خاطرة في [أحوال طلاب العلم في تحصيله]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد : الواحد من طلاب العلم أوطالباته يتساءل عن حاله في طلب العلم، ويتعجب من أمره، محدّثا نفسه: (أشعر مع طلبي للعلم؛ عدمَ التحصيل والفائدة).
وجواب هذا الإشكال- في نظري - يختلف باختلاف الطالبين للعلم. فهم على أصناف:
الصنف الأول: من يستعجل الثمرة ويتعجل الحصاد قبل أوانه والجنى قبل زمانه.
قال ابن مفلح رحمه الله :"قال الخلال في الأدب: كراهة العجَلة، ورُوي عن عبدالله بن أحمد: حدثني أبي، ثنا إسحاق بن عيسى الطباع، سمعت مالك بن أنس عاب العجَلة في الأمور". فحق من هذا حاله أن يستمر في العلم متدرجا فيه مثابرا في التحصيل، وبما أنه يسير على طريق صحيح فسوف يصل لغايته، ويبلغ مقصده.مستصحبا في طلبه آداب الطلب، ومراعيا المنهجية الصحيحة في التأصيل والتحصيل.
الصنف الثاني: من تنوع في الفنون، وخاض في العلوم، وحضر دروس العلم حضور ملازمٍ شغوف، وقطع في أبواب التفقه في الدين أزمنةً، وجال في تحصيلها أمكنةً. لكنه ضيع بوصلة التحصيل في طريقه؛ حين خبط في العلم خبط عشواء، فأكثر التنقّل، ولم يقرّ له قرار، فجهده كبير، ولكن تحصيله قليل يسير، وقد قال السلف :"من ثبت نبت". والنافع لهذا: أن يراجع نفسه، ويكمّل نقصه، فيراجع المختصرات، متدرجا فيها، مكملا لما فاته منها. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ، وَيُقَالُ الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ ".
الصنف الثالث: من غرته الأماني واستسهل الأمر، حتى ظن أن حصوله على الكتب يغنيه عن الحضور لمجالس العلم، وأن تملكه لمكتبات البحث الالكترونية تغنيه عن حفظ الدلائل وضبط المسائل. وغاية ما فعله هذا أنْ حمل العلم على الرفوف، أو في الأجهزة المحمولة بالكفوف. فمتى أراد معلومة أو فائدة نظر في جهازه أو كتبه، وجعل ذلك تحصيلا. والحق أنه ليس العلم بكثرة الكتب. فلا شك أن هذا غرور وأماني دون عمل وجهد. وقد قال غير واحد من السلف:" لا ينال العلم براحة الجسد". وكثير من هؤلاء يجهل بدهيات العلم التي يعرفها صغار الطلبة؛ مع غوصه في بعض دقائق العلم التي ينظرها المتقدمون في الطلب. فهذا يغتر بحاله، ولا يقر له علم ولا يستقيم له مسلك. فالمتعين على هذا حضور مجالس العلم والتصبّر في سبيل نيل العلوم وتحصيل الفنون، والتواضع للعلم فقد قيل :"لا يطلب العلم مستحٍ ولا متكبّر".
الصنف الرابع: وهو طالب العلم، الذي حسُنَ سيرُه في طلب العلم، واجتهد في التحصيل، وسلك مسالك العلماء في التلقي، وتدرج في الفنون بصغار كتبها قبل كبارها، لكنه يشعر بعدم الفائدة، وهذا الكلام عنه واسع، ولكن يمكن تلخيصه في ناحيتين. الأولى: أن ينظر في أمر تعبده، وعمله بالعلم، وبعده عن المزالق، مترفعا بنفسه عن قاذورات المعاصي، نائفا بها عن سفاسف الأمور.
الناحية الثانية: أن يراجع علمه بالنظر في مسائل كلّ فنٍ، وذلك بالاطلاع على فهارس الكتب، يقف عند كلّ عنوان، يختبر إدراكه للمسألة، ويمتحن نفسه في فهمها وضبطها، وهكذا حتى يمر على أبواب هذا الفن الذي درسه سابقا. وهذا من باب المراجعة وهو أحد سبل تثبيت العلم وضبطه. وقبل ذلك كله، فأهم ما يعتني به طالب العلم سؤال الله التوفيق والإعانة، وأن يُقبل على ربّه مستغفرا لذنبه، شاكرا لنعمه، صابرا على طاعته، فتلك عنوان السعادة والتوفيق. ولا شك أن كل ذلك يتحقق بتقوى الله؛ فهي سببٌ لكل خير. قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا).
قال ابن القيم رحمه الله :" وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب ، والبدن فـي الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا اللَّه. فمنها : حرمان العلم فإن العلم نور يقذفه اللَّه في القلب ، والمعصية تطفىء ذلك النور".
اللهم فقهنا في دينك، وأصلح نياتنا ياكريم.
كتبه د. محمد بن غالب العمري
8 شوال 1438هـ.