قد أفلح من تزكى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فرمضان دعوة لازدياد الخير، وفرصة لتزكية النفوس، وقد بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس ويزكيهم، كما علق فلاح الدنيا والآخرة وفوزها بالتزكية، فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10]، وقال: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 75-76]، والدنيا إنما هي مزرعة الآخرة، فمن غفل فيها تصرمت أوقاته، ثم اشتدت عليه حسراته، فالأعمال تطوى، والأعمار تفنى، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل، بكَى أبو هريرة في مرضه الذي مات فيه، فقيل له: ما يُبْكِيكَ؟ فقال: «أَمَا إِنِّي لَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنِّي أَبْكِي عَلَى بُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زادي، وَأَنِّي أَصْبَحْتُ فِي صُعُودٍ مُهْبِطٍ عَلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ، لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا يُؤْخَذُ بِي»([1]).
وإن من أهم الأمور التي تعين على تزكية النفس؛ كثرة العبادة وشغل النفس بها، وهذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عطاء، قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال عبيد بن عمير: حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبكت، فقالت: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي» قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟، قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ... }» الْآيَةَ كُلَّهَا [آل عمران: 190] ([2]).
وكان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه، وقال علي رضي الله عنه «مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا قَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ»([3]).
وبالنبي صلى الله عليه وسلم اقتدى الصحابة رضي الله عنهم قال العباس رضي الله عنه: "كُنْتُ جَارًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عُمَرَ، إِنَّ لَيْلَهُ صَلَاةٌ، وَإِنَّ نَهَارَهُ صِيَامٌ وَفِي حَاجَاتِ النَّاسِ"([4]).
وقال جعفر بن عمرو: "كُنَّا فِئَةً مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا: إِنَّ آبَاءَنَا قَدْ سَبَقُونَا بِالْهِجْرَةِ وَصُحْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلُمُّوا نَجْتَهِدْ فِي الْعِبَادَةِ لَعَلَّنَا نُدْرِكُ فَضَائِلَهُمْ مِنْهُمْ أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالَ: فَاجْتَهَدْنَا فِي الْعِبَادَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَدْرَكْنَا تَمِيمًا الدَّارِيَّ شَيْخًا فَمَا قُمْنَا لَهُ وَلَا قَعَدْنَا فِي طُولِ الصَّلَاةِ"([5]).
وأما عبادة الإنفاق، فقال عروة: «لَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا تَقْسِمُ سَبْعِينَ أَلْفًا وَإِنَّهَا لَتَرْقَعُ جَيْبَ دِرْعِهَا»([6]).
وعلى هذا مضى الأوائل جيلا بعد جيل، قال حماد بن سلمة: «مَا أَتَيْنَا سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ فِي سَاعَةٍ يُطَاعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا، إِلَّا وَجَدْنَاهُ مُطِيعًا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى»([7]).
وقال مصعب بن عبد الله قال: "سمعَ عامرُ بن عبد الله بن الزبير المُؤَذِّنَ وَهُوَ يَجُوْدُ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ: خُذُوا بِيَدِي. فَقِيْلَ: إِنَّكَ عَلِيْلٌ! قَالَ أَسْمَعُ دَاعِيَ اللهِ، فَلاَ أُجِيْبُهُ. فَأَخَذُوا بِيَدِهِ، فَدَخَلَ مَعَ الإِمَامِ فِي المَغْرِبِ, فَرَكَعَ رَكْعَةً, ثُمَّ مَاتَ"([8]).
وقال ضمرة بن ربيعة: "حَجَجْنَا مَعَ الْأَوْزَاعِيِّ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، فَمَا رَأَيْتُهُ مُضْطَجِعًا عَلَى الْمَحْمَلِ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ قَطُّ، وَكَانَ يُصَلِّي فَإِذَا غَلَبَهُ النَّوْمُ اسْتَنَدَ إِلَى الْقَتَبِ"([9]).
"وكان أبان بن عثمان بن عفان يشتري أهل البيت، فيكسوهم، ويعتقهم، ويقول: أستعين بهم على غمرات الموت، فمات وهو نائم في مسجده"([10]).
وقال الوليد بن مسلم: "رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه، يذكر الله، حتى تطلع الشمس، ويخبرنا عن السلف: أن ذلك كان هديهم، فإذا طلعت الشمس، قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله، والتفقه في دينه"([11]).
بهذا ونحوه ساد الأوائل وعزوا وزكت نفوسهم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والحمد لله رب العالمين.
([1]) رواه أبونعيم في الحلية.
([2]) رواه ابن حبان وأبوالشيخ.
([3]) رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان.
([4]) رواه أبونعيم في الحلية.
([5]) رواه أحمد في الزهد.
([6]) رواه أحمد في الزهد.
([7]) رواه ابن الجعد وأبونعيم.
([8]) صفة الصفوة وسير أعلام النبلاء.
([9]) رواه البيهقي في الشعب وابن عساكر في تاريخ دمشق.
([10]) سير أعلام النبلاء.
([11]) سير أعلام النبلاء.