الرقيـــة الشرعيـــة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
مقدّمـة: لا شك أن الإنسـان في هذه الحياة عرضـةٌ للأخطار والأمراض والحوادث ، قال تعالى [ لقد خلقنا الإنسان في كبد ] سورة البلد آية (4) أي في نصب وشدّةٍ يكابدُ مصائب الدنيا وشدائد الآخرة، ومع ذلك لا يصيُبه منها إلاّ ما كتبه الله عليه ، وقد تُخطئه بعض الأخطار بالأسباب التالية:
1- لطف الله بعبده ورحمتِه إياه وفضله عليه .
2- حفظِ العبدِ لربِّه فيحفظه اللهُ تعلى (احفظ الله يحفظك) .
3- التعرّف على الله في الرخاءِ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فيعرفه الله عزّ وجلّ في الشدّة وفي الحديث (تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة) .
4- التقرّبُ إلى الله تعالى بالصدقاتِ فإنَّ الصدقة تدفع البلاءَ بإذن الله تعالى .
5- الإكثار من الأوراد والأذكار المستمدّةِ من الكتاب والسنّةِ.
6- الالتجاءُ إلى الله والتعلّقُ به واعتقاد أنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وأن النفع والضرَّ بيد الله تعالى وأن الأمَّة لو اجتمعوا على أن يضرّوه لم يضرّوه إلاّ بشيءٍ قد كتبه الله عليه .
فهذا كله من أسباب الطمأنينة النفسية والسلامة من الآفات والأخطار ، فإذا وقع البلاءُ على العبدِ فيشرع له الأخذ بأسباب زواله فما أنزل اللهُ داءً إلاّ وأنزل له دواءً علمه من علمه وجهله من جهله.
وأهم الأسباب لإزالة كثيرٍ من البلاء الرقيةُ الشرعيةُ ، فما هو تعريفُ الرقية وصفتُها وشروطها وأدلّتها من الكتاب والسنّةِ ، وما هي القواعد والضوابط الشرعيةِ للرقية؟
(1) تعريف الرقيـة : قال ابنُ منظور في لسان العرب (3/499) (الرقيةُ: العوذةُ والمعاذاتُ والتعويذُ يُرقى بها الإنسانُ من فزع أو خوفٍ ، يقالُ عوّذتُ فلاناً بالله وأسمائه إذا قلتُ: (أعيذك بالله وأسمائه من كلِّ ذي شرٍّ) . فالرقية ُهو العوذةُ أي الالتجاء والاعتصام . والرقية هي التعويذةُ بقراءةِ كلماتِ على المصابِ رجاءَ البُرءِ وتُسمَّى العزائم.
(2) صفـةُ الرقيـة : أن يقرأ القارئ على محل الألم عنده أو عند غيره ويضع يده اليمنى عليه ويمسح بها أو يقرأ في يده وينفث إثر القراءةِ نفثاً خالياً من البُزاقِ وكلُّ ذلك فعله رسولُ الله - ﷺ - وأقرّه .
(3) مشروعية الرقية : الرقى معروفةٌ للناس قبل الإسلام ، ونهى الشرعُ عنها في بدايةِ الإسلام ثم رخّص فيها ما لم يكن فيها شركٌ أو كلامٌ غير مفهومٌ .
- ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك - رضي الله عنهم - قال : ( كُنَّا نرقي في الجاهليةِ ، فقلنا : يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليَّ رُقاكُم ، لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شركٌ).
- وروى مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهم - قال: (نهى رسولُ الله - ﷺ - عن الرُّقَى فجاء آلُ عمرو بن حزم إلى رسول الله فقالوا: أنّه كانت عندنا رقيةٌ نرقي بها من العقرب ، وإنّك نهيت عن الرُّقى ، قال: عرضُوها عليه ، فقال: ما أرى بأساً من استطاع منكم أن ينفع أخاهُ فليفعل) شرح النووي لمسلم (14/186) .
- وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: (سألتُ عائشةَ عن الرقية ِمن الحُمةِ ، فقالت: رخّص النبيُّ - ﷺ - الرقية من كل ذي حُمةٍ) . قال ابنُ حجر في الفتح (10/205) (قوله: رخّص فيه إشارةٌ إلى أن النهيَ عن الرقيةِ كان متقدماً) وقال الخطابيُّ رحمه الله (الحُمةُ: كلُّ هامّةٍ ذاتِ سُمٍّ من حيّةٍ أو عقرب) وهكذا ثبتت مشروعيةُ الرقيةِ في الإسلام ، وتأتي أدلّةٌ أخرى قريباً .
(4) الرقية في القرآن الكريم : قال تعالى [ونُنزّلُ من القرآنِ ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ..] سورة الإسراء (82) . وقال تعالى [قل هو للذين آمنوا هُدىً وشفاءٌ] سورة فصلت (44) وانظر إلى كلمة شفاء ، ولم يقل دواء لأنها نتيجةٌ ظاهرةٌ ، أما الدواء فيحتمل أن يشفى وقد لا يشفي .
يقول ابنُ القيّم رحمه الله (فالقرآن هو الشفاءُ التّامُّ من جميع الأدواءِ القلبيةِ والبدنيةِ وأدواءِ الدنيا والآخرة ، وما كلُّ أحدٍ يؤهَّلُ ولا يوفّقُ للاستشفاء به ، وإذا أحسنَ العليلُ التداوي به ، ووضعه على دائه بصدقٍ وإيمانٍ وقبولٍ تامٍ واعتقادٍ جازم واستيفاء شروطه لم يقاومه الداءُ أبداً ، وكيف تقاوم الأدواءُ كلام ربِّ الأرضِ والسماءِ الذي لو نزل على الجبال لصدَّعها أو على الأرضِ لقطَّعها؟ فما من مرضٍ من أمراضِ القلوبِ والأبدانِ إلاّ وفي القرآنِ سبيلُ الدلالةِ على دوائه وسببه ، فمن لم يشفهِ القرآنُ فلا شفاهُ الله ومن لم يكفِه فلا كفاهُ الله) زاد المعاد لابن القيّم (4/352) .
فالقرآن علاجٌ للأمراضِ العضويةِ ، مثالُه أن الغالبَ في هذه الأمراض سببُها الشيطان لأنه له تحكّمٌ في جريانِ الدَّم لقول النبيِّ - ﷺ - ( إن الشيطانَ يجري من ابن آدم مجرى الدَّم) متفقٌ عليه ، فمن ذلك: الغضب وهو أساسٌ لأمراضٍ كثيرةٍ كالسكّر والقرحة المعديةِ والقولون العصبي والصداع والجلطةِ والسكتةِ الدماغية والشلل المفاجئ والذبحة الصدريةِ وأمراض القلب وغيرها ، والغضبُ من الشيطان حتى قال تعالى [واذكر عبدنا أيُّوبَ إذْ نادى ربَّه أنِّي مسنيَ الشيطانُ بنُصب وعذاب]سورة ص (41) ، وكذلك مرض عدم انتظام الدورة (الحيض) والنزيف الشديد سببُه الشيطان لذلك قال رسول الله - ﷺ - لحمنة بنت جحش رضى الله عنها عندما سألته وقالت: كنتُ استحاضُ حيضةً شديدة فقال: (إنما هي ركضةٌ من ركضات الشيطان) صحيح سنن الترمذي (128) ، وكذلك مرضُ الشلل ، فالجنُّ يمسكُ الأعضاءَ المصابة فيوقفُ حركتها ، فإذا قُرء عليه القرآن غادر الجسمَ وشُفيَ المريضُ بإذن الله تعالى .
وهكذا الأمراض النفسية كانفصام الشخصية والوسوسة والإكتئاب وغيرها ، فالقرآنُ شفاءٌ للناس لجميع الأمراض بأنواعها ولذلك لمّا دخل رسولُ الله - ﷺ - على عائشة وامرأةٌ تُعالجها ، فقال: (عالجيها بكتاب الله) أخرجه ابنُ حبان في صحيحه (149) وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رحمه الله برقم (1931). وقد تمت معالجة كثيرٍ من الأمراض بالقرآن ، راجع تجارب ابن تيمية وابن القيِّم في زاد المعاد – كتاب الطب .
تنبيـه: لا يُفهم ممّا سبقَ تركُ الأسباب الدوائية كالذهاب إلى المشفيات للعلاج ، ولكن الأساس في علاج أيِّ مرض هو القرآن الكريم ، ويُضمُّ إليه السبب الدوائي ولذلك قال رسول الله - ﷺ - (لكل داءٍ دواءٌ ، فإذا أصاب الدواءُ الداءَ برئ بإذن الله عزّ وجلّ) رواه مسلم (14/191) وقال أيضاً (إن كان في شيء من أدويتكم خيرٌ ففي شرطةِ محجمٍ أو شربةِ عسل) رواه البخاري (7/159) .
- فائـدة : (عدمُ الرقية بالقرآنِ من أنواع هجرِ القرآن الكريم)
قال ابنُ القيِّم رحمه الله (أنواعُ هجر القرآنِ ، هجرُ سماعه والإيمان به والإصغاء إليه ، وهجرُ العملِ به والوقوفِ عند حلاله وحرامه ، وهجرُ تحكيمه والتحاكم إليه في أصولِ الدينِ وفروعِه ، وهجرُ تدبُّره وتفهَّمِه ومعرفةِ ما أراد المتكلِّم به منه ، وهجرُ الاستشفاء والتداوي به ، ثم قال رحمه الله : وكلُّ ذلك داخلٌ في قوله تعالى [وقال الرسولُ ياربِّ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً] سورة الفرقان (30) . وإن كانَ بعضُ الهجر أهون من بعضٍ) انتهى كلامه رحمه الله من كتابه الفوائد ص107.
- قال ابنُ حجر رحمه الله (قال ابنُ التين : الرُّقى بالمعوذاتِ وغيرها من أسماء الله ، هو الطبُّ الروحاني ، إذا كان على لسانِ الأبرار من الخلقِ حصل الشفاءُ بإذن الله تعالى ، فلمّا عزَّ هذا النوعُ ، فزع الناسُ إلى الطبِّ الجسماني وتلك الرُّقى المنهي عنها التي يستعملها المعزِّمُ وغيرُها ..) فتح الباري (10/195) .
(5) الرقيةُ في السنّةِ النبوية : وقد بيّن رسول الله - ﷺ - هذا الأمر لأن الناس يعرفونَ الرُّقى قبل الإسلام ورخّص فيها ما لم يكن فيه شركٌ ، فقال عليه الصلاة والسلام (اعرضوا عليَّ رقاكُم لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شركٌ) رواه مسلم ، بل رغّب عليه الصلاةُ والسـلام ُ في الرّقـى المشروعـةِ وقال: ( .. من استطاع منكم أن ينفع أخاهُ فليفعل) رواه مسلم. وقد علمنا عليه الصلاة والسلام أحكامَ الرُّقَى وأنواعَها وألفاظها ، ومن ذلك :
- عن عائشة رضي الله عنها قالت:( كانّ رسولُ الله - ﷺ - إذا اشتكى منَّا إنسانٌ (مسحَهُ بيمينه) ثم قال (أذهب البأسَ ، ربَّ الناس ، واشفِ أنتَ الشافي ، لا شفاءَ إلاّ شفاؤكَ ، شفاءً لا يغادرُ سُقماً) رواه مسلم (2191) .
- وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما : أنَّ النبيَّ - ﷺ - كان (يعوّذُ) الحسنَ والحسينَ (أعيذكما بكلماتِ الله التامّةِ من كلِّ شيطانٍ وهامّةٍ ، ومن كلِّ عينٍ لامَّةٍ) رواه البخاريُ – فتح الباري (6/292) .
- وعن عثمانَ بنٍ أبي العاصِ الثقفي - رضي الله عنهم - : أنه شكا إلى رسول الله - ﷺ - وجعاً يجده في جسده منذ أسلم فقال له رسول الله - ﷺ - (ضع يدَك) على الذي تألمُ من جسدك ، وقل باسم الله ثلاثاً ، وقل سبع مرّاتٍ: أعوذ باللهِ وقدرتهِ من شرِّ ما أجدُ وأحاذرُ) رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
- وعن أبي سعيد الخدريِّ - رضي الله عنهم - أن جبرائيل عليه السلام أتى النبيَّ - ﷺ - فقال يا محمد اشتكيتَ؟ قال : نعم، قال (بسم اللهِ أرقيكَ من كُلِّ شئٍّ يؤذيك ، ومن شرِّ كل نفسٍ أو عينٍ أو حاسدٍ ، اللهُ يشفيكَ ، بسم الله أرقيك) صحيح سنن ابن ماجه (2840) .
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت : أن رسول الله - ﷺ - كان (إذا اشتكى نفثَ على نفسه) بالمعوذاتِ، ومسح عنه بيده ، فلمّا اشتكى وجعه الذي توفي فيه ، طفقْتُ أنفُثُ على نفسه بالمعوذاتِ التي كانَ ينفثُ ، وأمسحُ بيدِ النبيِّ - ﷺ - عنه) متفق عليه – فتح الباري (8/131) .
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - ﷺ - (ما مسلمٍ يعودُ مسلماً فيقول سبع مرَّاتٍ: أسألُ اللهَ العظيمَ ربّ العرشِ العظيم ، أن يشفيكَ ، إلاّ شُفيَ إلاّ أن يكونَ قد حضر أجلُه) صحيح سنن الترمذي (1698) .
- وعن عبد العزيز بن صهيب رحمه الله قال : دخلتُ أنا وثابتٌ على أنس بن مالك - رضي الله عنهم - فقـال ثابت: يا أبا حمزةَ اشتكيتُ ، فقال أنسٌ : إلا أرقيك برقيةِ رسول الله - ﷺ - ، قال: بلى ، قال (اللهم ربَّ الناسِ مُذهبَ البأسِ ، أشف أنت الشافي ، لا شافي إلاّ أنت ، شفاءً لا يغادرُ سُقماً) رواه البخاري – فتح الباري (10/206) .
- وعن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنهم - أن رهطاً من أصحاب رسول الله - ﷺ - انطلقوا في سفرةٍ سافروها ، حتى نزلوا في حيٍّ من أحياءِ العربِ ، فاستضافوهم فأبوا أن يُضيفوهم ، فلُدغ سيّدُ ذلك الحيِّ ، فسعوا له بكل شيءٍ لا ينفعُه شيءٌ ، فقال بعضُهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذي نزلوا بكم ، لعّلهُ أن يكونَ عند بعضهم شيءٌ ، فأتوهم فقالوا : يا أيها الرهط إنّ سيِّدنا لُدغ فسعينا له بكل شيءٍ لا ينفعُه شيءٌ فهل عند أحدٍ منكم شيءٌ؟ فقال بعضهم : نعم واللهِ إنِّي لراقٍ ، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أن براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعلاً ، فصالحوهم على قطيعٍ من الغنـم ، فانطلق فجعل يتفلُ ويقرأ (الحمدُ لله رب العالمين) حتى لكأنّما نشط من عقالٍ ، فانطلق يمشي ما به قلبه ، قال فأوفاهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضُهم : اقسموا ، فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله ، فنذكُرَ له الذي كان ، فننظُرَ ما يأمرنا ، فقدموا على رسول الله - ﷺ - فذكروا له فقال : وما يدريكَ أنها رقية؟ أصبتُم ، أقسموا واضربوا لي معكم بسهمٍ) رواه البخاري – فتح الباري (10/208) ومسلمٌ (2201) وغيرهما .
الأحكامُ من الأحاديثِ :
- استحبابُ النفثِ والتفلِ في الرقية من الكتابِ والسُنّةِ .
- الالتزامُ بالرَّقى من الكتاب والسُنّةِ من حيثُ الصفةِ والعدد .
- استحبابُ وضع اليد اليُمنى على موضع الألم أو على المريضِ أو غيرهما عند الرقيةِ .
- عدم اختصاص الرقيةِ برجلٍ معيَّنٍ ، فأيُّ مسلمٍ له أن يرقي نفسَه أو غيرَه.
- الرقيةُ تنفع في غيرِ المسلمين لحديث أبي سعيدٍ في الملدوغ فقد جاء في روايةِ أبي داود والنسائي قول هؤلاء القومِ للصحابةِ (إنّا قد أنبئنا أنّكم قد جئتُم من عند هذا الرجلِ بخيرٍ ، فهل عندكم دواءٌ أو رقيةٌ ... الحديث).
- جـواز أخذ الأجـرة على الرقيـةِ لأن أبا سعيدٍ ومن معه أخذوا ثلاثيـن شـاةً ، ولقول النبيِّ - ﷺ - (إنّ أحقَّ ما أخذتُم عليه أجراً كتابُ الله) رواه البخاري عن ابن عباسٍ . فلوا أخذ الراقي أجراً فلا ينبغي استغلالُ الناسِ والمبالغةِ في الثمن .
- جواز النفث في الكفين بالقرآنِ للرقيةِ ثم مسح الوجه وبقيةِ الجسد لما رواه البخاريُّ عن عائشة أن رسول الله إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعاً ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده ...) فتح الباري (10/209) .
- جواز طلب الرقيةِ من الناس والأفضلُ عدم الاسترقاء لحديث (من اكتوى أو أسترقى فقد برئ من التوكُّل) رواه الترمذي ابن ماجه وهو في صحيحي سننهما وفي السلسلة الصحيحة رقم (244) وفيه كراهةُ الاكتواءِ والإسترقاءِ ولذلك كانّ من صفات الذين يدخلون الجنّـةَ بغير حسـاب أنهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربِّهم يتوكّلون كما في حديث ابن عباس في الصحيحين .
(6) شـروط الرقيـةُ : إذا رقيت نفسك أو غيرك أو رقاك غيرُك فالواجب اجتنابُ ما يلي:
1- أن لا تكون الرقيةُ رقيةً شركَّيةً : فالرقية إذا كانت فيها شركٌ بالله تعالى فهي محرَّمةٌ لقوله - ﷺ - ( لا بأس بالرّقى ما لم يكن فيه شركٌ) رواه مسلمٌ ، ومن ذلك الرقيةُ المشتملة على القسم بالمخلوقات كالشمس والملائكة والجن ونحو ذلك ، وكذلك الرقيةُ المشتملةُ على الاستغاثةُ بالمخلوقات فيما لا يقدر عليه إلاّ الله أو المشتملة على دعاء المخلوقاتِ من دون الله تعالى ليكشف أمراً لا يكشفه إلاّ الله تعالى. قال البغويُّ رحمه الله (والمنهيُ عنه من الرُّقى ما كانَ فيه شركٌ أو كان يذكر مردة الشياطين أو ما كان منهما بغير لسان العرب ولا يُدرى ما هو ..) شرح السُنّة (12/159) . وقال ابنُ تيمية رحمه الله (ولا يشرع الرُّقى بما لا يُعرفُ معناه لا سيَّما إن كانَ فيه شركٌ فإن ذلك محرمٌ ، وعامّةُ ما يقوله أهلُ العزائم فيه شركٌ ، وقد يقرءون من الشرك) الفتاوى لابن تيمية (12/159) .
2- أن لا تكون الرقيةُ رقيةٌ سحريةٌ : لأن السحر حرامٌ وكُفرٌ ، ولأن الساحر لا يُفلحُ مطلقاً ، ولا يجوز لمسلمٍ أن يأتي لساحرٍ ليرقيَه وذلك لما يأتي:
- لعدم جواز الذهاب للسحرة أصلاً لقوله - ﷺ - (اجتنبوا السبع الموبقات .. وذكر منها .. السحر) رواه البخاري – فتح الباري (10/198) .
- إن السحر ليس فيه نفع بوجه من الوجوه لقوله تعالى [ويتعلّمون ما يضرُّهم ولا ينفعهُم] سورة البقرة (102) .
- ولأن الساحرَ لا يُفلح حيث أتى كما قال الله تعالى ، وهذا إطلاقٌ ، ولو كان فيه فائدةٌ لأحدٍ لكان هذا نوعٌ من الفلاح .
- ولأن رسول الله - ﷺ - قد بيَّن بأن الله لم يجعل شفاءَ أمّتِه فيما حُرِّمَ عليها ، والسحرُ محرَّمٌ بالإجماع.
- وكذلك لا تجوز رقيةُ العرَّافِ والكاهنِ الذي يدّعيان علم الغيبِ لقوله - ﷺ - (من أتى عرَافاً أو كاهناً فصدّقه لما يقول ، فقد كفر بما أُنزل على محمد) رواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة وهو في صحيح الجامع الصغير (5939) .
3- أن لا تكون الرقيةُ بعباراتٍ غير مفهومةٍ : لأنها قد تكون شركاً . قال ابنُ حجرٍ رحمه الله (أجمع العلماء على أن من شروط الرقية أن تكون باللسان العربي أو بما يُعرفُ معناه من غير ..) فتح الباري (10/166) .
4- أن لا تكون الرقية بعباراتٍ محرمةٍ : كأن يتقصّد الرقيةَ حال كونه جُنُباً أو في مقبرةٍ أو حمَّامٍ أو حالةَ نظرهِ في النجوم وما شابه ذلك كتلطخه بالنجاساتِ أو كشفِ عورتِه لأن في هذا مشابهةٌ لحالِ السحَرَةِ والمشعوذين .
5- أن لا يظنَّ الرَّاقي والمرقي بأن الرقيةَ تستقلّ بالشفاء أو دفع مكروه بل بمشيئة الله تعالى وقدرتِه وتقديره ، فالرقية لا تؤثر بذاتها وإنما بأمر الله تعالى .
(7) قواعـدُ الرقيـةِ الشرعيـةِ :
1- الرقيةُ والعلاجُ بالقرآنِ والسُنّةِ تدل على عظمةِ الشريعة الإسلامية وكمالها وعلى فضل التمسُّك بأحكامِ الله تعالى وتعاليمه وأنّ في ذلك السلامة من الأخطار والأضرار ، والشفاءُ بإذن الله ممّا يحدث من الأمراض والعاهاتِ ابتلاءً وامتحاناً لبعض المؤمنين ليزيد إيمانُهم ويقينُهم ويتوكلّوا على ربِّهم في كل شؤونهم أو تحدث لبعض العصاةِ والمفسدين عقوبةً ونقمةً وتعجيلاً لنوع من العذاب لعلّهم يرجعون إلى أنفسهم ويحاسبونها على التقصير والإهمال ويعرفون أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه.
2- الإخلاصُ في الرقيةِ وكلِّ عملٍ : ويتفاضلُ الرقاةُ بالإخلاصِ وهو المقياسُ الحقيقي لقوَّة الرقيةِ فإذا انعقد همُّ الراقي في علاج مريضِه متوجهاً ومتضرِّعاً ومحتسباً للهِ جاعلاً نصبَ عينيه قول النبيِّ - ﷺ - ( من نفَّس عن أخيه كربةً ، نفَّس اللهُ بها عنه كربةً من كُربِ يوم القيامةِ) صحيح مسلم .
3- الإتّباعُ وعدمُ الإبتداع : مطلوبٌ من الراقي متابعة هدي النبيِّ - ﷺ - في العلاج ، وعدم التوسّع في مجال الرقى ومحاكاةِ بعض المشعوذين في طلاسمهم والاستعانةِ بالجنِّ ممّا يؤدِّي إلى الشركِ والرقيةُ عبادةٌ من العبادات لا بد فيها من الإخلاص والإتّباع .
4- أيها الراقي لا تنتظر الشكر أو الجزاء من أحد : وكذلك من عبـاد اللهِ الأبرارِ الذين يقولـون ]إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريدُ منكم جزاءً ولا شكوراً[ .
5- الرقيةُ دعوةٌ للمريضِ قبل أن تكون علاجاً : فعلى الراقي تنظيـمُ حياةِ المريضِ وربطُه بخالقِـه عزّ وجلّ وتذكيرُ التوبةَ الصادقةَ ، وعليه أن يزرع الثقةَ والأملَ في مريضه وأن ما أصابَهُ لم يكن ليخطئه وأن هذا المرض من الابتلاءِ وأن الله عزّ وجلّ هو الشافي وحده ، وأن الابتلاءَ سُنّة الله في خلقِه وهو سببٌ لتكفير الذنوب ورفع الدرجات ، وعليه أن يوصي مريضَه باغتنام وقته بذكر الله تعالى وتلاوةِ القرآنِ والصلاةِ فإن الصلاةَ راحةٌ للأبدانِ المتعبةِ ، وكم من المرض فشلت العقاقيرُ الطبية في علاجهم ، فلمّا اتّجهوا إلى الصلاةِ برأت عللُهُم وشفى اللهُ أمراضهم ولا سيَّما صلاة التهجُّـد .
(8) مسـألة : حكمُ التفرّغِ لأجلِ القراءةِ على الناسِ واتخاذِها حرفةً :
علمنا مشروعيةَ الرقيةِ بضوابطها الشرعيةِ ، وعلمنا إباحةَ الأجرةِ على الرقيةِ فما حكم التفرّغ لهذا العملِ والاشتهار به بين الناسِ واتخاذِه حرفةً؟
الجواب : ذكر أهلُ العلم كثيراً من المفاسد على القارئ والمقروءِ عليه يتبيّن الجواب وهذه بعضُ المفاسد :
1- انصرافُ ثقةِ الناسِ إلى القارئ وضعفُ ثقتهم بالمقروء .
2- إنّ انتشارَ هذه الظاهرةِ يوهمُ عوامَّ الناسِ بأن اللجوء إلى هؤلاء الراقين هي الطريقةُ الصحيحةُ للرقيةِ فتتعطّلُ سُنّةُ رقيةِ الأفراد لأنفسهم ، ولجوئهم إلى الله عزّ وجلّ وسؤالُه الشفاءَ.
3- إنّ المتفرّغ للرقيةِ على الناسِ فيه مشابهةٌ بالذي يتفرّغُ للدعاءِ للناس ، فالرقيةُ والدعاءُ من جنسٍ واحدٍ ، فهل يليقُ بطالب العلم أن يقول للناس تعالوا إليَّ أدعو لكم ، فهذا مخالفٌ لهدي السلف فقد كان عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنهم - وغيرُه يكرهون أن يطلب منهم الدعاءُ ويقولون أأنبياءُ نحنُ؟ .
4- بالنظرِ إلى سيرةِ النبيِّ - ﷺ - وسيرةِ أصحابه رضي الله عنهم ، وعلماءِ الإسلام رحمهم الله ، لم نر أحداً منهم انقطع عن أعماله وقصر نفسه على معالجةِ المرضى بالرقى واتخذها حرفةً ، وإنما كان المريضُ ولو كان الانقطاعُ لمعالجةِ المرض بالرّقي خيراً لسبقونا إليه.
5- قد يتوهم القارئُ الذي يزدحمُ الناسُ على بابه أنه من الأوليـاءِ الأبرار فيصيبُـه العُجبُ ويهلك ، وقد يقول على الله بغيرِ علمٍ فإذا قرأ على المريضِ قال : ليس فيك شيئٍ ، فيترك هذا المريضُ الأدعيـةَ النبويـة .
ممّا سبق يتبيّن لنا أنه لا ينبغي التفرّغُ للرقيةِ واتخاذُهـا حرفـةً .
وآخــر دعــوانا أن الحمــد لله رب العالميــن .