استدرك يا أخي ما قد فاتك في الدفاع عن دينكَ ووطنك، فقد فاتتك مواطنُ صالحة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،،، وبعد:
فإن للإسلام علينا حقّاً أن نذبّ عنه، وندافع عن حِماه كلّ مُعتدٍ يُريد أن يُشوه سماحته، أو يُلصق به ما ليس فيه من صور الإرهاب والعنف.
وإن لوطننا حقًّا علينا كذلك بالذّبِّ عنه، والدفاع ِعن حماه، أكّدته الفطرة والعقل وديننا الإسلامي أيضاً، بل ورتب عليه أجراً وثواباً عظيماً.
وهذا الدفاع كما يكون بالسيف والسنان؛ يكون بالقلم واللسان، وإنّا لنحمدُ الله تعالى أن سخّر من عباده من خاض غمار هذا الميدان -أعني: ميدان القلم واللسان- يُدافعُ عن دينه ووطنه ببسالة منقطعة النظير، يبذل فيه وقته وجهده، محتسباً الأجر من الله تعالى، لا يُريد رياء ولا سُمعة.
وإنّ خير ما نخاطب به ذوي العقول السليمة، والأقلام السيالة، الذين لا يزالون بين متردد عن الإقدام في الدفاع عن الدين والوطن، وبين محجمٍ يرى أنْ لا حاجة له أصلاً في اللحاق بهذا الركب؛ فلذا نوَجّه الخطاب والعتاب لمن كان هذا شأنه فنقول له:
"استدرك يا أخي ما قد فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة"
نعم، لقد فاتك من الخير العظيم، والأجر الكبير، الشيء الكثير، لأنّ الدفاع عن الدين والوطن، من خير المواطن التي تُبذل فيها الأوقات، ويُستنفذ فيها الجُهد.
وقف معي أخي الكريم مع هذه العبارة: "استدرك يا أخي ما قد فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة"، فقد كان لها شأنٌ عظيمٌ في إسلام سيف الله المسلول؛ خالد بن الوليد رضي الله عنه.
فإن الوليد بن الوليد رضي الله عنه - وهو أخو خالد - لـمّا دخل في الإسلام بعد غزوة بدر الكبرى، .. أراد لأخيه خالد بن الوليد أن يَدخل معه في الإسلام ويلحقَ بركب المسلمين، فقال له هذه العبارة: اسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، فَقَدْ فَاتَكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ.
وقد كان خالد بن الوليد رضي الله عنه قائداً من قادة الحرب عند قريش، فلما صالحَ النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً بالحديبية قال في نفسه: أَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ؟ أَيْنَ الْمَذْهَبُ؟
إِلَى النَّجَاشِيِّ؟ فَقَدِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا، وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ آمِنُونَ.
فَأَخْرُجُ إِلَى هِرَقْلَ؟ فَأَخْرُجُ مِنْ دِينِي إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ، فَأُقِيمُ فِي عَجَمٍ تَابِعًا.
أَو أُقِيمُ فِي دَارِي فِيمَنْ بَقِيَ؟
فكتبَ له أخوه الوليد كتاباً فقال فيه:
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَقْلُكَ عَقْلُكَ! وَمِثْلُ الْإِسْلَامِ جَهِلَهُ أَحَدٌ؟! وَقَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْكَ، وَقَالَ: (أَيْنَ خَالِدٌ؟) فَقُلْتُ: يَأْتِي اللَّهُ بِهِ.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الْإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَحَدَّهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ). فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، فَقَدْ فَاتَتكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ].
فنشط خالد رضي الله عنه للخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاده رغبة في الإسلام سُؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.
فلمّا عزم على الخروج قال في نفسه: مَنْ أُصَاحِبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فلقي فيمن لقي عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، قال فقلتُ: إِنَّ هَذَا لِي صَدِيقٌ، فَلَوْ ذَكَرْتُ لَهُ مَا أَرْجُو ..
فعرضَ عليه رَغبته في الإسلام، فَأَسْرَعَ عثمان الْإِجَابَةَ وَقَالَ: إِنِّي غَدَوْتُ الْيَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْدُوَ ..
فلمّا خرجا وجَدا في طريقها عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فسألهم عن سبب خروجهم فقالا: الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فقَالَ لهم: وَذَاكَ الَّذِي أَقْدَمَنِي -رضي الله عنهم.
فذهبوا جَمِيعًا حَتَّى دخلوا الْمَدِينَةَ.
قال خالد: فَأُخْبِرَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسُرَّ بِنَا، فَلَبِسْتُ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِي، ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَنِي أَخِي - الوليد - فَقَالَ: أَسْرِعْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُخْبِرَ بِكَ، فَسُرَّ بِقُدُومِكَ، وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ.
فَأَسْرَعْنَا الْمَشْيَ، فَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ يَتَبَسَّمُ إِلَيَّ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ.
فَقَالَ: (تَعَالَ).
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ، قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ).. ([1]).
فتأمل أخي الكريم حِرص الوليد بن الوليد على أخيه خالد رضي الله عنهما للدخول في الإسلام، وكذلك فليكن همك إرشاد إخوانك وهدايتهم لكل خير.
وتأمل موقف خالد رضي الله عنه، ومحاسبته لنفسه، واستماعه لصوت الحكمة والعقل، فإن الحقّ أبلج، وإن الباطل لجلج، فانقاد للحق البين، وترك ما كان عليه من باطل، فإن هذا الانقياد لا يزيد العبد إلا رِفعة وعلواً.
وتأمل فِعلَ خالد رضي الله عنه حين عرفَ الحقّ؛ حيث أراد لغيره الخيرَ فنَصَح عثمان بن طلحة فرافقه إلى ذلك الخير، ثم رافقا عمرو بن العاص رضي الله عنه، فإن الإنسان ضعيف بنفسه قويّ بإخوانه، فآزر كل منهم أخاه، وغدوا جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلموا فحسن إسلامهم، فكذلك كُن - أخي الكريم - انظر لمن حولك، وصاحب الأخيار، وتقوَّ بإخوانك، فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية.
أخي الكريم، يا مَن لا زلت مُحجماً عن الدفاع عن دينك ووطنك، بعد كل الحقائق التي تَكشّفت، وكل البراهين التي سطعت، سَلْ نفسك ما سأله خالد بن الوليد لنفسه: أيّ شيءٍ بقي؟ إلى أين المذهب؟
أما آن لقلمك أن يخط؟!
أما آن لصوتك أن يُسْمَع؟!
وأقول لك: دينكُ ووطنك في حاجةٍ إليك، ونهجُ الإمارات وسياسة قيادتها أنصعُ من البياض، فكان حقًّا على مثلك أن يحافظ على سُمعتها نقيةً من تشويه الحاسدين، سليمةً من تدنيس المرجفين، وتُثبت وقوفكَ مع قيادتكَ ووطنك فإن ذلك من أعظم مقاصد الشريعة، فإننا لم نرَ أعجبَ من عزوفك عن هذا الواجب رغم ما حباك الله به من عقل راجح، وقلمٍ سيّال! ومثلُ هذا الخير ما جهله أحدٌ حتى لا تزال تبقى في إحجام وتردد؟!
أينَ حقّ الإسلام عليك؟
أين حقّ وطنك عليك؟
فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، فَقَدْ فَاتَتكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ.
وكتبه: علي سلمان الحمادي
الثامن عشر من شهر رمضان عام 1438هـ
[1] القصة بتمامها أخرجها البيهقي في دلائل النبوة (4/349)، وابن كثير في البداية والنهاية ط هجر (6/ 405).