ليس المؤمن بالطعان
الحمدُ للهِ رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيراً، أما بعد
فعن عَبْدَ الله ِبْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِصلى الله عليه وسلم أَي ُّالْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: (مَن ْسَلِمَ الْمُسْلِمُون َمِنْ لِسَانِه ِوَيَدِهِ)([1]).
وأكد صلى الله عليه وسلم على أن اللسان إذا صَلُح واستقام؛ تبعته بقية الجوارح في الصلاحِ والاستقامةِ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَصْبَحَ ابْن ُآدَم َفَإِنّ َالأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا)([2])، ومعنى تكفِّرُ اللسان، أي: تذلُّ وتخضعُ له.
وإن من آفاتِ اللسان التي ابتلي بها كثير من الناس؛ السبُّ والشَّتمُ واللَّعْن، ولعظيم خطرها وشناعة عاقبتها، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّها منافية لصفةِ الإيمان، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الفَاحِشِ وَلاَ البَذِيءِ)([3]).
واللعن: هو الدعاء بالطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى.
وحَذَّر صلى الله عليه وسلممن لعنِ الآخرين والدعاءِ عليهم فقال: (لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّهِ، وَلَا بِغَضَبِ اللَّهِ، وَلَا بِالنَّارِ)([4]). فيحرم على المسلم أن يَدعوَ على أخيه المسلم باللعنة، أو بأن يغضب الله عليه، أو أن يُدخله النار.
واللعانون يُحرمون من كرامةِ الله تعالى للمؤمنين بالشهادة يومَ القيامة، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنهقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاء يَوْم الْقِيَامَة)([5]). فلا تُقبل لهم شفاعة عند الله تعالى.
ومن لعن غيره بغير وجه حق؛ رجعت اللعنة عليه –والعياذ بالله- فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما،أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ عِنْدَ النَّبِيِّصلى الله عليه وسلم, فَقَال:(لَا تَلْعَنِ الرِّيحَ؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ , وَلَيْسَ أَحَدٌ يَلْعَنُ شَيْئًا - لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ -؛ إِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ اللعنة)([6]).
وفي لفظ أبي داود: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا).
فالدعاء على الآخرين ولعنهم أمره خطير، تساهل فيه كثير من الناس، حتى وصل بهم الحال إلى لعن كل شيءٍ يؤذيهم أو يُعكر صفو مزاجهم–ولو لأدنى سبب-، بل وتجدهم يلعنون البهائم والجمادات التي لا تعقل شيئاً.
ولما كان اللعن دُعَاءٌ، وكانّ الله عز وجل رُبمَا يستجِيب ذلك الدعاء؛ فإن اللعنةَ قد تقع وتُصيب الملعون، فأي خير وأيّ رحمة وأيّ بركة يرجوها المسلم من الملعون إذا وقعت عليه اللعنة؟! وقد كان النبي صلى الله عليه وسلمفِي سَفَرٍ فَسَمِعَ لَعْنَةً،فَقَالَ: (مَاهَذِهِ؟) قَالُوا: هَذِهِ فُلَانَةُ لَعَنَتْ رَاحِلَتَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّصلى الله عليه وسلم : (ضَعُوا عَنْهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ)([7])، وفي لفظ قال: (لَا تَصْحَبْنَا رَاحِلَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَة ٌمِنَ اللَّهِ).فأمر بإطلاقها عقوبة لها على فعلها([8]).
وقد لعن رجلٌ بعيره، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟) قَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (انْزِلْ عَنْهُ، فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ ،فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ)([9])، فهذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ المسلم على نفسه أو على ولده أو على ماله، فإن الدعاء قد يوافق ساعة استجابة، فإذا ما أجاب الله تلك الدعوة على هؤلاء الثلاثة فأي خير وأي فلاح سيجنيه العبد بعد ذلك، فلربما أوقع على نفسه البلاء، أو أهلكَ ولده، أو أتلفَ ماله، فحينها ولاتَ حينَ مندم.
ومن العجب والله! أن تَجدَ في زماننا مَن يجعل اللعن والشتمَ من أساليب التعجب!! فتراه إذا أعجبه شيء من ماله أو بهائمه أو طيوره قال: "الله يلعن خيره ما أحسنه!" وعبارات نحوها، فالله المستعان، وعلى ربنا التكلان.
وقدكان بعض السلف من شدة حرصه وتقواه؛ لا يُدخل بيته شيءً ملعوناً، ولا يأكل من بيض دجاجة يلعنها، ولا يشرب من لبن شاة لعنها، قال بعضهم: ما أكلت شَيْئا ملعونا قطّ([10]).
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
([1]) رواه مسلم.
([2]) رواه الترمذي.
([3])رواه أحمد والترمذي.
([4]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
([5]) رواه مسلم.
([6])رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
([7]) رواه أبوداود.
([8]) قَالَ أَبُوحَاتِمٍ: أَمْر الْمُصْطَفَى ﷺ بِتَسْيِيبِ الرَّاحِلَةِ الَّتِي لُعِنَتْ؛ أَمْرٌ أُضْمِرَ فِيهِ سَبَبُه , وَهُوَ حَقِيقَةُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ لِلاَّعِنِ, فَمَتَى عُلِمَ اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ مِنْ لاعنٍ مَا رَاحِلَةً لَهُ؛ أَمَرْنَاهُ بِتَسْيِيبِهَا , وَلَا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِ هَذَا؛ لِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ, فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْفِعْلِ لأحدٍ أبداً.
([9]) رواه مسلم.
([10]) مجموعة رسائل ابن رجب.