قنوت رمضان
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قنت في شيء من وتر رمضان، وقد صلى بأصحابه ثلاث ليالٍ يرجو أن تكون ليلة القدر، ثم ترك الصلاة خشية أن يُفرض عليهم قيام رمضان، وإنما المعتمد فيه عند العلماء آثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وهي دالة في مجملها على أنهم كانوا يقنتون في رمضان في النصف الآخر من الشهر، وأول من قنت عمر رضي الله عنه، قال ابن جريج: "قلت لعطاء: القنوت في شهر رمضان؟ قال: عمر أول من قنت، قلت: النصف الآخر أجمع؟ قال: نعم"([1]).
وكانوا يقنتون بعد الرفع من الركوع، قال عبد الرحمن بن عبدٍ القارئ: "كانوا يلعنون الكفرة في النصف اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك .... ثم يكبر ويهوي ساجداً "([2]).
أما صفة هذا القنوت: فالثابت في القنوت إما قنوت الحسن رضي الله عنه، وإما قنوت الصحابة رضي الله عنهم.
وقنوت الحسن من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له، قال: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوَتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ»([3]).
وأما قنوت الصحابة في النصف من رمضان فقال عبد الرحمن بن عبدٍ القارئ: " وَكَانُوا يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي النِّصْفِ: اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِوَعْدِكَ، وَخَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ، وَأَلْقِ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَأَلْقِ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، إِلَهَ الْحَقِّ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدْعُو لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ لَعْنَةِ الْكَفَرَةِ، وَصَلَاتِهِ عَلَى النَّبِيِّ، وَاسْتِغْفَارِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَمَسْأَلَتِهِ: اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ رَبَّنَا، وَنَخَافُ عَذَابَكَ الْجِدَّ، إِنَّ عَذَابَكَ لِمَنْ عَادَيْتَ مُلْحِقٌ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَهْوِي سَاجِدًا"([4]).
فكانوا يجمعون في قنوت رمضان بين دعاء الحاجة وهو متعلق بالنوازل وحاجة المسلمين، وبين دعاء الوتر العام.
ولكن لا يتعين هذا الدعاء، قال النووي رحمه الله: "الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه لا يتعين، بل يحصل بكل دعاء"([5]).
ولكن ما ثبت من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل صحابته رضي الله عنهم أولى، وإن زاد فالأولى أن يدعو بالأدعية النبوية الثابتة، فهي من جوامع الكلم، وفيها عصمة من الزلل.
والراجح الجهر في قنوت رمضان، والسنة في صفة رفع اليدين في الدعاء: أن يضم الداعي كفيه، ويجعل بطونهما مما يلي وجهه.
وبعد الانتهاء من رفع اليد والدعاء، يُنزل المصلي يديه ولا يمسح بهما وجهه، قال البيهقي رحمه الله: "فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت"([6]).
وقال العز بن عبدالسلام رحمه الله: "ولا يفعله إلا جاهل"([7]).
ولا يشرع ابتداء دعاء القنوت بالحمد والثناء على الله عز وجل، وإنما يبدأ بدعاء القنوت مباشرة.
واتفق العلماء رحمهم الله على كراهة إطالة القنوت في الجماعة، فمن الخطأ إطالة القنوت، والإشقاق على الناس بطول الوقوف، ومن تأمل أدعية القرآن التي ذُكرت عن الأنبياء وذُكرت عن الصالحين وكذا الواردة في السنة يجدها قصيرة.
ومن مخالفات الدعاء كثرة السجع فيه، فعن عكرمة أن ابن عباس قال له: " فَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّى عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ. يَعْنِى لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ الاِجْتِنَابَ"([8]).
ومن المخالفات المهمة أيضا التلحين في الدعاء، وترتيله كترتيل القرآن، قال ابن تيمية رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» يقتضي أن التغني المشروع هو بالقرآن، وأن من تغنى بغيره فهو مذموم"، وذكر رحمه الله: "أن الألحان في الصلوات مما أحدثه النصارى في دينهم"([9]).
وقال الكمال بن الهمام الحنفي رحمه الله: "ولا أرى تحرير النغم في الدعاء كما يفعله القراء في هذا الزمان يصدر ممن يفهم معنى الدعاء والسؤال، وما ذاك إلا نوع لعبٍ، فإنه لو قُدّر في الشاهد _ أي المشاهدة_ سائل حاجةٍ من ملك أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه من الخفض والرفع والتطريب والترجيع كالتغني، نُسب البتة إلى قصد السخرية واللعب، إذ مقام طلب الحاجـــــــــة التضــــــــرع لا التغني، فاستبان أن ذلك من مقتضيات الخيبـــــــــــــــة والحرمان"([10]).
([1]) رواه ابن أبي شيبة.
([2]) رواه ابن خزيمة.
([3]) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم.
([4]) رواه ابن خزيمة.
([5]) المجموع (3/497).
([6]) السنن الكبرى (2/270).
([7]) الفتاوى ص(47).
([8]) رواه البخاري.
([9]) مجموع الفتاوى (1/291، 28/611).
([10]) فيض القدير (1/229).