مهددات الخطاب الديني المعتدل (1/2)
إنَّ الدعوة إلى الله تعالى عبر الخطاب الديني المستقيم من أفضل الأعمال، قال الله تعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} أي؛ لا أحد أحسن قولاً ممن هذه حالُه.
وهو عامٌّ في كل من كان مهتدياً في نفسه داعياً لغيره إلى الخير، سواء بتعليم جاهل، أو وعظ غافل، أو مجادلة مبطل، وتحبيب العباد إلى خالقهم، وبيان كمال رحمته، وجمال شريعته، وكثرة نعمه، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، مع تزيين الكلمة بالرفق واللين، وتحليتها بالحجة والبرهان، وتجميلها بالرحمة والحرص على هداية الخلق، وسلوك المنهج النبوي المعتدل المستنير في الدعوة والتعليم والتصحيح والعلاج.
وكما أنَّ للخطاب الديني مقوماتٍ وشروطاً ينبغي التحلي بها ليكون خطاباً صحيحاً سليماً مثمراً، فإنَّ هناك في المقابل مهدداتٍ وأموراً سلبيَّةً تسيء إليه وقد تشوِّهه، مما يوجب تجنُّبها والحذر منها، وهي ذات العوامل التي قد تحرف الداعية أو الشاب عن طريق الوسطية والاعتدال، وتزجُّ به في متاهات الإفراط أو التفريط. فمن مهددات الخطاب الديني:
أولاً؛ تحريف أهداف الخطاب الديني، ومن صور ذلك: الغلو في مسائل السياسة والحكم والإمامة والخلافة، واعتبارها الغاية الأولى والأساس، حتى رأينا المغالين يعتبرون تحقيق هذه الأمور هو أول الواجبات على المكلَّفين والعاملين في الدعوة. وهذا غلوٌّ شنيع ينافي الشرع، الذي بيَّن أنَّ الغاية الأساس من الدعوة إلى الله هي هداية الناس وتحبيبهم في عبادة الله وتوحيده وتقواه، قال الله سبحانه:
{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}، وقال تعالى: {لقد وصّينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}. وقد غرَّر المتشددون بالكثيرين من الشباب في هذا الباب، حتى أوهموهم بأن الحكومات القائمة اليوم كافرة، وأن الأرض اليوم مطبقة بالكفر والردة بما في ذلك مكة والمدينة، عافانا الله من هذه المعتقدات الفاسدة.
ثانياً؛ الجهل المركب، وهو إدراك الشيء على وجهٍ يخالف ما هو عليه، مثل أن يُبتلى شخصٌ بمعتقد خاطئ مع غلوٍّ وتشدُّدٍ، ثم يدَّعي أن ذلك هو مقتضى الشرع نتيجةَ فهمٍ مغلوط لدلالة النص، فيجمع بين سلبيات عدة: الجهل بمقتضى الشرع في هذا الباب، واعتقاد أمرٍ منافٍ للشرع، واعتقاد أنه على حق وصواب.
وقد يتجذَّر هذا الفهم المغلوط في أعماقه، فيوالي عليه ويعادي، بل ويبيح إزهاق نفسه في سبيله، ولذلك جاء في الحديث النبوي في وصف الخوارج: «يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم».
ومن هنا حذَّر العلماء من الشبهات المضلِّلة، وبالخصوص في أبواب الغلو والتطرف، ودعوا إلى علاجها والوقاية منها، وبيَّنوا أهمية إبطال الشبهات الزائفة بالطرق العلمية التي تكشفها وتبطلها، وضرورة التصدي للأفكار المنحرفة بالحجج النيِّرة.
ثالثاً؛ الاعتقاد قبل الاستدلال، وهو أحد الأسباب الموقعة في الجهل المركَّب، ومن أمثلته أن يتبنَّى الشاب الأفكار المتطرفة والمتشددة، ثم يبحث لها عن استدلالات شرعية، فيتجرأ بذلك على ليِّ أعناق النصوص وتحريف الكلم عن مواضعه، واستعمال الأقيسة الفاسدة والتحسينات العقلية القاصرة وتحريف كلام العلماء، انتصاراً للفكرة التي تبنَّاها ويبحث لها عن مبررات.
وقد يكون مبدأ ذلك أن هذا الشاب تأثر بمنظر حماسي أو كلمة عاطفية أو شعارات زائفة، فتسللت الأفكار المتشددة إلى عقله من هذه المسارب، واستطاعت أن تتغلغل في أعماقه لعدم وجود حصانة علمية، فيحاول هذا الشاب إرواء هذا الهوى الذي استولى عليه، بالبحث عما يبرِّره.
ولذلك حذَّر العلماء من هذه الطريقة الخطيرة في التفكير، وأرشدوا إلى أنَّ الصواب الاستدلال قبل الاعتقاد لا الاعتقاد قبل الاستدلال، ونوَّهوا على أهمية العلم وفضيلته وثمراته وأثره في تنوير الفرد وحمايته من الأفكار المنحرفة.
رابعاً؛ الاعتماد على العقل بالكلية دون الاستنارة بالشرع، والانجرار وراء العاطفة الهائجة من دون انضباط بالشرع، وهي من الأسباب التي توقع في شراك الاعتقاد قبل الاستدلال. ولذلك نوَّه العلماء على أنَّ العقل قد يعتريه ضعفٌ في المدارك، وقصورٌ في التفكير.
وخضوعٌ للهوى، ووقوعٌ في الحيرة والاضطراب، وسيطرة الخيالات والخرافات عليه، وغير ذلك من الآفات. ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "إنَّ للعقل حدًّا ينتهي إليه، كما أنَّ للبصر حدًّا ينتهي إليه"، ويقول بعض العلماء: "إن خطأ البصر قد ينتبه له العقل، ولا يكاد ينتبه لخطأ نفسه".
ولذلك نجد الكثيرين اليوم يتحدثون عن موانع التفكير السليم ويكتبون فيها ويحاضرون، وهكذا العواطف الهائجة قد تعمي صاحبها عن رؤية الحق والصواب، وقد يراه فلا يستجيب له أو لا يقوى على ذلك لشدة استحكام العواطف والانفعالات في نفسه. وحينئذ نقول: لا عاصم من الانحراف في الخطاب الديني والسلامة من أي عامل سلبي مؤثر، إلا بالتمسك بميزان الكتاب والسنة الذي يضبط العواطف ويهدي العقول.