حكم الحج
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فمن المعلوم لدى كل مسلم أنّ الحج ركن من أركان الإسلام، لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم –: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللهُ، وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)([1]).
وهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب:
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَحَرْفُ ﴿عَلَى﴾ لِلْإِيجَابِ لَا سِيَّمَا إِذَا ذُكِرَ الْمُسْتَحِقُّ فَقِيلَ: لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ، وَقَدْ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97] لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ فَهُوَ كَافِرٌ»([2]).
ومن السنة:
قوله - صلى الله عليه وسلم –: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا)([3]).
وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم – على استعجال الحج والمبادرة إلى فعله، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (عَجِّلُوا الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ, فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ)([4]).
أما الإجماع على ذلك:
فقد أجمع العلماء على فرضيته لمن توفرت فيه الشروط، وممن نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن حزم، والنووي -رحمهم الله تعالى- ([5]).
قال ابن كثير: "وَقَدْ وَرَدَت الأحاديثُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِأَنَّهُ أحدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَدَعَائِمِهِ وَقَوَاعِدِهِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعًا ضَرُورِيًّا، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى المكلَّف فِي العُمْر مَرّة وَاحِدَةً بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ"([6]).
حكم من جحد وجوب الحج:
قال النووي -رحمه الله تعالى- "من جحد وجوب صومِ رمضان والزكاةِ أو الحجِ أو نحوها من واجبات الإسلام، أو جحد تحريمَ الزنا أو الخمرَ ونحوهما من المحرمات المجمع عليها؛ فإنْ كان مما اشتهر واشترك الخواص والعوام في معرفته .. فهو مرتد، وإنْ كان مُجمَعاً عليه لكن لا يعرفه إلا الخواص .. لم يَكفر بجحده، لأنه معذور بل نُعرِّفَه الصواب ليعتقده، هذا هو الصحيح في المسألة" ([7]).
الحج واجب في العُمُرِ مرةً واحدة
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: خَطَبَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم –، فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا)، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم –: (لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ)، ثُمَّ قَالَ: (ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ) رواه مسلم.
قال النووي -رحمه الله تعالى-: "وأجمعوا على أنه لا يجب الحج ولا العمرة في عمر الإنسان إلا مرة واحدة، إلا أن ينذر فيجب الوفاء بالنذر بشرطه"([8]).
يختلف حكمها بين أهل مكة وبين غيرهم من المدن والبلدان الأخرى.
أما حكمها على أهل مكة:
فالصحيح من أقوال العلماء أنها لا تجب عليهم، لأن العمرة معناها من الزيارة، والزيارة إنما تكون لمن ليس من أهل الـمَحَلّ، وأهل مكة هم أهل الـمَحَلّ، وهو مذهب الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم.
أما حكمها على غيرِ أهل مكة:
فالراجح في هذه المسألة وهو مذهب جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية وغيرهم أنها واجبة في العمر مرة واحدة، ومن جملة الأدلة على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ يا رسول الله، هل على النساء من جهاد؟ قال: (عَلَيْهِنَّ جِهَاد لَا قتال فِيهِ: الْحَج وَالْعمْرَة)([9])، وقوله "على" يدل على الإيجاب كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
هل يجب الحج على الفور أم على التراخي؟
إذا توفرت شروط الحج للمسلم ووجب فيه حقه أداءُ الحج؛ فهل عليه أن يحج فوراً في عامه ذاك، أم أنه يجوز له أن يؤخر متى شاء؟
الصحيح في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور العلماء من وجوب الفورية، وأنه يأثم بالتأخير، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم –: (تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ - يَعْنِي: الْفَرِيضَةَ - فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ)([10]).
وقد ثبت في الأثر عن عُمَر - رضي الله عنه - قال: « لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُونَ مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يَحُجَّ أَنْ يَضْرِبُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَاللَّهِ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، وَاللَّهِ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ»([11]).
مسألة: من كانت له قدرة مالية على الحج لكنه لا يستطيع أنْ يحج لعجزه بدَنِياً فهل يلزمه الحج؟
قسّم العلماء هذا العجز إلى قسمين:
عجز طارئ يُرجى زواله: فهذا تسقط عنه الفورية ما دام العجز باقياً.
وعجز مستمر لا يرجى زواله: كمن به مرض مزمن، أو كان يشق عليه الحج لكبر سنه، فإنه يجب عليه أن يُنيب من يحج عنه. لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: " أن امرأة خَثْعميةً سألت النبي - صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله، إن فريضةَ اللهِ على عبادِه في الحج، أدْركَتْ أبي شيخاً كبيراً لا يستطيعُ أن يثبتَ على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: (نعم) ، وذلك في حجة الوداع ([12]).
تنبيه:
يُشترط في النائب عن الحج أن يكون قد حج عن نفسه، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم – سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: (مَنْ شُبْرُمَةُ؟) قَالَ: أَخٌ لِي - أَوْ قَرِيبٌ لِي - قَالَ: (حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ)([13]).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتبه: علي سلمان الحمادي
16 من ذي القعدة 1438
([1]) رواه البخاري ومسلم.
([2]) شرح عمدة الفقه لابن تيمية من كتاب الطهارة والحج، (2/76).
([3]) رواه مسلم.
([4]) رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في السنن.
([5]) مراتب الإجماع لابن حزم (41)، الإجماع لابن المنذر (51)، وشرح النووي على مسلم (8/72).
([6]) تفسير ابن كثير (2/81).
([7]) المجموع شرح المهذب ط الإرشاد، (3/16).
([8]) شرح النووي على مسلم (8/72).
([9]) رواه أحمد وابن ماجه.
([10]) رواه أحمد وحسنه الألباني في الترغيب والإرواء.
([11]) الأربعون حديثا للآجري، قال المنذري: إسناده حسن، انظر: البدر المنير (6/39).
([12]) متفق عليه.
([13]) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، والحديث تكلم فيه بعض المحدثين وأعلوه بالوقف، وصحح الألباني رفعه في الإرواء (994).