ثقافة ضبط النفس
ثقافة ضبط النفس من أهم الثقافات المنشودة، فبها يصون الإنسان نفسه من ردات الفعل السلبية، ويعوِّدها على حسن التصرف في المواقف التي تعترض حياته، فيأمن بذلك من سوء العواقب، ويسبق تفكيرُه تدبيرَه، ويصاحبه العقل والحكمة على الدوام، وبهذه الخصلة حقَّق الطامحون آمالهم، وأحسنوا اتخاذ قراراتهم، وأصبح صوابهم أكثر من خطئهم، وما حققوه من إنجازات يملأ سجلاتهم، قال بعض العلماء: ضبط النفس هو الفضيلة التي علا بها العظماء، وهي رأس الإحسان في الفكرة، ووزن الأقوال بميزان الحكمة، وصدور الأعمال وفق المصلحة، وهي تجعل صاحبها رزيناً رصيناً، ذا نفس مطمئنة، وأخلاق هادئة، وهي تحمي الإنسان من الطيش والتهور، وتدعو إلى احترامه وإجلاله، وتوقيره وإكباره.
وإن حاجة الفرد إلى ضبط النفس حاجة مؤكدة في مختلف المواقف، ومن أهم ذلك لحظات الغضب والانفعال، ويُسمَّى ضبط النفس حينها بالحِلم، فقد تواجهنا في مسيرة حياتنا مواقف صعبة، تصيبنا فيها سهام الأذى. وقد يكون ذلك من قريب أو صديق، فيزيِّن لنا الغضبُ التعامل بحدة، ورد الإساءة بالشدة، فنخسر هذا القريب والصديق، والسعيد هنا من يكبح جماح غضبه، ويحتوي الإساءة بالإعراض والسكوت، لئلا يخسر أصدقاءه وأحبابه، والأجمل من ذلك أن يقابل الإساءة بالإحسان، ويحتوي صاحبها بجميل الكلام، وتلك قمة الشجاعة النفسية.
ومن أجمل صور كرم المعاملة، وكم من منطق جميل أطفأ جمرة الغضب، وغيَّر النفوس، فعادت إلى رشدها، واعتذرت عن خطئها، وصدق الله القائل: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}.
كما يحتاج الفرد إلى ثقافة ضبط النفس في مواقف الشدة، عند حلول مصيبة أو كرب، بألا يستسلم لليأس والإحباط والعجز، ولا يغرق في بحور الهم والغم من دون مقاومة، ولا يسيئ الظن بربه، ولا يتسخط على القدر، وعليه أن يتذكر هذه الحقائق: كم من محن في طياتها منح، وكم من بلاء تجلى بعده نعماء، وكم في المصائب من ألطاف وآلاء، وما بعد الضيق إلا الفرج، وإن مع العسر يسراً، ومتى نظر الإنسان إلى البلاء مستصحباً العناية الإلهية، مستيقناً أن ما أصابه قدر مقدور، وأن فيه الخير والحكمة، انشرح صدره، وانفتحت أمامه أبواب الأمل، واستبشر بفضل الله وما أعده لأهل الصبر من عظيم الجزاء والأجر.
ومن المجالات التي يحتاج فيها الفرد إلى ثقافة ضبط النّفس عند التعامل مع الغرائز والشهوات، بالإمساك عن الشهوات المحرمة، وقسرها على المباح، ويُسمَّى ذلك بالعفة، ومن الأدعية النبوية: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»، فإن عدم ضبط النفس في هذا الباب يوقع الإنسان في التعدي على حرمات الله، ويجعله يظلم نفسه ويظلم غيره، وقد يأخذه إلى ما هو أبعد من ذلك، فيوقعه في المناهج الفكرية الانحلالية، رغبة في إشباع الغرائز دون ضابط ولا حد، وبحثاً عن الخلاص من عقدة الشعور بالذنب، فيجتمع لديه انحلال فكري وسلوكي.
كما أن من أسباب النزوع للتطرف والغلو غياب ثقافة ضبط النفس أيضاً، بعدم حبس النفس عند حدود الشرع، وعدم التقيد بوسطيته واعتداله وسماحته، والانسياق وراء الحماس الجارف والشعار الزائف، وهو ما يبين أن الإرهابيين من أبعد الناس عن ثقافة ضبط النفس، لأنهم لا يروضونها على اتباع الشرع، ولا يصونونها عن إيذاء الخلق.
ومن أهم مجالات ضبط النفس كذلك عند التعامل مع العائلة والأبناء، فمن دون ضبط النفس لا تستقيم الحياة الأسرية، فأفراد الأسرة معرضون للخطأ، ومتى غابت ثقافة ضبط النفس في معالجة المشكلات الأسرية حل محلها الغضب والانفعال والصراخ، وقد يتطور الأمر إلى ضرب واعتداء وعنف، فتتفاقم المشكلات، وتصبح الأسرة مهددة بالانفصام.
وقد تسري عدوى الانفعال والعصبية إلى الأبناء، فيكتسبون من بيئتهم هذه الخصلة السلبية، فيصبحون سريعي الغضب قليلي الصبر غير متحلين بثقافة ضبط النفس داخل الأسرة وخارجها، فيجني الوالدان بذلك عليهم جناية كبرى، بإكسابهم هذه الخصلة السلبية التي تعكر حياتهم، وعلى الأبوين أن يعلما أن العلاج ممكن.
وأن ترك العصبية والانفعال أمر مستطاع، بمجاهدة النفس على ذلك، وتحري الوسائل المعينة عليه، فالأخلاق تُكتسب، والخصال السيئة تتغير، ولهذا قال الله تعالى: {قد أفلح من زكاها}.
كما تأتي أهمية تعزيز ثقافة ضبط النفس في الأسرة الكبيرة الوطن، فهي جزء أساس من قيم المواطنة الصالحة، ولها مظاهر عدة، منها احترام الأنظمة والقوانين سواء وافقت رغباتنا أو خالفت، لأنها وُضعت لتحقيق الخير والمصلحة للجميع، ومنها البعد عن الشائعات، وحسن معالجة السلبيات، بالتثبت والتأكد من وجودها أولاً، وبطرح الرؤى العلاجية للجهات المسؤولة عبر القنوات المتاحة ثانياً، بعيداً عن التشهير والتشويه والتحريض، فثقافة ضبط النفس من أهم مفاتيح حماية سفينة الوطن من المهددات والارتقاء بها.
كل ذلك يؤكد لنا جميعاً الأهمية الكبيرة لثقافة ضبط النفس، وأنها من أهم الثقافات السلوكية التي يحتاجها الأفراد والمجتمعات، والمجتمعات التي لا يتحلى أفرادها بهذه الثقافة عرضة للأخطار، وما الثورات والصراعات والاقتتال والتناحر في بعض مجتمعات اليوم إلا ثمرة من ثمرات غياب هذه الثقافة المهمة