الأحكام الشرعية للرحلات البرية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
إن الإنسان حال سيره في هذه الحياة، وتقلبه في ليلها ونهارها، مطالبٌ بأن يحقق العبادة لله تعالى في محياه ومماته، وفي جميع أحواله، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163)﴾ [الأنعام: 162، 163] فالمسلم الموفق؛ مَن يحافظ على أوقاته، ويشغل وقتَ فراغه، بما ينفعه في الدين والدنيا، وبما يقربه من الله تعالى، فإن العبدَ مسؤول عن ذلك يوم القيامة قال ﷺ:( لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ) ([1]).
ولكن الإنسان ملول بطبعه، تسأمُ نفسه وتملُّ من رتابة الحياة "الروتين"، فيعتريها شيء من الفتور والكسل، فتشعر بحاجةٍ إلى ترويحها، والتغيير من حالها، بنزهة أو رحلة، يتجدد فيها النشاط، ويتبدد بها الكسل.
مشروعية الترفيه والترويح عن النفس
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32]. قال السعدي عند تفسيره لهذه الآية: "مَن هذا الذي يُقدم على تحريم ما أنعم الله به على العباد، ومن ذا الذي يضيق عليهم ما وسَّعه الله؟".
فإذا اقترن مع هذا الفعل نية صالحة، وخلت النّزهةُ من المعاصي والمنكرات، فإن الإنسان يؤجر عليها بإذن الله، ولهذا لما قال ﷺ: (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)، قَال الصحابة: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) (([2])
قال النووي رحمه الله: "وفي هذا دليل على أن المباحات تصيرُ طاعات بالنيات الصادقات" ([3]).
فإذا نوى المسلم بترويح النفس تقويتها وتجديد نشاطها لطاعة الله تعالى فإنه يثاب على هذا الفعل المباح، ولهذا قال معاذ رضي الله عنه: "إِنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي"، يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْوِي بِنَوْمِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْقِيَامِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، فَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ نَوْمِهِ كَمَا يَحْتَسِبُ ثَوَابَ قِيَامِهِ (([4])
وقد ثبت عن النبي ﷺ ما يدل على مشروعية الخروج إلى البادية ترفيها للنفس وإشغالاً لها بفضول المباحات، من ذلك قوله لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (إِنِّى أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ ..) رواه البخاري.
قال ابن عبد البر: فِيهِ إِبَاحَةُ لُزُومِ الْبَادِيَةِ وَاكْتِسَابِ الْغَنَمِ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُحِبَّ الغنم والبادية اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ ([5]).
ﷺ الخضرة";([6]).
ولا ينبغي أن يكون ذلك ديدن المرء وسجية وطبعا فيه، ﷺ يقول: (فأعط كل ذي حق حقه) ([7]).
وأول ما يبدأ به الإنسان: هو اختيار الرفقة الصالحة، لأن ميزان الإنسان أصدقاؤه ورفقاؤه، والمرء يعرف إن كان صالحاً أو طالحاً من خلال النوعية التي شاكلها، والصحبة التي سايرها، والنبي ﷺ يقول: (الرجلُ على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل) (([8]).
ولَمّا كان للصاحب أثر بالغ على صاحبه نهى النبي ﷺعن صحبة غير المؤمنين فقال: (لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِناً وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِىٌّ) (([9]).
إلى أن الترويح عن النفس والخروج في نزهة لا ينبغي أن يكون محصوراً مع أصحابك فقط، بل لابد من إعطاء الأهل والأبناء نصيباً من ذلك، فتجد الكثير من الشباب – هداهم الله – مع كل إجازة أو في كل نهاية أسبوع يخرج مع زملائه وأصدقائه، تاركاً خلفه أمّاً وأباً وأشقاء، أو زوجه وأبناءَ إن كان متزوجاً، والنبي ﷺ يقول: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي(، فلا تقيِّد منفعتك وخيرك على أصحابك وأحبابك وتهمل أهلك وأبناءك، فإنك مسؤول عنهم يوم القيامة.
الأمر الثاني::"أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" فإنه كما قال ﷺ: (لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) (([10]).
وليُعلم أنه لم يرد في ركوب البحر حديث يصح، والمشروع لمن ركب البحر أن يأتي بدعاء ركوب الدابة ودعاء السفر ، فهي أدعية عامة لكل راكب وكل مسافر، لقوله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ . لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ [الزخرف:12-14].
الأمر الثالث:: الالتزام بالأخلاق الحسنة.
لأنه بالأخلاق الحسنة؛ تدوم المحبة، وتسود المودة بين الرفقة، فإن ساءت الأخلاق؛ تكدرت الصفوة، وتنافرت القلوب، فتنقلب الرحلة إلى محنة، والراحة إلى مشقة وتعاسة.
وإن من حسن الخلق أن يتحمل الجميع أعباء الرحلة، لا تجد أحدهم يعمل ويكد، وآخر يأكل ويلعب؟! هذا ليس من حسنِ الخلق.
ﷺ أمر أصحابه بذبح شاة في سفر، فقال رجل من القوم: عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها، وقال آخر: عليّ قطعها، وقال آخر: عليّ طبخها، فقال رسول الله ﷺ: (عليّ أن ألقط لكم الحطب)، فقالوا: لا تتعن بآبائنا وأمهاتنا أنت نحن نكفيك، قال: (قد عرفت أنكم تكفون، ولكن الله يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن يتميز من بينهم)، فقام ﷺ يلقط الحطب لهمم ([11]).
ﷺ يمازح أصحابه الكرام رضي الله عنهم ، ويمازحونه، ويتمازحون فيما بينهم. وكان كل ذلك منضبطاً بأمرين:
الأول:: أن يبقى المزاح في دائرة القول، ولا يتعداه إلى الفعل، ويدل لذلك:
ﷺ قال: (لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا، وَلَا جَادًّا وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا) (([12])
� وما جاء عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا) ([13]).
الثاني: أن يكون مزاحاً بالحق، لا كذب فيه، ويدل لذلك: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله ﷺ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا، قَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» ([14]).
الأمر الرابعع: مسائل فقهية يحتاج إليها من أراد الخروج للرحلة:
1. مشروعية الأذان وفضله عند إرادة الصلاة
تقدم قول النبي ﷺ لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (..فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شيءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (([15]).
رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: (يَعْجَبُ رَبُّكُمْ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ [القطعةُ المرتفعة من رأس الجبل] يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ) (([16]).
2. فضل الصلاة في البر مع إتمام ركوعها وسجودها:
ﷺ: (الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً، فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ صَلَاةً) رواه أبو داود، وعند ابن حبان: (تُكتب صلاتُه بخمسين درجة).
ولو صلاها في البر بأذان وإقامة صلت مع الملائكة، كما صح عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا كان الرجل بأرض قي [يعني: فلاة] فحانت الصلاة فليتوضأ، فإن لم يجد ماء فليتيمم، فإن أقام صلى معه ملكاه، وإن أذّن وأقام؛ صلى خلفه من جنود الله ما لا يُرى طرفاه) ([17])).
3. مشروعية الصلاة بالنعال.
ﷺ يصلي في نعله، وقال للناس: (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم) (([18]).
ﷺ أنه إذا كان على حال لم يغير حاله، قال ابن القيم رحمه الله: "وَلَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّفُ ضِدَّ حَالِهِ الَّتِي عَلَيْهَا قَدَمَاهُ، بَلْ إِنْ كَانَتَا فِي الْخُفِّ مَسَحَ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَنْزِعْهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ غَسَلَ الْقَدَمَيْنِ وَلَمْ يَلْبَسِ الْخُفَّ لِيَمْسَحَ عَلَيْهِ"(([19]).
4. تحري: لأن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، لا تصح إلا بها.
5.. اتخاذ سترة يصلي إليها: ﷺ: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا) رواه أبو داود، وفي لفظ له: (لَا يَقْطَعِ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ).
واتخاذ السترة سنة مؤكدة عند جمهور العلماء، وعند بعض العلماء واجب، ولم يثبت عن النبي ﷺ في حديث صحيح صريح أنه صلى إلى غير سترة مرة في حياته أبدا..
6. النهي عن مسح التراب وتسويته حال الصلاة.
فقد قال النبي ﷺ: ) لَا تَمْسَحْ وَأَنْتَ تُصَلِّي، فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَوَاحِدَةٌ تَسْوِيَةَ الْحَصَى ) (([20]) (وَاحِدَةٌ وَلَأَنْ تُمْسِكَ عَنْهَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا سُودُ الْحَدَقَةِ) ([21]). يعني أفضل لك من مئة ناقة.
وأما مسح الجبهةة رضي الله عنه أنه قال: "إن من الجفاء أن يُكثر الرجل مسح جبهته قبل أن يفرغ من الصلاة"(([22]. وفي رواية عنه: "أربع من الجفاء وذكر منها: "ومسح الرجل التراب عن وجهه وهو في صلاته".
وعن ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: إِذَا كُنْتَ فِي صَلَاةٍ فَلَا تَمْسَحُ جَبْهَتَكَ، وَلَا تَنْفُخُ، وَلَا تُحَرِّكِ الْحَصْبَاءَ.
7. ويُنهى في الصلاة عن التلثم: وهو تغطية الفم، أو السدل: وهو إدخال اليد تحت الرداء؛ فقد صح عن النبي ﷺ أنه نهى عن ذلك ([23]). ولكن إن كانت به علة من مرض ونحوه وخشي على نفسه فإنه يجوز، كأن يكون به زكام ومرض وشدة برد يخشى منه الضرر .
ومما ينهى عنه في الصلاة: الصلاة إلى النار: فقد أجمع العلماء أنه لا يجوز للإنسان أن يوقد نارا، والنار تشتعل ثم يصلي إليها، قالوا: لأنه تشبه بالمجوس.
وأما لبس القفاز في الصلاة فجائز على الراجح من أقوال العلماء فهو كلبس الجوارب لا يؤثر في صحة الصلاة.
8.
ففي حديث سلمان أن النبي ﷺ قال: (تمسحوا بالأرض فإنها بكم بَرّة) ([24]). قال المناوي في شرح الحديث: (تمسحوا) أي استحباب، بأن تباشروها بالصلاة بلا حائل بينكم وبينها، برة: يعني كالأم أنتَ خُلقت من الأرض وترجع إلى الأرض وطعامك من الأرض فهي بكم برة.
9. قصر الصلاة وجمعها في البر.
فإن كانت المسافة إلى البَرِّ مسافة سَفر ونوى الإنسانُ السَّفر، فيشرع القصر، وأما إذا لم يقصد السفر، ولكن مشى مسافة قصر فلا يجوز القصر ولا يُسمى سفراً عند الفقهاء.
وينبغي على المسلم إذا قصد مكاناً مسافة سفر ولكنه كان يسمع النداء للأذان فإنّ عليه أن يُجيب النداء إذا لم يشق عليه، والتساهل في ذلك أمر غير محمود خاصة في صلاة الجُمعة، لأن بعض الناس تجده في كل جمعة يذهب إلى رحلة فتفوته جُمعٌ كثيرة، والنبي ﷺ قال: (من ترك ثلاث جُمع تهاوناً بها طُبع على قلبه) وفي لفظ: (كتب من المنافقين) (([25])، والله المستعان.
وأما مسألة جمع الصلوات: فإذا جاز القصر جاز الجمع ولكن الأفضل ألا تُجمع الصلاة إلا إذا احتيج لذلك.
10. التنبيه على بعض الأمور المتتعلقة بالطهارة:
الاغتسال بالصاع والوضوء بالمد ([26]): ففي البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان ﷺ يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد.
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (يجزئ من الوضوء المد، ومن الجنابة الصاع) فقال رجل: ما يكفينا يا جابر. فقال: قد كفى من هو خير منك وأكثرُ شَعْراً([27]).
وبسبب هجر هذه السنة وقع الناس في الإسراف والتبذير في استعمال الماء، وصار الناس عند الوضوء والاغتسال يهدرون المياه هدراً، وقد أشار النبي ﷺ إلى أن ذلك من علامة قرب الساعة، فعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قومٌ يَعْتَدُونَ في الدُّعاءِ والطُّهورِ) ([28]).
ولا شك أن هذه الهدر هو من ذلك التعدي المذكور في الحديث.
والصحابة رضي الله عنهم اتبعوا هدي النبي ﷺ في ذلك فعَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ تَوَضَّأَ مِنْ نْ نْ نْ كُوزٍ وَأَفْضَلَ فِيهِ، قُلْتُ : يَكُونُ مُدًّا ؟ قَالَ: وَأَفْضَلَ([29]). ومعنى أفضلَ: أي، بقي منه شيء.
11. مكان قضاء الحاجة في البر.
من السنة في قضاء الحاجة في البر أن يبتعد الإنسان قدر الإمكان حتى لا يُرى، أو يستتر خلف حائل يمنع انكشاف عورته.
ولابد من اجتناب الأماكن التي يرتادها الناس مثل أماكن فيها أشجار يُستظل بها، أو حشائش يُنتفع بها، فإن ذلك منهي عنه، قال النبي ﷺ: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) ([30]).
وقد قال العلماء: كل ما ينتفع به الناس ينهى المسلم عن قضاء حاجته فيه.
وليتنبه المسلم حال قضاء الحاجة أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها فقد نهى النبي ﷺ عن ذلك، أما إذا كان بينه وبين القبلة ساتر جاز له أن يستدبرها، على الراجح من أقوال العلماء.
12. الوضوء عند شدة البرد فيه أجر عظيم؛ قال النبي ﷺ: كَفَّارَاتُ الْخَطَايَا إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ([31])، وفي لفظ: (إسباغُ الوضوءِ في السّبَرات)([32])، أي في شدة البرد.
13. التيمم عند فقد الماء، وصفته ضربة واحدة على الراجح قال ﷺ: (التيمم ضربة للوجه والكفين)، فإذا فقد الإنسان الماء، أو كان به ضرر يمنعه من استعمال الماء، أو كان البرد شديدا يخاف بالماء الضرر، ولم يكن عنده نار يسخن به الماء فيجوز له أن يتيمم.
14. المسح على الخف: جائز بإجماع الأمة، وأما الجورب فقد قال الإمام إسحاق بن راهويه: مضت السنة من أصحاب النبي ﷺ ومن بعدهم في المسح على الجوربين لا اختلاف بينهم في ذلك.
والإنسان يمسح على الجورب بشرط أن يلبسهما على طهارة، يعني بعد أن يتوضأ وضوءا كاملا، فإذا لبسهما على طهارة جاز له أن يمسح عليهما إن كان مسافرا ثلاثة أيام ولياليها، وإن كان مقيما يوما وليلة.
الأمر الخامس: الحذر من ترك النار عند النوم:
فقد صح عنه ﷺ أنه قال: (إِنَّ هَذِهِ النَّارَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ)([33])، فلا ينبغي أن يترك النار وقت النوم؛ لأنها إما تسبب احتراقا وإما أن تسبب اختناقا.
الأمر السادس: التأكد من نظافة المكان قبل مغادرته:
فعلى الإنسان أن يراعي المكان الذي ذهب إليه وأن يحافظ عليه نظيفاً طاهراً كما وجده؛ وهذا أمر يدل عليه الشرع والفطرة السليمة، فقد قال النبي ﷺ: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) ([34]). فترك المكان على أقذر صورة يسبب دعوة الناس على هذا الفاعل، ويجر عليه اللعنات.
قال ﷺ: (من آذى المسلمين في طرقاتهم وجبت عليه لعنتهم) فترك المكان على أقذر صورة لا شك أنه يسبب دعوة الناس على هذا الفاعل.
فعلى المسلم أن يكون نظيفا، جميلاً، يُحب الخير للآخرين، ولا يؤذي غيره من المسلمين، أو يؤذي بقية الدواب والهوام، فإنها تتأذى كما يتأذى الإنسان من القاذورات.
فالنظافة والجمال هدي نبوي وصفة إلاهية، وقد قال ﷺ: (إن الله جميل يُحب الجمال) ([35]).
فهذه إشارات بسيطة، ونقاط مختصرة لأهم ما يحتاج إليه المرء في رحلاته الترفيهية، سائلا الله تعالى حسن عبادته وذكره وشكره، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
([1]) رواه الترمذي.
([2]) رواه مسلم.
([3]) شرح النووي على مسلم.
([4]) جامع العلوم والحكم.
([5]) الاستذكار (1/ 385).
([6]) رواه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني.
([7]) رواه البخاري.
([8]) رواه أبو داود.
([9]) رواه أبو داود والترمذي.
([10]) رواه مسلم.
([11]) شرف المصطفى ج4 ص378.
([12]) رواه أبو داود.
([13]) رواه أبو داود.
([14]) رواه الترمذي.
([15]) رواه البخاري.
([16]) رواه أبو داود والنسائي.
([17]) رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وصححه الألباني في الترغيب والترهيب.
([18]) رواه أبو داود.
([19]) زاد المعاد.
([20]) رواه أبو داود.
([21]) رواه ابن خزيمة.
([22]) مخرج في الأرواء.
([23]) رواه أبو داود.
([24]) خرجه الألباني في الصحيحة.
([25]) رواه أصحاب السنن.
([26]) الصاع = 2لتر تقريباً، والمد = نصف لتر تقريباً.
([27]) رواه أحمد وابن ماجه وهذا لفظ الحاكم.
([28]) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه.
([29]) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
([30]) رواه أبو داود وابن ماجه.
([31]) رواه ابن ماجه.
([32]) رواه الطبراني.
([33]) البخاري في الأدب المفرد وابن ماجه.
([34]) رواه البخاري ومسلم.
([35]) رواه مسلم.