مقتل سفراء العدو بين حكم الشرع وبين الحماسات والعواطف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد
فلقد طالعتنا وسائل الإعلام في الأمس القريب بخبر مقتل السفير الروسي في تركيا على يد حارس من الشرطة، وقد تباينت ردود أفعال الناس حول هذا الحدث، بسبب جرائم روسيا في سوريا، ومساهمتهم في قتل المسلمين فيها، وقد بيّن أهل العلم حكم هذا الفعل من جهة الشرع، ولكن لم يرتض هذا الحكم البعض، وهاجموا من نشره وبينه، فأحببت أن أعلق على هذا الأمر ، فأقول :
أولا : من صفات المؤمن لزوم حكم الشرع وعدم معارضته، بل يسلم له ويرتضيه، ولو خالف نفسه وهواه ومصلحته الخاصة، قال تعالى : "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" [النور:51-52 ] ، وقال سبحانه : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا" [الأحزاب: 36] .
قال ابن القيم – رحمه الله- في الرسالة التبوكية ص 36 : " فدل هذا على أنه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسألة من المسائل حكم طلبي أو خبري، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً، فدل على أن ذلك مناف للإيمان."
ثانيا : قد ورد الحكم الشرعي في مسألة قتل سفراء العدو بأدلة عامة وخاصة، تدل على تحريمه، والوعيد لمن أقدم عليه، ومن ذلك:
أ ) قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " من قتَلَ مُعاهَدًا لم يرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ وإِنَّ رِيحهَا تُوجدُ من مسِيرَةِ أَربَعِينَ عامًا. " أخرجه البخاري، وعند ابن ماجه " من قَتَلَ مُعَاهَدًا له ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ لم يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وريحها لَيُوجَدُ من مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا."
وجه الدلالة : الترهيب والوعيد على من قتل معاهداً، والسفير من المعاهدين في الدولة المسلمة، وبالتالي لا يجوز قتله والاعتداء عليه.
ب ) ومن التطبيقات العملية الدالة على حرمة قتل السفراء من رسل العدو كما وردت في السنة النبوية، ما روي عن عبد اللّهِ بن مسْعُودٍ –رضي الله عنه – قال: جاء بن النّوَّاحَة وابن آثال رسُولاَ مُسَيْلمَةَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لهُمَا: " أتَشْهَدَانِ أني رسول اللّهِ؟" قالاَ: نشْهَدُ أنَّ مُسَيْلمَةَ رسول اللّهِ.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " آمنْتُ باللَّهِ وَرُسُلهِ لو كنت قَاتلاً رسُولاً لقَتَلْتُكُمَا ". قال عبد اللّهِ: فمَضَتِ السُّنّةُ أنَّ الرّسُلَ لاَ تُقْتلُ. رواه أبو داود وأحمد.
وجه الدلالة : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- امتنع من قتل رسل مسيلمة الكذاب على الرغم من قولهما لكلمة الكفر أمامه، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: " فمَضَتِ السُّنّةُ أنَّ الرّسُلَ لاَ تُقْتلُ"
وقوله " الرسل " لفظ أطلق قديما على ما يسمى في عصرنا اليوم بـ ( السفير)، وهو استعمال لغوي صحيح، فالرسول في اللغة هو من يبلغ رسالة من بعثه إلى قوم آخرين، ومنه قوله تعالى : "وقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ". .[ يوسف: 50 ].
قال الألوسي فى تفسير الآية الكريمة في روح المعاني : 12 / 257: " وقال الملك بعد ما جاء السفير المعبر بالتعبير وسمع منه ما سمع، ائتوني به لما رأى من علمه وفضله وأخباره عما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير. "
ج – عن أَبِي رَافِعٍ قَالَ: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: " إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الْآنَ، فَارْجِعْ "
فقوله: " لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ " : أي لا أغدر وأخون العهد، وقوله : " وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ" ، جمع بريد وهو الرسول الوارد إليه من الجهات، أي لا أحبس الرسل. وجه الدلالة : دل الحديث على صفة الوفاء بالعهد، وعلى عدم حبس الرسل، فعدم قتلهم من باب أولى .
قال القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2564) : " قال الطيبي: المراد بالعهد هاهنا العادة الجارية المتعارفة بين الناس من أنَّ الرسل لا يُتعرض لهم بمكروه."
وقال الصنعاني- رحمه الله- في سبل السلام (2/492) : "في الحديث دليل على حفظ العهد والوفاء به ولو لكافر، وعلى أنه لا يحبس الرسل بل يرد جوابه، فكأن وصوله أمان له فلا يجوز أن يحبس بل يرد" .
د ) ومن الأدلة كذلك على عدم جواز قتل الرسل ( السفراء) وجوب الوفاء بالعهد للكافر ولو كان عدواً، كما قال تعالى :" وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا" [الإسراء:34 ] ، وكما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم – من الوفاء بعهده مع كفار قريش في صلح الحديبية.
وقد وقعت الدول جميعها، ومن بينها الدول المسلمة على اتفاقية فيينا، التي تفرض على الدول الموقعة التزامات عدة بخصوص السفراء منها حماية شخص الرسول ( السفير) ، فلا يجوز إخضاعه لأي صورة من صور القبض أو الاعتقال، مع اتخاذ جميع التدابير المتاحة لمنع أي اعتداء على شخصه أو حريته أو كرامته.
فقتل السفراء نقض لهذا العهد، ومخالفة للطريقة الشرعية في الوفاء بالعهود والمواثيق ولو مع الأعداء .
ثالثا: عدم قتل الرسل ( السفراء) معروف لدى جميع الأمم، والمصلحة تقتضيه، بل المفاسد العظيمة تترتب على مخالفته.
قال الشوكاني – رحمه الله- في السيل الجرار للشوكاني: 4 / 560 - 561 :" أنَّ تأمين الرسل ثابت في الشريعة الإسلامية ثبوتاً معلوماً، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصل إليه الرسل من الكفار، فلا يتعرض لهم أحد من أصحابه، وكان ذلك طريقة مستمرة وسنة ظاهرة. وهكذا كان الأمر عند غير أهل الإسلام من ملوك الكفر. فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يراسلهم من غير تقدم أمان منهم لرسله فلا يتعرض لهم متعرض. والحاصل: أنه لو قال قائل: إن تأمين الرسل قد اتفقت عليه الشرائع لم يكن ذلك بعيداً. وقد كان أيضا معلوماً ذلك عند المشركين أهل الجاهلية عبدة الأوثان، ولهذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقهما " قاله لرسولي مسيلمة، لولا أن الرسل لا تقتل، فيه التصريح بأن شأن الرسل أنهم لا يقتلون في الإسلام وقبله."ا.هـ
وأما اقتضاء ذلك للمصلحة ودفعه للمفسدة فمن وجوه:
أ ) أنّ قتل رسل العدو يفضي إلى قتل رسل المسلمين، والاعتداء عليهم بغير وجه حق.
ب) توقف التواصل بين الدولة المسلمة وبين دول الأعداء، مما يضيع فرص عقد المعاهدات، وطلب الصلح ونحو ذلك.
يقول الحسين بن عبد الله الطيبي في شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (9/ 2754) : " ثم إن في تردد الرسل المصلحة الكلية، ومهما جُوزَ حبسهم أو التعرض لهم بمكروه، صار ذلك سبباً لانقطاع السبيل بين الفئتين المختلفتين، وفي ذلك من الفتنة والفساد ما لا يخفي علي ذي اللب موقعه."ا.هـ
ج ) احتمال إعلان الحرب على الدولة المسلمة التي قتل فيها السفير من قبل دولته، من غير استعداد للقتال، وتعريض المسلمين للتهلكة.
رابعا : الشريعة الإسلامية تتعامل مع الأعداء بأحكام الشريعة، وبالأخلاق والمثل العليا، ولو كان العدو يتعامل مع المسلمين بغير ذلك، يدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى : " وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ. " [الأنفال:58 ]
فالله ينهى رسوله والمؤمنين عن خيانة من ظهرت أمارة خيانته، بل يُعلموه برغبتهم في إنهاء العهد بينهما، ليكونوا جميعا على علم بانتهائه.
وهاك أخي القارئ هذا التطبيق العملي للصحابة رضوان الله عليهم في التزامهم بالعهد مع العدو وعدم نقضه ولو كانوا في جهاد ضدهم، فروى الترمذي عن سُلَيْم بْن عَامِرٍ قال: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ أَهْلِ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلاَدِهِمْ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ. فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَفَاءٌ لاَ غَدْرٌ. وَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلاَ يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِىَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ». قَالَ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ.
ويدل عليه كذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم – " أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" رواه الترمذي.
فإذا كانت روسيا تتعامل مع المسلمين بالعداء والقتل، فينبغي أن نتعامل معها وفق أحكام الشريعة الإسلامية، ومن أحكام الشريعة الإسلامية عدم جواز قتل سفيرهم الذي أُعطي العهد والأمان في بلاد المسلمين .
خامسا: العواطف الجياشة والحماسة الزائدة لا تجدي نفعا في إصدار الأحكام، خصوصا في النوازل التي تحدث أثناء الفتن، لذلك كان ولا بد من أن تضبط هذه الانفعالات بأحكام الشرع، حتى لا تنقلب العواطف عواصف، تعصف بالأمة وأفرادها ومجتمعاتها.
وتأمل معي – أخي القارئ- هذا الموقف الذي رواه البخاري ومسلم عن سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ قال فيه: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، وفي رواية (أيُّها الناسُ! اتَّهِمُوا أنفُسَكُم) وفي رواية رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَرَدَدْتُهُ.
فبسبب ما وقع يوم صلح الحديبية للصحابة من أمور لم يرتضوها ، وما خالطهم من الحزن والكآبة، لرجوعهم دون تمام عمرتهم، وصد الكفار لهم عن البيت، كان لبعضهم من الرأي ما خالف النبي - صلى الله عليه وسلم – في تصرفاته، مع أن الحق كان معه - صلى الله عليه وسلم- حتى قال له عمر رضي الله عنه : يا رسولَ اللهِ! ألَسْنَا على الحقِّ وهُم على الباطلِ؟! فقالَ:" بَلى".
فقالَ: أليس قَتلانا في الجنةِ وقتلاهُم في النارِ؟! قالَ: "بلى".
قالَ: فعَلامَ نُعطي الدَّنِيَّةَ في دينِنا؟ أنَرْجِعُ ولمَّا يَحْكُمِ اللهُ بينَنا وبينَهُم؟
فقال:" يا ابنَ الخطاب! إنِّي رسولُ اللهِ، ولنْ يُضَيِّعَني اللهُ أبداً".
فانطلَقَ عمرُ متغيِّظاً، فلم يصبِرْ حتى جاءَ إلى أبي بكرٍ، فقالَ لهُ مثلَ ما قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضَيعَهُ اللهُ أبداً.
فنَزَلَتْ سورةُ {الفتح}، فقرأها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقالَ عمرُ: يا رسولَ اللهِ! أوَ فَتْحٌ هو؟! قالَ: "نعم" رواه البخاري .
قال ابن حجر في فتح الباري نقلا عن ابن بطال (13/ 288) : فالرأي إذا كان مستنداً إلى أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو المحمود وإذا كان لا يستند إلى شيء منها فهو المذموم، قال وحديث سهل بن حنيف وعمر بن الخطاب وإن كان يدل على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضاً للنص، فكأنه قال اتهموا الرأي إذا خالف السنة. "
فينبغي للمسلم أن يسلم لحكم الله ورسوله إذا جاءه، ولا يعترض عليه برأيه وهواه، لأن الاستسلام للعاطفة والهوى يحول بين المرء وبين الوصول للحق والحكم به.
قال تعالى : " ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ، هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [لجاثية:17-20 ]
هذه الأمور الخمسة مهمات في هذا الباب، فعلى الراغب في الحق تأملها وتدبرها، والله هو الهادي إلى سبيل الرشاد