أمانة الكلمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:
إخواني الأفاضل : لقد جعل الله الخطاب وسيلة للتفاهم بين الناس، فينقل أحدهم ما يريد إلى الآخرين بكلمة مفهمة، وخطاب جميل، ليعقلوا عنه قوله، ويفهموا مراده، فتستمر الحياة، ويتعارف الناس، ويتعاونون فيما بينهم.
و بفضل الله سبحانه وتعالى أن يسر لنا من الوسائل ما به تنقل الكلمات، في أزمنة يسيرة ولحظات، فيعرف من في شرق العالم ما قاله من هو في غربه في ثوان يسيرات.
فهذه الشبكة العالمية –الانترنت – وببرامجها المختلفة، وهذه الصحف والمجلات، وهذه الفضائيات من أكبر وأشهر هذه الوسائل التي اعتنت بنشر الكلمة.
وهذه الكلمة التي تصدرُ من الإنسانِ سواءٌ كانت مسموعةً أو مكتوبةً مقروءة لها أثرها الكبير، على صعيد الأفراد و المجتمعات و حتى في تحديد المصير، ولذلك فهي أمانة في عنق صاحبها وسيسأل عنها يوم القيامة ، قال تعالى (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )[ق : 18 ] ولأجل ذلك كان على الإنسان العاقلِ أن يتفكرَ ملياً قبلَ أن يُصدرَ مقولته وكلمتهُ، فيسمَعها أو يقرأها غيرهُ، وإلا كانت عليه وبالاً يومَ القيامةِ ، قال تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) [الإسراء : 36] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن العبد ليتكلمُ بالكلمةِ من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخطِ الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب " رواه البخاري
ولقد ضرب الله سبحانه وتعالى للكلمة مثلا فقال : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) فالكلمة نوعان كلمة طيبة كثيرة النفع، وكلمة خبيثة لا ثبات لها ولا نفع، فلا ينتفع بها المتكلم ولا ينتفع بها غيره .
ولقد حثنا ديننا الإسلامي الحنيف على طيب الكلام، ورهبنا وحذرنا من شره فمن ذلك قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ،يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: ٧٠ – ٧١].
فيأمر الله تعالى المؤمنين بتقواه ، ويندبهم للقول السديد وهو القول الموافق للصواب أو المقارب له عند تعذر اليقين من قراءة وذكر وأمر بمعروف ونهي عن منكر والعلم والحرص على إصابة الحق، وسلوك كل طريق موصل لذلك.
ومن القول السديد لين الكلام ولطفه في مخاطبة الأنام كما قال تعالى لموسى عليه السلام لما أرسله لفرعون يدعون إلى الله (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) [طه: ٤٣ – ٤٤].
وورد أن أحد الناس وعظ أميرا من الأمراء فأغلظ له فقال الأمير: هون عليك يا هذا، لقد بعثَ اللهُ مَن هوَ أفضلُ منكَ وهو موسى إلى مَن هو أشرُ مني، وهو فرعون، ومع ذلك قال تعالى: " فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا" فلن تبلغَ درجةَ موسى ولن أنحدرَ إلى درجةِ فرعون .
فكم نحتاجُ إلى ذلك الأدب لتربية ودعوة من تحت أيدينا من أهلٍ وزوجةٍ وأولادٍ وطلابٍ وموظّفينَ، فهم أولى بالرِّفق واللِّينِ من فرعونَ الطاغيةِ.
ثم ذكر الله تعالى في الآية ثمرات تحقيق التقوى والقول السديد فقال " يصلح لكم أعمالكم " فتكون الكلمة الطيبة سببا لصلاح الأعمال وطريقا لقبولها ، كما أن الإخلال بهما سببٌ لفساد الأعمال وعدمِ قبولها وعدمِ ترتب آثارها عليها [1]
وقال صلى الله عليه وسلم حاثا على الكلمة الطيبة بكل معانيها ((وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ)) رواه مسلم .
وللكلمة الطيبة آثارٌ وثمارٌ يجنيها المسلم في حياته وبعد موته، فالكلمةُ الطيّبةُ تحفظُ المودّةَ، وتديم الصحبةَ، وتمنعُ كيدَ الشيطان من أن يفسدَ ذاتَ البين؛ قال تعالى (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) [الإسراء:53]. قال أهل التفسير: "والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره " [2]
بل إنَّ طيبَ الكلام حتى مع الأعداءِ مطلوبٌ؛ لأنَّه سببٌ في إطفاء الخصومة وإخماد الغضبِ؛ مِمَّا يُقرِّبُ القلوبَ ويُذهبُ غيظَ الصدورِ، قال تعالى (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) [فصّلت:34].
قال طلحةُ بن عمرَ التابعيُّ لعطاءَ بن أبي رباحٍ: إنّك رجلٌ يجتمعُ عندك ناسٌ ذوو أهواءَ مختلفةٍ، وأنا رجلٌ فيَّ حِدّةٌ، فأقولُ لهم بعضَ القول الغليظ. فقال: لا تفعل؛ فإنّ اللهَ تعالى يقول: "وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا"، قال عطاءٌ: فدخلَ في هذا اليهودُ والنصارى، فكيف بالحنيفيِّ؟! يعني: المسلم.
والكلمة الطيبة سبب لدخول الجنة ، فعن أبي المقدامِ عن أبيه عن جدّه قال: قلتُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أخبرني بشيءٍ يوجبُ الجنةَ، قال: ((عَليكَ بِحُسْنِ الكَلاَمِ وَبَذْلِ الطَّعَامِ)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((اتَّقوا النارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)) متفقٌ عليه
وطِيبَ الكلامِ مجالٌ واسعٌ ومفهومٌ عظيمٌ يشملُ مجالات الخيرِ كلِّها؛ من أمر بمعروفٍ ونهي عن منكر وقراءة للقرآن وذكرٍ وتسبيح واستغفار ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وملاطفة للزوجات والأولاد، قال صلى الله عليه وسلم :" أربع من أطيب الكلام وهن من القرآن لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر "
وأما النوع الثاني من أنواع الكلم الذي ذكره الله هو الكلمة الخبيثة ، التي لا قرار لها ولا نفع ، فعلى المسلم أن يتركها ويهجرها، فلن تزيده إلا ندما وحسرة ، بل هي سبب لذم الناس للمتكلم والنيل من عرضه ومكانته ، قال بعضُ السلف: "إنّي لأرى الرجلَ فيُعجبُني، فإذا تكلَّمَ سقطَ من عيني".
والكلمة الخبيثة من أعظم أسبابِ ولوجِ النار ، فقد سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناسِ النارِ . قال : الفم والفرج . وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال :قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله : قلت بلى يا رسول الله . قال :كف عليك هذا وأشار إلى لسانه . قلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال: ثكلتك أمك ، وهل يكبُ الناسَ في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم .
والكلمة الخبيثة سبب لضياع الحسنات واكتساب السيئات ، قال صلى الله عليه وسلم : أتدرون ما المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة ، وصيام ، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا وضرب هذا ،فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار .
وكما أنَّ مجالَ الكلمة الطيّبةِ واسعٌ فإنَّ مجالَ الكلمة الخبيثة أوسعُ؛ أعظمُه الإشراكُ بالله تعالى، والقولُ على الله بغير علمٍ، وشهادةُ الزورِ، والسحرُ، والقذفُ، والشتمُ والسّبابُ، والغيبةُ والنميمةُ، والكذبُ، والمراءُ والجدالُ بالباطل، وتزكية النفوسِ، والخصوماتُ، والغناءُ المحرّم، والسُّخريةُ والهمزُ والاستهزاءُ بالمسلمين وبدينهم، كلُّ هذه من أُمّهات الخبائث الموجبة للحرمان من رحمة الله المورثة للضغائن والأحقاد بين الناس.
فعلى المسلم العاقل أن يحفظ لسانه، وأن يطهّره من الخُبْثِ والخبائث، وان يعلم أنّه لن يسع الناسَ بماله، ولكن يسعُهم منه بسطُ الوجه وكفُّ الأذى وحسنُ الخُلُقِ وطيبُ الكلام، ولينظر فيما يكتبه للناس، فإنه سيبقى وإن فني هو، فيذكر بخير إن كان خيرا، ويذكر بشر إن كان شرا.
وفقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه
[1] - تفسير السعدي بتصرف
[2] - تفسير السعدي