ثقافة كسر الرموز
إن وجود القدوات الحسنة والرموز المشرقة في المجتمعات واحترامها أمر ضروري، لترتقي المجتمعات وتنهض في دينها ودنياها، ولتنتشر فيها مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ومناهل العلم والمعرفة، ولذلك اصطفى الله تعالى الأنبياء والرسل، وجعلهم في ذروة القدوات الحسنة لغيرهم، وخصهم بالصفات العالية الراقية التي تجعلهم أهلاً لذلك، فهم أتقى الناس ديناً، وأكملهم خلقاً، وأحسنهم معاملة، وأحرصهم على بذل الخير والإحسان، ووضع الله لنا معايير للتعامل معهم، فأمرنا باحترامهم وتوقيرهم وتعظيمهم والإيمان بهم والاقتداء بهم، كما وصفهم بأنهم عباد الله ورسله، فلا نرفعهم إلى مقام الألوهية، ولا ننزلهم عن مرتبة النبوة والرسالة، والمقصد من ذلك الاقتداء بهم، وقبول الرسالة التي أُرسلوا بها، ومن الرموز أيضاً أتباع الرسل وأصحابهم، وبالأخص صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهم قدوة لمن بعدهم، ينبغي احترامهم وتقديرهم والاقتداء بهم، وقد حرصت دولتنا المباركة على ترسيخ احترام هذه الرموز، وتجريم الإساءة إليهم.
ومن أبرز الرموز بعد هذه الصفوة المختارة التي ينبغي احترامها: الحكام والعلماء، فقد تضافرت نصوص الشرع على توقير هذين الصنفين، يقول سهل بن عبد الله التستري: «لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم»، ووضعت لنا الشريعة الغراء معايير في التعامل معهما، تعاملاً وسطياً معتدلاً بعيداً عن الإفراط والتفريط.
ففي جانب التعامل مع الحكام أوجبت علينا الشريعة احترامهم وتقديرهم والسمع والطاعة لهم بالمعروف والالتفاف حولهم وجمع القلوب عليهم، ونهت بالمقابل عن التشهير بهم والتحريض عليهم والطعن فيهم ونقدهم أمام الناس، ليس من باب تقديسهم أو القول بعصمتهم، وإنما حفظاً للمصالح العامة، ولذلك جعل الشرع توجيه النصح إليهم أحد حقوقهم، ولكن عبر نصيحة خاصة بين الناصح والمنصوح مشتملة على الرفق والاحترام وإنزال الحاكم منزلته، والمقصود من هذا المحافظة على هيبة الحكام والأمراء، واستمالة قلوبهم لقبول الخير، والبعد عن أسباب الفتن والتهييج، ومن تأمل في هذه المعايير وجد أنها سبب لحصول الخير العظيم للبلاد والعباد، من تحقيق الأمن والاستقرار والوحدة والتلاحم والرخاء والازدهار وحماية الضروريات الخمس وصيانة المكتسبات والإنجازات وتوجيه النصح بالطرق الصحيحة المأمونة التي تؤتي ثمارها.
وفي جانب العلماء المعتدلين المعروفين بالوسطية والاعتدال أمرتنا الشريعة باحترامهم وتقديرهم والاستفادة من علومهم، دون تقديسهم أو ادعاء عصمتهم، فمن المستقر عند أهل العلم أن كلاً يؤخذ من قوله ويُترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بين لنا الشرع الحنيف طريق التعامل مع الخطأ إن صدر منهم مع التزام المخرجات الشرعية الصحيحة، فلا ننسف جهودهم، ولا نطرح ثقافتهم، ولا ننتقص من مكانتهم، ولا نقلد أحداً منهم تقليداً أعمى، أو نرفعه إلى درجة العصمة، بل نتعامل معهم تعاملاً وسطياً معتدلاً، فتُحفظ مكانتهم، وتُصان منزلتهم، ويُردُّ الخطأ إن وقع منهم بالأسلوب الأمثل، ليكون ذلك سبباً لانتشار العلم، وحماية الشرع، وسد الباب أمام كل متطفل أو متسلق أو صاحب أجندات يريد التلاعب بأحكام الشرع والمتاجرة بالدين وإحداث الفوضى في الخطاب الديني ونشر الإرهاب والتطرف والتحزب والطائفية والتحلل والتسيب في المجتمعات.
ونظراً لأهمية هذين الصنفين وأثرهما في الحفاظ على المجتمعات كانا موضع استهداف من قبل فئات عدة تسعى وراء مصالحها وأجنداتها، وتتخذ من كسر الرموز طريقاً لتحقيق ما تريد، وقد خرجت هذه الثقافة منذ العهد الأول، حيث قام رجل يُدعى ذو الخويصرة ليقول للنبي عليه السلام وهو يقسم الغنائم: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل، عباراتُ طعنٍ وانتقاص تفوه بها هذا الرجل مغلفة بشعارات براقة كاذبة طمعاً في حطام الدنيا ومتاعها، فرد عليه النبي عليه السلام مستنكراً جرأته: «ويلك، ومن يعدل بعدي إذا لم أعدل؟» ثم قال محذراً منه وممَّن هو على شاكلته: «إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية».
وقد وُجدت هذه الثقافة التي ترمي إلى كسر الرموز في مختلف العصور بأساليب متنوعة، ونبتت في عصرنا على يد بعض التيارات الدينية المتشددة كالإخوان المسلمين وغيرهم وعلى يد بعض التيارات ذات الأجندات التحررية المنفلتة، فالجميع من الصنفين يشتركون في طرح ثقافة كسر الرموز، سواء في التعامل مع الحكام أو العلماء، بإسقاط مكانتهم وهيبتهم والاستعداء عليهم، وهذه الثقافة تمثل بوابة خطر كبيرة على المجتمعات.
لأنه إذا سقطت مكانة الحكام ولم يعد لهم هيبة ولا احترام انتشرت الفوضى، وعمَّ الاستهتار وعدم المبالاة بقرارات الحاكم، وأصبح كلُّ ذي رأي معجباً برأيه، فيضيع الأمن والاستقرار، ويصبح المجتمع لقمة سائغة للدول الطامعة، وإذا سقطت هيبة العلماء المعروفين بالمخرجات الشرعية الصحيحة فُتح باب التلاعب بالأحكام الشرعية، وتجرأ الجاهل على الفتيا، وأصبح الشباب ألعوبة بيد علماء السوء والجهال والمتطفلين على العلم والمتاجرين بالدين والمتطرفين.
ودين الله وسط، فكما أننا لا نقدس الأمراء والعلماء فإننا كذلك لا نحط من مكانتهم، ولا نهدر حقوقهم، بل نلتزم بالانضباط، فنكون معتدلين متوسطين، ونعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه دون غلو ولا جفاء.