وجاءت العشر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه أيام رمضان تتسارع، مضى، ونحن معه نمضي، وهو شاهد لنا أو علينا، بالأمس كنا نستقبله، وها هي عشره الأخيرة قد أقبلت، أيام ليس في الدهر مثلها، صفدت فيها الشياطين، وفتّحت فيها أبواب السماء والرحمة والجنة، وغلّقت أبواب النار والجحيم، ونادى فيها فيها المنادي: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة، من صامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وإن من رحمة الله بالعباد أن جعل أفضل أيام هذا الشهر آخره؛ إذ النفوس تنشط عند قرب النهاية، وتستدرك ما فاتها رغبة في التعويض، والعشر الأواخر خاتمة مسك رمضان، وهي كواسطة العقد لما فات من الشهر؛ لما لها من مزايا وفضائل ليست لغيرها؛ ففيها ليلة القدر التي عظم قدرها، وشرف مقدارها، من حُرم خيرها فقد حرم، لا يحرم خيرها إلا محروم، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحتفي بهذه العشر احتفاء عظيما، ويجتهد في العمل فيها أكثر من غيرها، ويستعد لذلك، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ»([1]).
وعنها رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»([2]).
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»([3]).
والمعنى أنه يعتزل النساء في هذه العشر، وينشغل بالعبادة والطاعة؛ وذلك لتصفو نفسه عن الأكدار والمشتهيات، فتكون أقرب لسمو القلب، وزكاة النفس، وأما إحياء الليل: فيكون بتلاوة القرآن والصلاة والذكر والدعاء ونحو ذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر كلها، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ»([4]).
وعن عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ»([5])
قال الزهري رحمه الله: "عجبا من الناس كيف تركوا الاعتكاف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك الاعتكاف حتى قبض"([6]).
وكان صلى الله عليه وسلم ينقطع باعتكافه عن الناس، ويتفرغ لربه، وهذا هو حقيقة الاعتكاف، ومعناه.
قال ابن رجب: "معنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق، للاتصال بخدمة الخالق"([7]).
وأقل مدة الاعتكاف يوم أو ليلة.
ومن أراد أن يعتكف العشر: يدخل معتكفه قبل غروب شمس ليلة الحادي والعشرين، ويخرج إذا انتهى رمضان، وذلك بغروب الشمس ليلة العيد.
وأما آدابه: فقالت عائشة رضي الله عنها: "السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ: أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ"([8]).
فلنستغل أخي هذه الأيام والليالي المباركات، ولنتذكر أنها تمر كطَيْفٍ زائر في المنام, تنقضي سريعاً, وتغادرنا كلمْح البصر, فليكن قلةُ عددِها معيناً لك على اغتنامها، فالسعيد من اغتنم ما يفنى لما يبقى، واجتهد في البر والتقوى.
([1]) رواه مسلم.
([2]) رواه البخاري.
([3]) رواه مسلم.
([4]) متفق عليه.
([5]) متفق عليه.
([6]) عمدة القارئ (11/140).
([7]) لطائف المعارف ص(349).
([8]) رواه أبوداود والبيهقي.