كيف يَصِلُ الإنسان بِنِيَّتِه إلى الكمال ؟ وكيف يكون العمل صالحاً ؟
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ؛
أولاً : النِّـيَّة يُراد بها : إخلاص العمل لله تعالى ، وهو إفراد القصد لله عزَّ وجل ، والبراءة من قصد أيِّ أحدٍ في العمل سوى الله جل جلاله .
والنيَّة هي التي تقود العبد إلى مواقع رضى الرحمن ، والبُعد عن مواقع رضى الشيطان ، فإنَّ النَّـيَّة الصحيحة تكون صادرة عن محبَّةٍ لله عزَّ وجل .
وكلَّما ازدادت محبَّة العبد لله تعالى ، ازداد إخلاصه لله عزَّ وجلَّ ، وصار قصد إفراد المولى سبحانه وتعالى بالعبادة عنده أعظم وأكمل .
وكلُّ ذلك بيانه في : أنَّ العباد يتفاوتون في الإخلاص والتوحيد لربِّ العالمين ، فإنَّ العبد قد يحصل له من تلك المحبَّة لله تعالى : ( خشيةٌ وإخباتٌ وإجلالٌ ) لِجَناب الربِّ سبحانه وتعالى ، ويحصل له من السكينة ما يعظم وصفه ، ويحصل له من زوال الغفلة وكمال الأُنس ما يُوجِبُ لديه ذِكرَ مولاه على كلِّ حال ، وإزالة الأدران والأوساخ التي تُغَطِّي على قلبه .
ومِنَ المُتقرِّر عند العقلاء : أنَّ مَنْ أحبَّ شيئاً ؛ أكثر مِن ذكره ، ولا شكَّ أنَّ أعظم محبوبٍ في هذا الوجود هو الله جلَّ جلاله ، وفي مثل هذا قد قال سبحانه وتعالى : (ومِنَ النَّاس مَن يتَّخِذُ مِن دون الله أنداداً يُحِبُّونهم كحُبِّ الله والذين آمنوا أَشَدُّ حُبًّا لله ) ؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن أهل البدع من المُتَصَوِّفة : ( ولهذا يكون كثير من سماعهم الذي يُحَرِّكُ وُجدَهم ومَحبَّتَهم ؛ إنما يُحَرِّكُ وُجدَهم ومحبتهم لغير الله ، كالذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ) من كتاب الاستقامة.
وقد صَحَّ في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنَّه قال : ((إنَّ الله سيُخَلِّصُ رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سِجِلاًّ ، كلُّ سِجِلٍّ مثل مدّ البصر ، ثم يقول : أتُنكِرُ مِن هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب فيقول : أفلك عذر ؟ فيقول : لا يارب . فيقول : بلى إنَّ لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم . فتُخرَج بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . فيقول : احضر وزنك . فيقول : يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فقال : إنك لا تُظلم . قال : فَتُوضَع السجلات في كفَّة ، والبطاقة في كفَّة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، فلا يثقل مع اسم الله شيء )) أخرجه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وصحَّحه الألباني .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن هذا الحديث : ( فهذا لِمَا اقترن بهذه الكلمة ؛ مِنَ الصدق والاخلاص والصفاء وحُسن النية . إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة الظاهرة ؛ فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتاً عظيماً) مجموع الفتاوى (10/735) .
وكذلك فإنَّ الله تعالى قد أخبر أنَّ مَن أراد وجه الله عزَّ وجلَّ فإنَّه يكون مِن المُفلحين ، فقال سبحانه : (فَآتِ ذا القُربى حَقَّه والمسكين وابن السَّبيل ذلك خيرٌ للذين يُريدون وجه الله وأولئك هم المُفلِحون ) ، وذِكرُ الفلاح في هذه الآية جاء على سبيل الخبر ؛ لبيان تَحَقُّق الفلاح فِيمَن أراد وجه الله عزَّ وجل ، وخصوصاً إذا كان الخبر من الرب جلَّ جلاله ، وهو الحق سبحانه وما أخبر به حقٌّ لا يُخلف .
وهذا التفاوت عند الناس في إجلالهم لمولاهم عزَّ وجلَّ ؛ صادرٌ عن كمال المعرفة بالله عزَّ وجل ، وهو سِرُّ السعادة في الدنيا والآخرة ، وفيه يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ( وأفضل العلم والعمل والحال : العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله والعمل بمرضاته ، وانجذاب القلب إليه بالحب والخوف والرجاء ، فهذا أشرف ما في الدنيا ، وجزاؤه أشرف ما في الآخرة .
وأَجَلُّ المقاصد معرفة الله ، ومحبته ، والأُنس بقربه ، والشوق إلى لقائه ، والتَّنَعُّم بذِكره ، وهذا أَجَل سعادة الدنيا والآخرة ، وهذا هو الغاية التى تطلب لذاتها ، وإنما يشعر العبد تمام الشعور بأن ذلك عين السعادة إذا انكشف له الغطاء وفارق الدنيا ، ودخل الآخرة .
وإلا فهو في الدنيا ، وإن شعر بذلك بعض الشعور ، فليس شعور كاملاً ؛ للمُعارضات التي عليه ، والمِحَن التي امتُحِنَ بها . وإلاَّ فليست السعادة في الحقيقة سوى ذلك ، وكلُّ العلوم والمعارف تَبَعٌ لهذه المعرفة ، مرادةٌ لأجلها .
وتفاوت العلوم في فضلها بحسب قرب إفضائها إلى هذه المعرفة وبُعدِها ، فكُلُّ عِلمٍ كان أقرب إفضاءً إلى العلم بالله وأسمائه وصفاته فهو أعلى مما دونه .
وكذلك حال القلب ؛ فكل حالٍ كان أقرب إلى المقصود الذي خُلِقَ له ؛ فهو أشرف مما دونه ، وكذلك الأعمال ؛ فكل عملٍ كان أقرب إلى تحصيل هذا المقصود ؛ كان أفضل مِنْ غيره ؛ ولهذا كانت الصلاة والجهاد من أفضل الأعمال وأفضلها لقُرب إفضائها إلى هذا المقصود .
وهكذا يجب أن يكون فإنَّ كل ما كان الشيء أقرب إلى الغاية ؛ كان أفضل من البعيد عنها ؛ فالعمل المُعَدُّ للقلب المُهَيَّئ له لمعرفة الله وأسمائه وصفاته ومحبته وخوفه ورجائه أفضل مما ليس كذلك ) انتهى كلامه رحمه الله تعالى من عدة الصابرين(184-185) .
والكلام في هذا الباب عظيم ، وهو يحتاج إلى بَسطٍ لا يُنال في هذا المقام ،
وكما قيل : ( حسبك من القلادة ما أحاط بالعُنُق) .
ومَن أراد الزيادة في هذا الباب ، فليَقرأ كتاب مدارج السالكين للإمام ابن القيِّم رحمه الله تعالى .
وأما العمل الصالح : فهو كلُّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إلى الله عزَّ وجلَّ ، ولا يكون العمل مُقَرِّباً إلى الله عزَّ وجلَّ حتى يكون العبد فيه مُخلِصاً للمقصود عزَّ وجلَّ ، ومُفرِداً للمتبوع صلى الله عليه وسلَّم .
والإخلاص للمقصود سبحانه وتعالى قد سبق بيانه سابقاً .
وأما الإفراد للمتبوع صلى الله عليه وسلَّم : فهو إفراد الاتباع في العمل للنبي صلى الله عليه وسلَّم ، والبراءة من اتِّباعِ أيِّ أحدٍ في العمل سوى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وكذلك البراءة مِن كلِّ عملٍ لم يكن من هَديِه .
وهذا لا يُنافي اتِّباع الصحابة رضي الله عنهم ، والتزام فهم السلف الصالح للنصوص ، فإنَّ اتباع الصحابة رضي الله عنهم داخلٌ في اتباع النبي صلى الله عليه وسلَّم ؛ لأنَّهم أخذوا العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وقد أمر الله سبحانه وتعالى باتباعهم فقال : ( والسابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأَعَدَّ لهم جنَّاتٍ تجري تحتها الأنهار ... ) .
والأدلة على وجوب اتِّباعهم كثيرة في الكتاب والسنَّة ، ولا يُعارِض ذلك أيضاً أنَّنا إن وجدنا أحدهم قال بقولٍ خالف فيه الكتاب والسنَّة فإنَّنا لا نُقَدِّم على كتاب الله تعالى ولا سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم قول أحَدٍ كائناً مَن كان .
وأما التابعين وأتباع التابعين رحمهم الله تعالى ؛ فإنَّنا نلتزِم فهمهم للنصوص ، ولا نقول بقولٍ لم يعرِفوه ، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنَّة ، وليس هذا مقام التفصيل في ذلك .
والإفراد الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلَّم في الاتباع هو الذي يقود إلى مواقع رضى الرحمن ، والبُعد عن مواقع رضى الشيطان ، وهو الذي يكون صادراً عن محبَّة النبي صلى الله عليه وسلَّم بحقٍّ وصدق .
ولا يكون العبد مُحِبًّا للنبي صلى الله عليه وسلَّم حقَّ المحبَّة حتى يكون مُتَّبِعاً له بحقٍّ وصدق ، كما قال عزَّ وجل : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) .
وهذه المحبَّة للنبي صلى الله عليه وسلَّم تقتضي كمال الخضوع والإخبات والإجلال لله جلَّ جلاله ، وذلك أنَّ هذه الشريعة جاءت عن الله سبحانه وتعالى ، فكان الكمال في العبودية والمحبَّة لله عزَّ وجل أن يُتَعَبَّد سبحانه وتعالى بما شَرَعه ، وما شرعه هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلَّم .
ويُوَضِّح هذه المعاني العظيمة أنَّ المحبَّة المشروعة على ثلاثة أنواع :
الأول : محبَّة الله تعالى ، وتدخُل فيها محبَّة النبي صلى الله عليه وسلَّم .
الثاني : محبَّة مَن يُحِبُّه الله عزَّ وجل ، وهم الصالحون من أهل الإسلام والأمم السابقة .
الثالث : محبَّة ما يُحِبُّه الله عزَّ وجل ، وهي الأوامر سواءٌ كانت واجبة أو مُستحبَّة .
فصارت النيَّة الصالحة والعمل الصالح ، مجموعان في المحبَّة ، التي تقتضي العبوديةَّ لله عزَّ وجلَّ ، والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلَّم .
وأختم بكلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إذ يقول : ( وإذا كانت المحبة له هي حقيقةُ عبوديَّتِه وسِرُّها ؛ فهي إنما تتحقَّق باتباع أمره ، واجتناب نَهيِه ، فعند اتباع الأمر ، واجتناب النهي تَتَبَيَّن حقيقةُ العبودية ، والمحبة .
ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله عَلَماً عليها ، وشاهداً لِمَنْ ادَّعاها ، فقال تعالى :( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ، فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله ، وشرطاً لمحبة الله لهم ، ووجود المشروط مُمتَنِعٌ بدون وجود شَرطِه ، وتحقُّقُه بتحقُّقِه .
فعُلِم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة ، فانتفاء محبتهم لله لازمٌ لانتفاء المتابعة لرسوله ، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم ، فيستحيل إذاً ثبوت محبَّتِهم لله ، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله .
ودلَّ على أنَّ مُتابعة الرسول هي حب الله ورسوله ، وطاعة أمره ، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحبَّ إلى العبد مما سواهما ، فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله ، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما ؛ فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله ، قال الله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربَّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين )
فكلُّ مَنْ قَدَّم طاعة أحدٍ من هؤلاء على طاعة الله ورسوله ، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله ، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله ، أو خوف أحد منهم ورجاءه ، والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه ، أو معاملة أحدهم على معاملة الله ، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وإنْ قاله بلسانه فهو كذبٌ منه ، وإخبار بخلاف ما هو عليه ) انتهى من مدارج السالكين (1/ 83-84).
هذا والله أعلم وصلى الله وسلَّم على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى عفو ربه
حامد بن خميس بن ربيع الجنيبي
غفر الله له ، ولوالديه ، ولمشايخه ، وأهل بيته