النفوسِ من أعظم أمور الدين، حيثُ اهتمَّ سلفُنا الصالحُ بالسلوك الشرعي علماً وعملاً، ستأتي أعمالُهُم وأقوالُهُم أثناء هذا المقال، ومع شدَّةِ الحاجةِ إلى فقه السلوك وتزكيةِ النفوس علماً وعملاً فإننا لا نجدُ مَن يتكلَّم في هذا الموضوع إلا القليلَ من المحاضرين؛ ولأجل ذلك رغبتُ أن أسهمَ في هذا الموضوع بنصيب.
أهميةُ الموضوع:
تتجلَّى أهميةُ هذا الموضوع من خلال الأمورِ التالية:
1- اهتمَّ السلفُ الصالحُ بتزكية النفوس، واعتنوا بالأخلاق علماً وفقهاً، كما حقَّقوها عملاً وهدياً، فأفردوا كتباً مستقلةً في الزهد والرقائق، بل إنهم يوردون الصفات الأخلاقية في ثنايا كتب العقيدة :
* قال الإسماعيليُّ في اعتقاد أهل السنَّة (ت: 371 هـ ): ( يرون مجانبة البدعةِ والآثام والفخرِ والتكبُّرِ، ويرون كفَّ الأذى وتركَ الغيبةِ إلاّ لمَن أظهر بدعةً وهوىً يدعو إليهما، فالقولُ فيه ليس بغيبةٍ عندهم )([1]).
* ويقول شيخُ الإسلام أبو إسماعيل الصابونيُّ ( ت: 449 هـ ) في عقيدة السلف أهل الحديث: (يرون المسارعة إلى أداء الصلوات المكتوبات، ويتواصون بقيام الليل للصلاةِ بعد المنام، وبصلةِ الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعامِ الطعام… والبدارِ إلى فعلِ الخيرات أجمع، ويجانبون أهلَ البدع والضلالات … )([2]) .
* وقال قوّامُ السنّةِ إسماعيلُ الأصبهانيُّ (ت: 535هـ) في كتابه: الحجَّة في بيان المحجَّة: (ومن مذهب أهل السنَّةِ التورُّعُ في المأكل والمشارب، والتحرُّزُ من الفواحش والقبائح، ومجانبةُ أهل الأهواءِ والضلالة وهجرُهم، والمسابقةُ إلى فعل الخيرات، والإمساكُ عن الشبهاتِ )([3]) .
* وذكر ابنُ تيمية جملةً من الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنّةِ، ومن ذلك قولُه: ( يأمرون بالصبر عند البلاء والشكرِ عند الرخاء، ويدعون إلى مكارمِ الأخلاق ومحاسن الأعمالِ، ويعتقدون معنى قولِه -صلى الله عليه وسلم-: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهُم خُلُقًا، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها )([4]) .
فالسلفُ الصالح اهتمُّوا بهذا الموضوع، ونحنُ أتباعهُم كذلك يجب أن نَهتَمَّ بتزكية النفوس .
2- وممَّا يُبيِّنُ أهميةَ الموضوع أن هناك تلازمًا بين السلوك والاعتقاد: فالسلوك الظاهرُ مرتبطٌ بالاعتقادِ الباطن، فأيُّ انحرافٍ في الأخلاقِ إنما هو من نقص الإيمان الباطن، قال ابنُ تيمية -رحمه الله-: ( إذا نقصت الأعمالُ الظاهرةُ الواجبةُ، كانَ ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلا يُتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تُعدم الأعمالُ الظاهرةُ الواجبةُ )([5]) ، ويقول الشاطبيُّ رحمه الله: ( الأعمالُ الظاهرةُ في الشرع دليلٌ على ما في الباطن، فإذا كان الظاهرُ منخرماً أو مستقيماً حُكم على الباطن بذلك )([6]) ، فالسلوكُ والاعتقادُ متلازمان، كذلك فإن من الأخلاقِ والسلوك ما هو من شُعَبِ الإيمان .
3- وتأتي أهمية الموضوع إذا علمنا: ما يترتبُ على تحقيقِ الجانبِ الخُلُقي من الأجر الكثير والثوابِ الجزيل، قال الله تعالى: ﴿... أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ ١٣٣ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ ...١٣٤﴾ [ آل عمران 133 :134] ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: " أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهُم خُلقاً"([7]). وقال أيضًا: " إنَّ المؤمنَ ليُدركُ بحُسنِ خلُقه درجات الصائمِ القائمِ "([8]) ، وقال: "ما من شيءٍ يُوضعُ في الميزان أثقلُ من حسن الخُلُق "([9]) ، وقال ابنُ القيِّم: (الدِّينُ كلُّه خُلُقٌ، فمَن زادَ عليك في الخُلُقِ زادَ عليك في الدِّين )([10]) .
فمن أجل هذه الأمور نتكلَّم في هذا الموضوع.
معالمُ في منهج السلوك والأخلاق عند السلف:
1- إنّ مصدر تلقي السلوك والأخلاق عند السلف الصالح هو الكتابُ والسنّة؛ لأنَّهم أهلُ اتباع، قال اللهُ تعالى: ﴿... وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ ٨٩﴾ [النحل:89]، ومن ذلك الأخلاقُ، قال ابنُ تيمية: ( مسائلُ السلوكِ من جنس مسائل العقائد، كلُّها منصوصةٌ في الكتاب والسنّةِ )([11]) ، ولا يُؤخذُ السلوكُ من الخيالات أو القياسات أو الآراءِ والمنامات كما عند الصوفية، قال ابنُ القيِّم: ( مَن أحالكَ على غيرِ (أخبرَنا) و(حدَّثنا ) فقد أحالكَ إمَّا على خيالٍ صوفيٍّ، أو قياسٍ فلسفيٍّ، أو رأيٍ نفسيٍّ، فليس بعد القرآن و( أخبرَنا ) و(حدَّثنا) إلاّ شبهاتُ المتكلمين، وآراءُ المنحرفين، وخيالاتُ المتصوفين، وقياسُ المتفلسفين، ومَن فارقَ الدليل ضلَّ عن سواءِ السبيل، ولا دليلَ إلى الله والجنّةِ سوى الكتابُ والسنّة )([12]) .
فلا بد من الدليل على السلوك والأخلاق، ولا يجوزُ ابتداعُ طرقٍ لتزكية النفوس غير الطرق الشرعية.
2- من معالم السلف في السلوك: موافقةُ النصوص الشرعيةِ لفظاً ومعنى؛ فيتأدبون مع المصطلحات الشرعية الدينية، ويستمسكون بألفاظها ومعانيها، ويحقِّقُون حدودَها وتعريفاتِها علماً وعملاً، قال ابنُ تيمية رحمه الله: ( الألفاظ التي جاء بها الكتابُ والسنّةُ علينا أن نتبّع ما دلَّت عليه مثل: لفظ الإيمان والتقوى والإحسان والتوكل والحب لله )([13]) ، وقال أيضاً: ( وأما الألفاظُ التي ليست في الكتاب والسنّة، ولا توافَقَ السلف على نفيها أو إثباتها، فهذه ليس على أحدٍ أن يوافقَ مَن نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنًى يوافقُ خبرَ الرسول أقرَّ به، وإن أراد بها معنًى يخالفُ خبرَ الرسولِ أنكره )([14]) ، إنَّ أربابَ الطرقِ الصوفيةِ قد أحدثُوا ألفاظاً مجملةً في السلوك كالتصوفِ والغناء والفقر ونَحوها، وهذه الألفاظُ عموماً لا تخلو من مخالفاتٍ للكتاب والسنّةِ، إضافةً إلى ما فيها من التكلُّفِ الشديد، والتعقيد في الألفاظ والمعاني ) ، قال ابنُ تيمية رحمه الله: ( لفظُ الفقر والزهدُ والتصوفِ قد أُدخل فيها أمورٌ يحبُّها الله ورسولُه كالتوبة والصبر والشكر، وقد أُدخلَ فيها أمورٌ يكرهها اللهُ ورسولُه كالحلول والاتحادِ والرهبنةِ المُبتدَعةِ )([15]) ، والإمامُ الشاطبيُّ رحمه الله ذكر المعاني الصحيحةَ والفاسدةَ للتصوف في كتاب الاعتصام. ([16])
3- ومن معالم السلوكِ الشرعي : مراعاةُ تفاوتِ قدراتِ الناس في فعل الطاعات؛ وذلك بسبب اختلاف استعداداتهم، قال الإمامُ مالكٌ -رحمه الله-: ( إنّ الله قسَّم الأعمالَ كما قسَّم الأرزاق، فَرُبَّ رجُلٍ فُتح له في الصلاة، ولم يُفتَح له في الصوم، وآخرُ فُتح له في الصدقةِ ولم يُفتَح له في الصوم، وآخرُ فُتح له في الجهادِ، فنشرُ العلم من أفضلِ أعمال البِرِّ، وقد رضيتُ بما فُتحَ لي فيه، أرجو أن يكون كِلانا على خيرٍ وبرٍّ )([17]) . وقال ابنُ القيِّم رحمه الله: ( من الناس مَن يكونُ سيِّد عمله وطريقُة الذي يُعدُّ سلوكَه إلى الله طريق العلم والتعليم؛ حتى يصل إلى الله، ومن الناسِ مَن يكونُ سيِّد عملهِ الذكر، وقد جعله زادَه لمعاده، ورأسَ ماله لما له ، ومن الناس مَن يكونُ سيِّد عمله وطريقُة الصلاة، ومنهم مَن يكون طريقُه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكرباتِ وأنواعِ الصدقات، ومنهُم الواصلُ إلى الله من كلِّ طريق، قد ضرب مع كلِّ فريقٍ بسهمٍ، فأين كانت العبوديةُ وجدْتَه هناك، إن كانَ علمٌ وجدتَه مع أهله، أو جهادٌ وجدتَه في صفِّ المجاهدين، أو صلاةٌ وجدتَه في القانتين، أو ذكرٌ وجدتَه في الذاكرين، أو إحسانٌ ونفعٌ وجدتَه في زمرة المحسنين، لو قيل له: ما تريدُ من الأعمال؟ لقال: أريدُ أن أُنْفِذَ أوامرَ ربي حيثُ كانت )([18]) ، وهذا الصنفُ الذي ذكره ابنُ القيم هم الصِّدِّيقون، وخيرُهُم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " مَنْ أصبح منُكم اليومَ صائماً؟ قال أبو بكر: أنا ، قال: فمَن تبع منكم اليومَ جنازةً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمَن أطعم منكم اليومَ مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمَن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله: ما اجتمعْنَ في امرئٍ إلَّا دخلَ الجنّةَ "([19]) .
وأهم الصفات الأخلاقية عند السلف الصالح تزكيةُ النفوس:
في زحمةِ الحياةِ وكثرة المشاغلِ وتعدّد المتطلَّبات قد ننسى أن نتعاهد أنفسَنا بالتربية والتزكيةِ؛ ومن ثمَّ تقسو القلوب، ونتثاقلُ عن الباقياتِ الصالحاتِ، ونركنُ إلى متاع الدنيا، ولأجل ذلك نتحدَّثُ عن تزكيةِ النفوس من خلال النقاط التالية:
أ-أهمية الموضوع
ب- معنى التزكية
جـ – وسائل تزكية النفس
أ – أهمية الموضوع: ممَّا يدلُّ على أهمية موضوع (تزكية النفس) أن الله تعالى أقسم أقساماً كثيرةً ومتواليةً على أن صلاحَ العبدِ وفلاحَه منوطٌ بتزكية نفسِه، فقال تعالى: ﴿وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩﴾ [الشمس 7 :9] ، وتزكيةُ النفوس سببُ الفوزِ بالدرجات العُلى، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ ٧٥ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ ٧٦﴾ [طه:75 : 76]
قال ابنُ كثير: ( أي؛ طهَّر نفسه من الدنسِ والخبَثِ والشركِ، وعبدَ اللهَ وحده لا شريك له )([20])، وكانَ من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: " اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكاَّها، أنت وليُّها ومولاها "([21]) ، فلا تزكيةَ إلا بتوفيق الله، قال تعالى: ﴿... بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٤٩﴾ [النساء:49]
ب-أما معنى التزكية: فهي إصلاحُ النفوسِ وتطهيرُها عن طريق العلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ، وفعلِ المأموراتِ وتركِ المحظورات .
جـ - وسائلُ تزكية النفس: لا بد أن نعلم أن تزكية النفوس عن طريق الشرع، فلا سبيل إلى تزكية النفوس إلا من طريق الرُّسلِ، قال ابنُ القيِّم رحمه الله: ( وتزكيةُ النفوس أصعبُ من علاج الأبدان وأشدُّ، فمَن زكَّى نفسه بالرياضةِ والمجاهدة والخلوةِ التي لم يجِئْ بها الرسل فهو كالمريضِ الذي يعالجُ نفسَه برأيِهِ، فالرسلُ أطباءُ القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم والتسليم لهم )([22]) ، ولا بد أن نعلم أنّ التزكيةَ فضلٌ من الله ورحمةٌ، لا تحصل للعبد إلاّ بمشيئة الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿... وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ أَبَدٗا وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٢١﴾ [النور:21]، وقال تعالى: ﴿... بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٤٩﴾ [النساء:49] ، ثم يأخذُ العبدُ بأسباب تزكية النفس .
وتزكيةُ النفوسِ تتحققُ بأمورٍ كثيرةٍ منها:
1- التوحيدُ : وهم أعظمُ وآكدُ طريقٍ إلى تزكية النفوس، فالتوحيدُ زكاةٌ ، حيثُ يُنَمِّي ثوابَ الأعمالِ الصالحةِ ويباركُ فيها، فإنَّ التوحيدَ إذا تمكَّن من طاعةٍ ما، وكانت هذه الطاعةُ خالصةً لوجه الله تعالى فإنَّ أجرها عظيمٌ، وثوابها جزيلٌ، أمَّا الشرك فهو محبطٌ لجميع القربات، وموجبٌ للخلود في نار جهنَّم، بل هو نجسٌ، ونجاسةُ الشرك ملازمةٌ لا تطهرّها المصائب المكفِّرةُ ولا الحسناتُ الماحية، ولا تزكو النفسُ بسائر أنواع العبادات حتى تزكو بالتوحيد أولاً، وهو الإيمانُ بالله وملائكتِه وكتُبه ورسُلِه واليومِ الآخرِ والقدرِ خيرِه وشرِّه، فكلَّما قويَ الإيمانُ بذلك زكت النفسُ واطمأنَّت، وأثمرت الثمارَ اليانعةَ.
2- الصلاةُ وفعلُ الواجبات والنوافل: وفي حديثُ الولي عنه -صلى الله عليه وسلم- قال : قال الله تعالى: "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممّا افترضتُه عليه"([23]) ، والصلاةُ أهم العبادات والواجبات بعد الشهادتين، فهي من أهم وسائل وأسبابِ تزكية النفوس، قال الله تعالى: ﴿... إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ٤٥﴾ [العنكبوت:45] ، وفي الحديث المتفق عليه: ( فذلك مَثَلُ الصلواتِ الخمس يمحُو اللهُ بهنَّ الخطايا ) ، فعملُ الصالحاتِ يطهِّر النفس ويُزكّيها من الذنوب السابقة، ومن تلك الأعمال بعد الصلاة: الصدقةُ قال الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٠٣﴾ [التوبة:103] ، فالعملُ الصالح يحصلُ به التطهيرُ والتزكية، وكذلك جميعُ الطاعات من واجبات ونوافل تكون وسائلَ لتزكية النفوس .
3- ومن وسائل تزكية النفس تركُ المحرَّمات عموماً: قال ابنُ تيمية رحمه الله: ( النفسُ والأعمالُ لا تزكو حتى يُزالَ عنها ما يناقضُها، ولا يكونُ الرجلُ متزكياً إلاّ مع ترك الشرِّ، فإنَّه يُدنِّسُ النفس ويُدسِّيها، قال ابنُ قتيبة: دسَّاها أي: أخفاها بالفجور والمعصية )([24]) ، فالابتعادُ عن المحرَّمات كبيرةٍ أو صغيرةٍ يؤدِّي إلى تزكية النفس، قال تعالى: ﴿قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ ٣٠﴾ [النور:30] ، وارتكابُ المحرَّماتِ والمعاصي يؤدي إلى موت القلب فلا تتزكى النفس.
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ *** وقد يورثُ الذلَّ إدمانُها
وتــركُ الذنوب حياةُ القلوب *** وخيرٌ لنفســك عصيانُهـا
4- ومن وسائل تزكية النفس محاسبةُ النفس: قال ابن القيمّ -رحمه الله-: ( زكاةُ النفس وطهارتُها موقوفةٌ على محاسبتها، فلا تزكو ولا تطهُر ولا تصلحُ البتَّةَ إلا بمحاسبتها، قال الحسنُ -رحمه الله-: إنّ المؤمنَ لا تراهُ إلا قائماً على نفسِه؛ ما أردتِ بكلمةِ كذا؟ ما أردتِ بأكلة كذا؟ ما أردتِ بمدخلِ كذا ومخرج كذا؟ ما أردتِ بهذا؟ ما لي ولهذا؟ واللهِ لا أعودُ إلى هذا، ونحو هذا من الكلام، فمحاسبةُ النفسِ يُطلعُ على عيوبها ونقائصِه ، فيمكنُه السعيُ في إصلاحها )([25]) ، ثم قال أيضاً: ( وأخير ما على المكلَّفِ الإهمالُ، وتركُ المحاسبةِ والاسترسال، وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُها؛ فإنَّ هذا يؤولُ به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرورِ، يُغمضُ عينَه عن العواقب، ويتَّكلُ على العفو؛ فيهملُ محاسبةَ نفسِه والنظرَ في العاقبةِ، وإذا فعلَ ذلك سهُل عليه مواقعةُ الذنوب وأنِسَ بها، وعَسُر عليها فطامُها )([26]) ، قال ميمونُ بنُ مهران رحمه الله: ( لا يكونُ الرجلُ من المتقين حتى يحاسبَ نفسَه أشدَّ من محاسبةِ شريكهِ، حتى يعلمَ من أين مطعمُه، ومن أين ملبسُه، ومن أين مشربُه؛ أمِنْ حلالٍ ذلك أم من حرامٍ. )([27]) .
5- ومن وسائل تزكية النفس الحرص على التأدُّب بآداب وأخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
6- ومنها طلبُ العلم الشرعي، والعملُ به، والدعوةُ إليه، والصبرُ على الدعوة.
7- ومنها مجاهدة النفسِ والهوى والشيطانِ والدنيا، والزهدُ فيها .
8- ومنها التوبةُ والاستغفارُ إلى الله من كلِّ ذنبٍ في كلِّ وقتٍ .
9- ومنها الرفقة الصالحةُ ومصاحبةُ الأخيار .
10- ومنها الحذر: الحذرُ من أمراض النفوس كالعُجب والغرور والكبرِ وغيرها .
11- ومنها الصبرُ بأنواعه: على الطاعة، وعلى البلاءِ، وعن المعصية .
والخلاصةُ أن تزكية النفس سببٌ للفوز بالجنّة.
وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
([1]) اعتقاد أهل السنة: (53)
([2]) عقيدة السلف أهل الحديث: (97)
([3]) الحجة في بيان المحجة: (2/ 528)
([4]) العقيدة الواسطية: (172)
([5]) الفتاوى: (7/ 582، 616، 621)
([6]) الموافقات: (1/ 233)
([7]) سنن أبي داود: (4682) ، كذلك رواه أحمد والترمذي.
([8]) صحيح أبي داود: (4798)
([9]) صحيح الترمذي: (2003) ، كذلك رواه أحمد وأبو داود.
([10]) مدارج السالكين: (2/307)
([11]) الفتاوى: (19/273)
([12]) مدارج السالكين: (2/468)
([13]) الفتاوى: (11/25)
([14]) الفتاوى: (12/114)
([15]) الفتاوى: (11/28)
([16]) الاعتصام: (1/265)
([17]) سير أعلام النبلاء: (8/114)
([18]) طريق الهجرتين: (178)، مدارج السالكين: (3/17، 1/88)
([19]) صحيح مسلم: (1028)
([20]) تفسير ابن كثير: (3/156)
([21]) صحيح مسلم: (2722)
([22]) مدارج السالكين: (3/315)
([23]) صحيح البخاري: (6502)
([24]) الفتاوى: (10/188، 10/629)
([25]) مدارج السالكين: (2/510)
([26]) إغاثة اللهفان: (1/136)
([27]) حلية الأولياء: (4/89)