معالم الإصلاح الحقيقي
الإصلاح غاية جليلة، يسعى إليها الصادقون في كل زمان ومكان، وإذا كنا نتكلم عن الإصلاح فلابد أن نبين أن هناك اتجاهات عدة في التعامل مع الواقع والحياة في ميادين الاجتماع والفلسفة وغيرها، فهناك اتجاهات ترى أن الواقع بخيره وشره أمر مفروض ينبغي القبول به كما هو، دون إعمال للعقل والمثل العليا..
وهناك اتجاهات لبعض منسوبي العلوم الحديثة تنادي بسلب الإرادة الإنسانية، وتعتبر الإنسان كالكائن الآلي، وتزعم أن الإرادة الإنسانية وَهْمٌ في ظل الحتمية الجينيَّة، وبالمقابل فإن هناك اتجاهات دينية وفلسفية تبالغ في المثاليات، وترمي إلى إيجاد واقع ليس فيه إلا الخير المحض، عبر تصورات خيالية لا يمكنها تطبيقها واقعياً، وكل هذه التصورات عوائق في طريق الإصلاح الحقيقي..
وقد قال الله عن نبيه شعيب: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} فالشطر الأول من الآية يؤكد أن الإصلاح أمر ممكن بل واجب مؤكد، والشطر الثاني يبين أن الإصلاح مرهون بالاستطاعة، فالشر الذي لا يمكن دفعه بالكلية فلا أقل من تخفيفه، والخير الذي لا يُمكن جلبه كاملاً فلا أقل من أن يُجلب منه ما يستطاع، وهكذا عبر عملية إصلاحية واقعية مستمرة.
والإصلاح أول ما يبدأ على مستوى الأفراد، فالفرد نواة الأسرة والمجتمع، فإذا صلح صلحت الأسرة واستقام المجتمع، وأهم ما يحتاج إليه الفرد الصدق مع النفس، والشفافية في التعامل مع الذات، فالذي لا يعترف بما عنده من نقص لن يسعى إلى الإصلاح، بل قد يفقد تدريجياً الشعور بأي نقص موجود أو قد يوجد، فيصبح حينئذ كمن أصيب باعتلال في الأعصاب وفقد نعمة الإحساس بالألم، ومثل هذا قد يمشي على أشواك دامية فيتضرر من دون أن ينتبه لذلك..
والباطن هو الجوهر الذي تنعكس إشراقته على الظاهر، وأساسه القلب ملك الجوارح، فمن تعاهد قلبه فملأه بمحبة الله ورسوله ومحبة الخير للناس انعكس ذلك على جوارحه، فحافظ على حقوق ربه وحقوق الناس، وكان جميل العشرة في التعامل، مؤدياً حق وطنه وقيادته، متحلياً بالنظرة الإيجابية المعتدلة الحكيمة في التعامل مع الأمور..
ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن راقب الله تعالى أحسن القول والعمل، ومن داوم على محاسبة نفسه مارس الإصلاح ممارسة يومية، فكان في تصحيح دائم مستمر لما قد يقع منه من نقص وتقصير، مستحضراً الحديث النبوي: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون».
وأما الإصلاح على مستوى الأسر فبأن تكون متراحمة متماسكة، معترفة بأن الخطأ من طبيعة الإنسان، وأنه لا يخلو منه زوج أو زوجة أو أولاد، وأن الإصلاح عملية مهمة لسد النقص ومعالجة الأخطاء وتعزيز الإيجابيات، وضرورة حياتية لا تستغني عنها الأسر في زمان ومكان، وإنَّ من أكبر معوقات الإصلاح الأسري مواجهة الأخطاء بالانفعال والعصبية..
فالغضب والانفعال عواصف تسد أبواب التفاهم، وتقلب المشكلة الصغيرة إلى مشاكل كبيرة يصعب حلها، ومن ذلك أيضاً الأنانية، فهي تضعف العلاقات وتفسدها، وتقف حجر عثرة أمام الإصلاح الأسري الذي يحتاج إلى مرونة وإيمان بالمصالح المشتركة، وبمقدار امتلاك الزوجين للصفات الإيجابية من الرحمة والحكمة والإيثار وغيرها تعبر سفينة الأسرة عباب الحياة بسعادة وهناء.
وأما الإصلاح على مستوى المجتمعات فبأن تتواصى بالحق والصبر ونشر الفضيلة والقيم الرفيعة، وتتعاون في تحقيق المصالح النافعة المشتركة، وتحرص على التلاحم ونبذ التفرق، وتتكافل فيما بينها، فالكبير يرحم الصغير، والقوي يساعد الضعيف، والغني يعين الفقير، والحاكم يرعى شعبه، والشعب يقف مع حاكمه..
فالكل كالجسد الواحد، لا تكسرهم التحديات، ولا تفرقهم المؤامرات، ولا تفتُّ في عضضهم الإشاعات، بل هم كالبنيان المرصوص، وما من نقص في جانب من جوانب المجتمع إلا ويتكاتف الجميع في إصلاحه بالطرق المثلى.
وهكذا أيضاً الإصلاح على مستوى المؤسسات، بأن تؤدي مهامها على أكمل وجه، وتسعى باستمرار للارتقاء وإصلاح ما قد يوجد من نقص، وتضع الاستراتيجيات اللازمة لتحقيق هذا الغرض، ومما يعين على ذلك التكامل فيما بين المؤسسات؛ سواء كانت تعليمية أو إعلامية أو دينية أو ثقافية أو اجتماعية أو غيرها..
فهناك مسارات كثيرة مشتركة تحتاج إلى جهود تنسيقية بين المؤسسات لإنجاحها، فمكافحة الإرهاب مثلاً قضية مشتركة، وبمقدار الرؤية الموحدة والمخرجات العميقة بين المؤسسات في مكافحة هذا الداء تتكامل التصورات الوقائية والعلاجية ويتحقق الهدف المنشود وهو القضاء على التطرف ومسبباته وتعزيز الوسطية والاعتدال، وهكذا في المسارات المشتركة الأخرى.
ولابد للعاقل في ذلك كله من أن يفرق بين الإصلاح الحقيقي والإصلاح المزعوم، فالإصلاح الحقيقي هو الذي يهدف إلى تحقيق المصالح وتقليل المفاسد والمحافظة على الضرورات الكبرى، فلا يُراق على أعتابه الدماء المصانة، ولا يُمارس باسمه صراعات على السياسة والحكم، ولا تشعل باسمه ثورات سلمية أو غير سلمية تهدم وتفسد، ولا يُعتدى باسمه على الثوابت والهوية..
ولا يُستورد باسمه أفكار دخيلة وتحزبات مقيتة، فإن الإصلاح ليس مجرد مزاعم ودعاوى، بل أفعال وحقائق، وقد حذر الله ممن يوظف الإصلاح لأغراضه المشبوهة فقال: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}.