الحكمة في الدعوة إلى الله
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى، وبعد
إن الدعوة إلى الله مطلب عظيم، وغاية سامية، أرسل الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لأجلها فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا () وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: 45، 46] فالله جل وعلى أرسله إلى الناس كافة يدعوهم إلى عبادة ربهم، ويُرشدهم إلى الصراط المستقيم، ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام.
أيها القارئ الكريم، اعلم وفقك الله لكل خير أن الدعوة إلى الله لا بد وأن ترتكز على دعامة عظيمة، وركن متين؛ حتى تستقيم وتؤتي ثمارها اليانعة، وهذه الدعامة هيالحكمة.
والحكمة: هي الإصابة في معرفة الحق والعملِ به، والدقةُ في وضع الأمور في موضعها الصحيح.
وتتمثل أهمية الحكمة في كونها:
1. من أهم الأسباب والوسائل التي تستخدم في الدعوة إلى الله، فنجد أن الله جل وعلا لما أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه سبحانه؛ أمره أن يبدأ دعوته بالحكمة فقال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل : 125].
2. ثم إن الناظر في سيرتهصلى الله عليه وسلم يجد أنه كان ملازماً للحكمة في جميع أموره، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجاً وذلك بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا النبي الحكيم الذي ملأ الله قلبه إيماناً وحكمة كما ثبت ذلك في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (فُرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريلُ ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئٍ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي ..).
3. ومن أعطاه الله الحكمة، فقد حاز على خير كثير، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة : 269] وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدنيا والآخرة.
4. ولعظيم شأنها نجد أنها من الأمور التي يُحسد الإنسان عليها، كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا).
[هلكته في الحق: أي أنفقه في وجوه الخير].
5. وقد ثبت عند البخاري من حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ). وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما من أعلم الصحابة بتفسير القرآن ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .
إن الحكمة في الدعوة إلى الله لها أركان ودعائم لا تتحقق إلا بها وهي: العلم والحلم والأناة.
أما العلم: فهو أعظم أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾[محمد : 19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فدل على أن العلم شرط لصحتهما.
وأما الحلم: فلأنه صفة تقود صاحبها إلى ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب.
وأما الأناة: فهي مظهر من مظاهر خُلق الصبر، وتقود صاحبها نحو التصرف الحكيم من غير عجلة ولا تباطؤ.
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم هذين الخلقين فقال لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله .. الحلم والأناة).
إن الحكمة في الدعوة إلى الله لها درجات ومراتب:
1. فتارة تكون باستخدام الرفق واللين، والحلم والعفو، مع بيان الحق علماً وعملاً واعتقاداً بالأدلة، وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون.
2. وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، وهذه المرتبة تستخدم مع من يقبل الحق ويعترف به، ولكن عنده غفلة وشهوات وأهواء تصده عن اتباع الحق .
3. وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، بحُسن خلق، ولطف، ولين كلام، وأن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد.
4. وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة : بالكلام الغليظ، وبالضرب والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة مع مراعاة الضوابط والشروط التي دلَّ عليها الكتاب والسنة. وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى ووقف في طريق الحق.
إذن الحكمة مهمة في مجال الدعوة إلى الله، لا بد أن يتحلى بها كل من أراد أن يدعو إلى الله جل وعلا، فمن خلالها يستطيع الداعية أن يقدر الأمور، ويضعها في مواضعها.
ومن خلالها يستطيع الداعية إلى الله أن يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم، والوسائل التي يُؤتون من قِبَلِها.
فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح للحق صدورهم، فينقادون إليه، ويُذعنون إلى الصواب.
أيها الأخوة ينبغي على كل داعية ومعلم ومرب أن يتحلى بهذه الصفة العظيمة، حتى يكون موفقاً مباركاً في عمله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كونوا ربّانيّين حكماء فقهاء". [والرباني: الذي يعلم صغار العلم قبل كباره].
وأوصى وهب بن منبّه أحدهم فقال له: «يا بنيّ عليك بالحكمة، فإنّ الخير في الحكمة كلّها، وتشرّف الصّغير على الكبير، والعبد على الحرّ، وتزيد السّيّد سؤددا، وتجلس الفقير مجالس الملوك».
رزقني الله وإياكم الحكمة والفقه في الدين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتبه أخوكم: علي سلمان الحمادي