الربيع العربي وحال الأقلام الكاتبة في الإمارات


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

 الحمد لله العزيز الأكرم الذي علَّم بالقلم، وأشهد أن لا إله إلا هو الملك السلام المؤمن يغفر لمن يشاء ويرحم، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله أنار للناس الدرب وبه كمل الله الدين وأتمّ، فاللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد،

فقد سخَّر الله تعالى الأقلام معبِّرة عمَّا في القلب واللسان من أفكار بني الإنسان فـالقلم لسان الضمير يناجيه بما استتر عن الأسماع، فينسج حلل المعاني في الطرفين، فتعود أحسنَ من الوَشْي المرقوم، ويُودِعها حِكمَه فتصير بوادر الفهوم والأقلام نظامًا للأفهام.

      وكما أنَّ اللسان بريد القلب فالقلم بريد اللسان، وتولُّد الحروف المسموعة عن اللسان كتولُّد الحروف المكتوبة عن القلم، والقلم بريد القلب ورسوله وترجمانه ولسانه الصامت”([1]).

      ولهذا من كتب في قرطاس فكأنَّما عرض عقله في طبق على الناس، يقول لهم انظروا ما في هذا الراس.

ولقد كَشَفَت أحداثُ الربيع العربي -التي وقعت في بعض الدول وانتقل أثرها إلى البعض الدول الأخرى- عن حال كثير من الأقلام الكاتبة في دولة الإمارات – حرسها الله من كيد الأعداء – تفاوتت في رتبها ما بين ممدوح ومذموم، وما بين حائر هائم، ومتوقف متهم.

كلُّ قلم كشف في قرطاسه ما في جوفه([2]) من حبر سليم مصلح أو حبر مدسوس مغرض أو حبر مسموم مفسد، ولهذا فإن النَّاظر في الأحداث يجد أن الأقلام الكاتبة في دولتنا انقسمت إلى خمسة أقلام، وهي على سبيل الإجمال:

القلم الأول: قلم يتدفق سُنة وعطاء، ونُصرة ووفاء.

القلم الثاني: قلم ينبعث فتنة وشبهات.

القلم الثالث: قلم نطق ألفًا وسكت عن حقٍ.

القلم الرابع: قلم توقف حيرة وتخبطًا.

القلم الخامس: قلم يتقمص دورًا يريد منفعة.

وأما على سبيل التفصيل:

القلم الأول: قلم يتدفق سُنَّة وعطاء، ونُصرة ووفاء.

لم يزل هذا القلم يكتب في خدمة السنَّة، ونصرة الجماعة، فلا تجده ينفث حبره إلا في نشر الخير، ولا تسمع صرير قلمه إلا في نصرة وطنه ورد الفتنة عنه،

إن فتحتَ له صفحة أو تابعته في حساب أو قرأت له في موقع فإنك تجد إخلاصًا وولاء نابعًا عن دين ووفاء وصدق وصفاء.

جعل جلَّ وقته في بيان الحقِّ والحثِّ على لزوم الجماعة والسمع والطاعة للحكام بالمعروف.

رفضَ التحزبات، ومنع من التكتلات وردَّ على الشبهات، بعلم وحكمة ونيَّة صالحة، لم يردْ من ذلك جزاءً ولا شكورًا، يفعل كلَّ ذلك قيامًا بواجب الدِّين، وردًّا لشيء من الجميل، لهذا الوطن وقيادته.

فهذا القلم هو الذي لا بدَّ أن يذكر فيشكر، وهو الذي لا بدَّ بين الناس أن ينشر؛ إذ هو القلم النَّاصح الأمين، المؤتمن على أديان الناس، وعقولهم وأفكارهم من كلِّ فكر دخيل.

وهذا القلم يقال له: زادك الله حرصًا وعطاءً، وجعلك الله سهمًا في قلوب المنحرفين المتطرفين، والخائنين المندسين، وجعل الله قلمك نبراسًا لأهل الحقِّ المتمسكين بسنَّة سيد المرسلين، المحافظين على جماعة المسلمين.

قال ابن القيم في مدح هذا النوع من الأقلام: «القلم الثاني عشرالقلم الجامع، وهو قلم الردِّ على المبطلين ورفع سنَّة المُحقين، وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحقِّ ودخولهم في الباطل، وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام وأصحابه أهل الحجَّة، الناصرون لمَّا جاءت به الرَّسل المحاربون لأعدائهم، وهم الدَّاعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، وأصحاب هذا القلم حرب لكلِّ مبطل، وعدوٍّ لكلِّ مخالف للرسل، فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن»([3]).

القلم الثاني: قلم ينبعث فتنة وشبهات.

هذا القلم لم يدع للناس مجالًا للتحيّر، وأراح الناس من البحث والتفكّر، فهو لا يكتب إلا لخدمة حزبه، ولا يخط إلا لنصرة جماعته، تتدفق منه أفكار حزبية، ويسيل مداده بشبهات إخوانية.

لم يلتزم بالسنن بل أعلنها صراحة: (نريد الفتن)، قَلَب الحقائق على العامَّة، وأذاع الإشاعات في المجتمع، وشوه جمال إماراتنا، وصورة حكامنا، صوَّر الصغائر في نظر النَّاس عظيمة، وجعل من المدائح ذميمة، واستدع من داخل الدولة وخارجها بحيله وألاعيبه من على شاكلته.

فأصحاب هذه الأقلام مفسدون مفتونون نسأل الله أن يردَّ ضالَّهم ومفتونهم والمغرر بهم، وأمَّا المصرُّون على الفتن وخراب البلاد فنسأل الله أن يردَّ كيدهم في نحورهم، ويطفأ فتنهم في قلوبهم.

القلم الثالث: قلم نطق ألفًا وسكت عن حقٍّ.

تأمَّل هذا القلم جيدًا فهو قلم سال حبره في جميع الميادين: ففي الأخلاق كتب، وفي حرية العقيدة سطَّر! وفي التَّسامح مع الأديان خطَّ!، سوَّد بخطه كثيرًا من الكراريس، لكن عندما جاء وقت الجدِّ ونزلت بالبلاد الفتن، وبدأ أهل التَّشغيب في دولتنا بالطعن وتهيج الشعب، وفي حكامنا بالسبِّ، رفع رأس القلم عن الورقة، وأحجم عن الكتابة، فلم يكتب حرفًا!

قلمٌ عجيب… توقف وقفة سريعة في بيان هذا الحقِّ دون مبرر!! لماذا يا ترى؟

  • هل لأنّه لا يملك القدرة على الكتابة!!!

  • أم لأنّ حبر القلم ملوث بأفكار الجماعة الإخوانية؟

  • أم يا تُرى زلّ به الفهم؟

  • أم هو خائف على جماهيره من التَّلاشي والانحصار؟

بل لو قيل: إنّ من هذه الأقلام أقلاماً رفعت أسن القلم عن بياض الورق؛ ليكتب غيرها – من أصحاب قلم الفتنة – ما يتفقان عليه من الأفكار المنحرفة، لم يكن ذلك ببعيد؟

بل منهم من كان يمهد في حال تدفق الحبر بعبارات تخدم أصحاب الأقلام المفتونة، جعل من كلماته جسورًا ممدودة، يصل بها عامَّة النَّاس لأصحاب الأقلام الإخوانية.

ألم يسطر في حريَّة الفكر، و يكتب في حريَّة العقيدة؟!

أوليس للإخوان المسلمين فكر؟ فهل لهم حريَّة في المطالبة بهذا الفكر!

أليس الخروج على الحكام عقيدة عند أصحابها؟ فهل لهم حريَّة الانتشار؟

أليس سبّ الحكّام والطعن فيهم فكر الخوارج والإخوان؟

فهل تريد أن تقول: إنَّ الإخوان لهم حريَّة الطعن في الحكَّام!

ولم يكتف بهذا فحسب بل جعل أكثر حرب قلمه وجلّ صراع بنانه، ضد أصحاب القلم الأول، الذين نصروا الدِّين، وحموا الدولة، وحافظوا على الجماعة.

فخلاصة هذا القلم: أنه جفّف حبره عن بيان حال أهل الباطل، ومدّ جسورًا سهل بها الوصول لأهل الفتن، وسال حبره في طعن أهل الحقِّ.

 القلم الرابع: قلم توقَّف حيرة وتخبطًا.

هذا القلم ظلَّ زمنًا يكتب على سنِّ قلم مشعوب، فلمَّا نزلت النَّازلة، تحيَّر الطريق، وترددت الأوراق والأقلام بين الإقدام والإحجام.

ينظر في أقلام مشبوهة توقَّفت من بعد التدفق، فيتوقف.

ويرى أقلامًا يسيل حبرها فتنًا وشبهًا، فتأخذه الحيرة والتردد.

ويبصر أقلامًا تتدفق نصرة للحقِّ، فيتفكر هل يقدم أم يتريث.

أصابته الحيرة فأصبح يضع سنَّ القلم على بياض الورق تارة: هل أكتب حقًّا أم باطلًا؟ ويرفعه تارة أخرى هل أسكت عن حق أو عن باطل؟.

لا يدري ماذا يكتب، ولا يعرف ماذا يخط. ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا([4]).

حَيْرانَ  ضلَّ  عنِ  الحقِّ  الْمُبينِ  فلا      يَنْفَكُّ    مُنْحَرِفًا   مُعْوَجّ   لَمْ   يَقُمِ

القلم الخامس: قلم يتقمص دورًا يريد منفعة.

هذا القلم قلم كتب في ظاهره مجاراة للقلم الأول فحثَّ على الاجتماع، وردَّ على أصحاب الأقلام الإخوانية، لكن هذا القلم لم يكتب إلا لأغراض ومصالح لا لنصرة الجماعة الحقّة، ولا لردّ أفكار بطالة منحرفة.

 ولأصحاب هذا القلم حالتان:

الحالة الأولى: قلم يكتب ليرفع التُّهمة عن نفسه خوفًا على مصالحه، فهو في حقيقته قلم إخواني يردَّ على الإخوان؛ لكي يغرِّر بالأغمار على أنَّه ليس من الإخوان. فهو على حدِّ قول القائل: رمتني بدائها وانسلت.

فهذا وإن كتب في الردِّ الإخوان والتطرف فإنه يكتب بصورة مجملة، ثم لا بدّ لقلمه من تقرير باطلهم، أو تبريره، أو التهوين من شرِّه، بل متى وجد القُّوة والنُّصرة أصبحت لهم، لم يتردد في نصرتهم، فهو إن كانت الغلبة لأهل الحقِّ من أهل السّنّة. قال: ألم أكن معكم!

وإن كانت القوة لأهل الباطل من الإخوان وغيرهم. قال: ألم أقف معكم وأحميكم من أهل الحقِّ والسنَّة!

الحالة الثانية: قلم سمع صرير الأقلام تكتب بعلم وحقِّ ونيَّة صالحة فإذا به يُدخل قلمًا  متقطع الخطِّ، ركيك العبارة  مع الأقلام المتدفِّقة السَّيَّالة، يريد الرفعة عند الأنام والسمعة عند الحكَّام أو منفعة عند السَّلطان، ليس إلا، ليس له معرفة بالحقِّ وطريقة تقريره، ولا بالباطل وردِّ زخارفه.

 فهذا القلم قلم غير مأمون؛ لأنّ أصل كتابته على غير علم وبصيرة، ولأغراض دنيويِّة، فمتى زال الغرض، أو منع من مقصوده الدنيوي تبدَّل خطّ سيره، وقلب الورقة، وكتب غير ما كان يقرر أو سكت عمّا كان يحذر.

وأصحاب هذه الأقلام متواجدون على مرِّ الزمن، متوعدون من النَّبيِّ المؤتمن حيث قال ﷺ فيمن هذا حاله: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ – وذكر منهم – وَرَجُلٌ بَايَعَ إمامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ“([5]).

فإذًا لا يخفاك أخي القارئ إلى أيِّ الأقلام تركن، و بأيِّ الأقلام تثق، ومن أي الأقلام يجب أن تحذر.

وإياك والاغترار بغير القلم الأول، وإن تزخرفت لك الأقلام وتبهرجت لك الأقوال، فظاهر تلك الأقلام مموَّه وباطنها مشوَّه، وبعضها لا يحمل إلا الأفكار الملوَّثة.

من تحلَّى بغير ما هو فيه … فضحته شواهد الامتحانِ

وأخو العلم تعرف العين منه … حركات من غير لفظ لسانِ

ونحن في زمن لا بدَّ فيه من رجال يعرفون الحقَّ ويوضحونه، ويميزون الدَّخن وينفضونه، ويعرفون الباطل ويردُّونه، كما قال الفضيل بن عياض-رحمه الله-: إن لله عبادًا تحيا بهم البلاد وهم أصحاب السنة، من كان منهم يعقل ما يدخل جوفه، ومن كان كذلك كان في حزب الله ([6]).

وفي هذا الوقت والزمن الذي تقلَّبت فيه الأحوال، وتقمصت فيه الشخصيات الأدوار، حتى رأينا مصداق قول رسول الله ﷺ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ([7])؛ نحتاج إلى فطنة وذكاء، وحِنكة ودهاء، إذ لا مجال للغفلة؛ فنقع في الهفوة والضياع.

بل نحن في هذا الوقت في أمسِّ الحاجة إلى الرجوع إلى الله –عزوجل- والتّمسك بكتابه، والسير على سنَّة نبيه ﷺ، والاجتماع على من ولَّاه الله.

قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾([8]).

وقال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ([9]).

وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تأويلًا([10]).

أسأل الله لي ولجميع المسلمين العصمة من الزلل، وأسأله سبحانه التّمسك بالكتاب والسنن ولزوم الجماعة والبعد عن الفتن.

______________________________________________

([1]) ينظر: التبيان في أيمان القرآن لابن القيم (303).

 ([2]) كما عبر كل مغرد في حسابه عما في قلبه من تأثر وتأييد، ومن ردٍّ واستنكار وتحذير.

([3]) التبيان في أيمان القرآن ابن القيم (310).

([4]) الأنعام: (٧١).

([5]) رواه البخاري (2358) ومسلم (108).

([6]) الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة (175).

([7]) ابن ماجه (4036).

([8]) آل عمران: (١٠٣).

([9]) الأنفال: (٤٦).

([10]) النساء: (٥٩).