الأسباب الموجبة لمحبة الله تعالى


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله  فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛

 نحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام، ونشكر إدارة مركز رياض الصالحين بدبي على جهودهم العلمية، ومحاضرة اليوم بعنوان: (الأسباب الموجبة لمحبة الله تعالى)، و قد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلاَ صَلاَةٍ، وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»([1]) ، وفي رواية قال أنس: «فَمَا فَرِحْنَا، بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، وهذه الرواية الأخرى في صحيح الإمام مسلم، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث كل هذا الفرح، فعمل العبد لماذا فرحوا؟ لأنهم أعلموا بأن الصدق في محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يدرك به المرء منزلة قلّ ما توصل إليها الأعمال، فعمل العبد كثيرا ما تلحقه الآفات والفترات والنقائص، أما إذا جمع الإنسان في قلبه محبة صادقة خالصة دائمة لله ورسوله فإن هذا يعوض نقصان عمله ويبلغه المنازل العالية؛ لهذا قال راوي الحديث أنس في رواية في صحيح مسلم: «فَأَنَا أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ»، إذًا المحبة أمر عظيم شيء جليل كما قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين قال: « المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات. والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله - يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة -: أن المرء مع من أحب. فيا لها من نعمة على المحبين سابغة، تالله لقد سبق القوم السعاة، وهم على ظهور الفرش نائمون، وقد تقدموا الركب بمراحل، وهم في سيرهم واقفون.

من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدا وتجيء في الأول» ([2]) .

 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «مَحَبَّةُ اللَّهِ بَلْ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَكْبَرِ أُصُولِهِ وَأَجَلِّ قَوَاعِدِهِ؛ بَلْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ كَمَا أَنَّ  التَّصْدِيقَ بِهِ أَصْلُ كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْوُجُودِ إنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ مَحَبَّةٍ: إمَّا عَنْ مَحَبَّةٍ مَحْمُودَةٍ أَوْ عَنْ مَحَبَّةٍ مَذْمُومَةٍ، فَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ، وَأَصْلُ الْمَحَبَّةِ الْمَحْمُودَةِ هِيَ مَحَبَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذْ الْعَمَلُ الصَّادِرُ عَنْ مَحَبَّةٍ مَذْمُومَةٍ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَكُونُ عَمَلًا صَالِحًا بَلْ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الدِّينِيَّةِ لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ» ([3]) .

 إذا أراد العبد منا أن يبرهن على صدق محبته، أو يحصل أصل تلك المحبة، أو أراد أن يترقى في مدارجها فلابد له من العمل، من خلال هذه المحاضرة نذكر أسبابا عشرة عدّها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين، وذكر أنها تستوجب محبة الله للعبد، فمن أخذ بهذه الأسباب العشرة أحبه الله عز وجل، فنذكر هذه الأسباب العشرة كما ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين:

 السبب الأول من الأسباب الموجبة لمحبة الله تعالى قال: «قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه. ليتفهم مراد صاحبه منه» ([4])، إذًا من الأسباب الجالبة محبة الله عز وجل قراءة القرآن بخشوع وتدبر وتفهم، وقد كان سلفنا الصالح يستشعرون هذا المعنى، كما يقول ابن قدامة في كتابه مختصر منهاج القاصدين: «كان السلف يستشعرون هذا المعنى، وهم يقرؤون القرآن حتى إنهم كانوا يتلقونه تلقي الغائب الغريب لرسالة جاءت على شوق من الحبيب، قال الحسن بن علي رضي الله عنه: إن من كان قبلكم رأووا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار»، ويقول الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: «ينبغي لتالي القرآن العظيم أن ينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه فى إيصال معاني كلامه إلى أفهامهم، وأن يعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه ويتدبر كلامه» ([5]) ؛ لأن القرآن هو الدال على الله وعلى محاب الله، فلا جرم أن كانت محبته هي طريق القلب والعقل لمعرفة الله وما يحبه الله، فمنه تعرف صفات الله وأسماؤه وما يليق به وما يتنزه عنه وما أمر به وما عنه من الشرائع المفصلة الموصلة إلى محبته ورضاه؛ لهذا فإن صحابيا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استجلب محبة الله بتلاوة سورة واحدة وبتدبرها ومحبة هذه وهي سورة الإخلاص التي فيها صفة الرحمن عز وجل، فظل يردد هذه السورة في صلاته فلما سئل عن ذلك قال: «لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأ بِهَا، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «أَخْبِرُوهُ أنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ»([6]) ، فأحبه الله عز وجل لأنه أحب هذه السورة، صار يرددها في صلاته، فالله عز وجل أحبه استجلب محبة الله عز وجل بتلاوة هذه السورة -سورة الإخلاص-، فلا بد لمن أحب القرآن أن يحب الله؛ لأن صفته فيه -في القرآن- ويحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المبلغ له، قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: «منْ كَانَ يُحِبُّ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»([7]) ،  لا شك أن من أكبر الدلائل على محبة القرآن السعي إلى تفهمه وتدبره والتفكر في معانيه، الله عز وجل يقول: ﵟأَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٨٢ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵒﵘﵜ، إذًا هذا هو السبب الأول من الأسباب الموجبة لمحبة الله عز وجل قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه.

السبب الثاني الموجب لمحبة الله عز وجل: يقول ابن القيم: « التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة»، والمعلوم أن أداء الفرائض هو أفضل ما يتقرب به إلى الله، وهذا ما دل عليه حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه:  جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأسِ نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَإذا هُوَ يَسألُ عَنِ الإسْلاَم، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ صَلَواتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: «لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ» فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: «وَصِيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ» قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: «لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ» قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ» فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لاَ أُزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «أفْلَحَ إنْ صَدَقَ»([8])، فهذا الرجل يفلح بأداء الفرائض لكن من يأتي بالتطوعات والنوافل يكون أفلح منه وأعلى درجة وأكثر قربى، فمؤدي الفرائض كاملة محبّ لله ومؤديها وبعدها النوافل محبوب من الله، يدل على ذلك الحديث الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه وتعالى -حديث قدسي- قال الله عز وجل في هذا الحديث القدسي: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدي بشَيءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أحِبَّهُ» ([9])، إذًا المتقرب بالنوافل له خصوص مميزة تجعله أعلى مرتبة من مؤدي الفرائض فقط؛ لأن الفرائض مطلوبة من العبد أصلا وهو مكلف بها وآثم بتركها، وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: «جرت العادة أن التقرب يكون غالبا بغير ما وجب على المتقرب كالهدية والتحفة بخلاف من يؤدي ما عليه من خراج أو يقضي ما عليه من دين، وأيضا فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض كما صح في الحديث الذي أخرجه مسلم: (انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته) الحديث بمعناه، فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها» ([10]) ،  إذًا هما صنفان من الناجين الفائزين: الصنف الأول: المحب لله مؤدي الفرائض وقاف عند حدود الله.

 الصنف الثاني: المحبوب من الله متقرب بعد الفرائض بالنوافل، وهذا مقصود ابن القيم رحمه الله عندما قال: فإنها موصلة إلى درجة المحبوبية بعد المحبة، فالمحبون المتقربون بالفرائض والمحبوبون المتقربون بالنوافل بعد الفرائض هم أولياء الله وأصفياؤه وخيرته من الخلق، وفي هؤلاء وأولئك تنزلت الآيات ووردت الأحاديث، يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: «أولياء الله المقربون قسمان: أحدهما من تقرب إلى الله بأداء الفرائض، والثاني من تقرب إلى الله تعالى بعد الفرائض بالنوافل، وهم أهل درجة السابقين المقربين؛ لأنهم تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، وذلك يوجب للعبد محبة الله كما قال عز وجل في الحديث القدسي: ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِلِ حتّى أُحبَّه، فمن أحبه الله رزقه ومحبته وطاعته والحظوة عنده» ([11])، إذًا هذا هو السبب الثاني الموجب لمحبة الله تعالى التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.

 السبب الثالث من الأسباب الموجبة لمحبة الله: يقول ابن القيم: «دوام ذكره على كل حال: باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر»، إذًا ذكر الله تعالى هو شعار المحبين لله المحبوبين من الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول: «أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ»([12]) .

إذًا دوام ذكر الله عز وجل على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال هذا من الأسباب الموجبة لمحبة الله عز وجل، إذًا صاحب الأذكار مذكور عند الله عز وجل بالثناء والمحمدة والمحبة، موعود بالمغفرة والأجور العظيمة، والله عز وجل يقول: ﵟفَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵒﵕﵑﵜ ، والله عز وجل يقول: ﵟوَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا ٣٥ﵞ ﵝالأَحۡزَاب : ﵕﵓﵜ، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله عن الذاكر: فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر، قولٌ صحيح مفترق مستقرأ من مجمل نصوص الوحي، فنحن نرى أن الله تعالى لا يأمر في كتابه بالذكر فقط بل يأمر بالإكثار منه، يقول سبحانه آمرًا بالإكثار من الذكر: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرٗا كَثِيرٗا ٤١ وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا ٤٢ﵞ ﵝالأَحۡزَاب : ﵑﵔ - ﵒﵔﵜ ، ويثني على الذاكرين الله على كل حال ويصفهم بأنهم من أولي الألباب والنهى، فيقول عز وجل: ﵟإِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵐﵙﵑ - ﵑﵙﵑﵜ، إذًا السبب الثالث الموجب لمحبة الله دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال.

 السبب الرابع  الموجب لمحبة الله تعالى: يقول ابن القيم : «إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه، وإن صعب المرتقى»، يشرح هذا الكلام ويشرح الدرجة الثانية من درجات منزلة الإيثار وهي: «إيثار رضا الله على رضا غيره، وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطول والبدن» هكذا يقول ابن القيم.

 ثم يقول: «إيثار رضا الله عز وجل على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا صلى الله عليه وسلم عليه وعليهم، فإنه قاوم العالم كله وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم بل كان همه وعزمه وسعيه كله مقصورا على إيثار مرضاة الله، وتبليغ رسالاته، وإعلاء كلماته، وجهاد أعدائه حتى ظهر دين الله على كل دين وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمته على المؤمنين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال صلوات الله وسلامه عليه» ([13]) ، إذًا السبب الرابع الموجب لمحبة الله تعالى: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.

 أما السبب الخامس من الأسباب الموجبة لمحبة الله تعالى قال ابن القيم: «مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله: أحبه لا محالة»، وهذا سبب عظيم تكلم عنه ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين، ولا شك أن هذا السبب سبب مهم جدا، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: «لا يصفون بالمعرفة إلا من كان عالما بالله، وبالطريق الموصل إلى الله، وبآفاتها وقواطعها، وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة، فالعارف عندهم من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في قصوده ونياته، ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته، ثم دعا إليه على بصيرة بدينه وآياته، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله، ولم يشبها بآراء الرجال وأذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقولاتهم، ولم يزن بها ما جاء به الرسول عليه من الله أفضل صلواته، فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة، إذا سمي به غيره على الدعوى والاستعارة» ([14])، انتهى كلامه من مدارج السالكين يبين فيه هذا السبب المهم من أسباب الموجدة لمحبة الله عز وجل وهو مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه الله عز وجل لا محالة.

 السبب السادس من الأسباب الموجبة لمحبة الله تعالى: يقول ابن القيم: «مشاهدة برّه وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته»، لا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله عز وجل، هذا دل عليه العقل الصريح والنقل الصحيح، فلا محبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة كلها سواه سبحانه وتعالى؛ لأن العقل الصريح والنقل الصحيح دلاّ على ذلك، الإنسان يحب نفسه وبقاءه وكماله ودوام وجوده، ويكره ضد ذلك من الهلاك والعدم والنقصان هذه جبلة عند كل إنسان، وهذا يقتضي غاية المحبة لله عز وجل، فإن الإنسان إذا عرف ربه عرف قطعا أن وجوده ودوامه وكماله من الله وأنه البارئ له الموجد لذاته بعد أن كان عدما، وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه، كذلك أن الإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه وواساه، وقمع أعدائه وأعانه على جميع أغراضه فإنه محبوب عنده لا محالة، وإذا عرف الإنسان حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط، وأنواع إحسانه لا يحيط بها حصر، كذلك المحسن المنعم من البشر محبوبا في الطباع وإن لم يصل إليه كإحسانه، فإنك لو بلغ عن ملك من الملوك أنه عالم عابد عادل رفيق بالناس وهو في بلاد بعيدة فإنك تحبه، تجد في نفسك ميلا كثيرا إليه، هذا حب المحسن من حيث أنه محسن فضلا عن أن يكون محسنا إليك، فكيف بمن أنت أثر من آثار إحسانه، بل حسنة من حسنات قدرته سبحانه وتعالى، إن هذا يقتضي حب الله تعالى بل يقتضي أنه لا يحب غيره إلا بحيث أن يتعلق منه بسبب فإنه سبحانه هو المحسن إلى الكل كافة بإيجادهم وتكميلهم ومدهم بالأسباب التي هي من ضروراتهم إلى غير ذلك من النعم التي لا تحصى، هذا باختصار من كلام ابن قدامة في كتابه مختصر منهاج القاصدين([15]) ، إذاً هذا السبب السادس من أسباب الموجبة لمحبة الله: مشاهدة برّه وإحسانه وآلاءه ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته.

 السبب السابع من الأسباب الموجبة لمحبة الله، يقول ابن القيم: «وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات»، ما استطاع أن يعبر ابن القيم رحمه الله، يصعب عليه أن يسترسل في شرح هذه العبارة قال: ليس في التعبير عن ذلك إلا الأسماء والإشارات، توقف ابن القيم رحمه الله فكلامه رحمه الله يدور حول معاني الإخبات، الخشوع، التذلل، الافتقار، مراعاة الأدب مع الله عز وجل، كل هذه المعاني يجتمع فيها معنى الانكسار انكسار القلب، والخشوع بمعناه العام هو أقرب لجمع تلكم المعاني الخشوع، إذًا انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى الخشوع أقرب المعاني، فانكسار القلب يكون بالإخبات والخشوع والتذلل والافتقار لكن الخشوع بمعناه العام أقرب هذه المعاني، التذلل السكون الانخفاض، وجاء استعمال الخشوع في القرآن بهذه المعاني قال عز وجل: ﵟ يَوۡمَئِذٖ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُۥۖ وَخَشَعَتِ ٱلۡأَصۡوَاتُ لِلرَّحۡمَٰنِ فَلَا تَسۡمَعُ إِلَّا هَمۡسٗا ١٠٨ﵞ ﵝطه : ﵘﵐﵑﵜ، وقال عز وجل: ﵟوَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡﵞ ﵝفُصِّلَت : ﵙﵓﵜ ، كانت يابسة مستكنة لا نبات فيها ولا زرع يحركها، فإذا نزل الغيث من الله اهتزت وتحركت، هذا من المعاني اللغوية القلب هو موضع التأثر والتأثير فيما يتعلق بالخشوع، لا يتأثر القلب بالخشوع إلا باجتماع صفات وأحوال في هذا القلب، يقول ابن القيم رحمه الله: «والحق أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم، والمحبة، والذل والانكسار» ([16])  قال:  فليتحسس العبد منا مواقع هذه المنازل في قلبه قبل أن يتساءل عن فقدان الخشوع، إذًا هذه المنزلة عظيمة وابن القيم رحمه الله تكلم كثيرا في كتابه مدار السالكين عن هذه المنزلة قال: إن الخشوع الصادق ذكر له درجات ثلاث: الدرجة الأولى : التذلل لأمر الله بأن يتلقاه العبد يتلقى أمر الله بذلة انقياد والقبول والامتثال مع إظهار الافتقار إلى الهداية قبل فعله، والإعانة عليه حال فعله ورجاء قبوله بعد فعله، قال: ويضاف إلى ذلك ثانيا الاستسلام لحكم الله الشرعي والقدري، فلا يتلقى الحكم الشرعي معارضا له بهوى أو شهوة، لا يتلقى الحكم القدري بكراهة أو اعتراض، ثم قال: ويضاف إلى ذلك ثالثا انكسار القلب لنظر الرب إلى قلب الإنسان وجوارحه عند تلقيه أمر الله، ثم قال الدرجة الثانية للخشوع: ترقب آفات النفس والعمل وتوقع ظهورها والخوف على العمل من هذه الآفات من كبر أو عجب أو رياء أو ضعف في الصدق، وقلة في اليقين، تشتت في النية، ويضاف إلى ذلك الحذر من رؤية فضل النفس على الناس، بل ينسب الفضل كله لله تعالى، ثم يقول الدرجة الثالثة للخشوع: أن يضبط نفسه عن الإدلال على الله بالعمل أو الظن بأن لها على الله حقا -هذه النفس- من حرصه على أن لا يرى الخلق أحواله مع الخالق لئلا يعجبه اطلاعهم عليها ورؤيتهم لها، فيفسد ذلك عليه قلبه ونيته وحاله([17]) ، هذا هو السبب السابع الموجب لمحبة الله: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى.

 السبب الثامن من الأسباب الموجبة لمحبة الله عز وجل يقول ابن القيم رحمه الله: «الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة» ، هذا السبب الثامن الموجب لمحبة الله عز وجل: الخلوة به وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، يخلو مع ربه عز وجل يقوم تلك الليلة يذكر ربه عز وجل يخلو به ويدعوه ويسأله ويستغفره ويناجيه ويتلو كلامه عز وجل، ويقف بقلبه، يتأدب مع ربه بالعبودية بين يديه، ثم يستغفر ويجدد التوبة، هذا سبب من الأسباب الموجبة لمحبة الله عز وجل وهو من أبلغ أسباب المحبة لأنه من أصدق دلائل الأدب في العبودية؛ لأنها خلوة لا يراها الناس، والله عز وجل أثنى على أهل الليل قال عز وجل: ﵟ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦ﵞ ﵝالسَّجۡدَة : ﵖﵑﵜ والنبي صلى الله عليه وسلم تلا هاتين الآيتين لمعاذ رضي الله عنه في معرض جوابه عندما سأله معاذ: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألاَ أدُلُّكَ عَلَى أبْوابِ الخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَما يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ» ثُمَّ تَلا: ﵟ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ  حتى بلغ ﵟيَعۡمَلُونَ ١٧ﵞ ﵝالسَّجۡدَة : ﵗﵑﵜ هذا الحديث حديث صحيح([18]) ، إذًا السبب الثامن الموجب لمحبة الله: الخلوة بالله عز وجل في الثلث الأخير من الليل وقت النزول الإلهي لمناجاة الله عز وجل وتلاوة كتابه، الوقوف بالقلب، التأدب بآداب العبودية ثم الاستغفار والتوبة.

السبب التاسع الموجب لمحبة الله عز وجل، يقول ابن القيم: «مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدا لحالك، ومنفعة لغيرك»، جعل رحمه الله محبة المحبين الصادقين ومجالستهم من موجبات محبة الله، ولا عجب في هذا فإن البشرى بذلك قد زفت إلى أهل المحبة، قال صلى الله عليه وسلم: «قَالَ الله تَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتي لِلْمُتَحابِّين فِيَّ، وَالمُتَجَالِسينَ فيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ، وَالمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ»([19]) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ في قَريَة أُخْرَى، فَأَرْصَدَ الله تَعَالَى عَلَى مَدْرَجَتِهِ طريقه- مَلَكًا، فَلَمَّا أتَى عَلَيهِ، قَالَ: أيْنَ تُريدُ؟ قَالَ: أُريدُ أخًا لي في هذِهِ القَريَةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا عَلَيهِ؟ قَالَ: لا، غَيْرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ في الله تَعَالَى، قَالَ: فإنِّي رَسُول الله إلَيْكَ بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أحْبَبْتَهُ فِيهِ»([20]) ، إذًا مجالسة المحبين، الحب في الله المجالسة في الله عز وجل، الزيارة في الله عز وجل، كل هذه أسباب توجب محبة الله عز وجل، فمحبة المسلم لأخيه في الله ثمرة لصدق الإيمان، وحسن الخلق، وهي سياج واق يحفظ الله به قلب العبد، ويشد فيه الإيمان حتى لا يتفلت أو يضعف، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ»([21]) ،  فالذين يُختارون للصحبة ينبغي أن تتحقق من صحبتهم أغراض تنفع المرأ في دينه ودنياه وآخرته؛ ولهذا كان اختيار الصحبة من المهام الصعبة التي تحتاج إلى توفيق من الله عز وجل، قال ابن حجر رحمه الله([22]) : لا ينبغي للمرء أن يهمل اختيار من يصلح للصحبة؛ لأن للصحبة تأثيرها البالغ على المرء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَليَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»([23]) ، ويقول ابن الجوزي رحمه الله: « ينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلاً حسن الخلق غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا.

أما العقل، فهو رأس المال، ولا خير في صحبة الأحمق، لأنه يريد أن ينفعك فيضرك، ونعنى بالعاقل الذي يفهم الأمور على ما هى عليه، إما بنفسه، وإما أن يكون بحيث إذا أفهم فهم، وأما حسن الخلق، فلابد منه، إذ رب عاقل يغلبه غضب أو شهوة فيطيع هواه فلا خير في صحبته، وأما الفاسق، فإنه لا يخاف الله، ومن لا يخاف الله تعالى لا يؤمن غائلته ولا يوثق به، وأما المبتدع فيخاف من صحبته بسراية بدعته» ([24])، إذًا هذا السبب التاسع الموجب لمحبة الله: مجالسة الصالحين، مجالسة المحبين الصادقين الرفقة الطيبة الرفقة الصالحة.

 السبب العاشر الموجب لمحبة الله عز وجل ، يقول ابن القيم: «مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل»، الابتعاد عن كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل، وهذا لا خيار للإنسان إذا أراد محبة الله أن يسعى للمحافظة على قلبه سليما من كل آفة وعيب وفساد ينافي ما يحبه الله، فالقلب إذا فسد فلن يجد المرء فائدة فيما يصلحه من شؤون دنياه ولن يجد نفعا أو كسبا في أخراه قال عز وجل: ﵟيَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ ٨٩ﵞ ﵝالشُّعَرَاء : ﵘﵘ - ﵙﵘﵜ، سلامة القلب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا» ([25])،  إذًا لابد من سلامة القلب والابتعاد عن كل الأسباب التي تحول بين هذا القلب وبين الله عز وجل، يقول ابن تيمية رحمه الله -له اختيار جامع في معنى القلب السليم-: «هُوَ السَّلِيمُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ أَوْ مِمَّا سِوَى عِبَادَةِ اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى إرَادَةِ اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ» ([26]) ، وهذا اختيار جامع ابن تيمية رحمه الله في معني القلب السليم، وهذا قريب مما عبر عنه تلميذه ابن القيم رحمه الله عندما قال: «مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله -قال ابن القيم رحمه الله:- وإنما يباعد من الله كل طريق يوصل إلى باب من تلك الأبواب الثلاثة باب شبهة أورثت شكا في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ورضاه، وباب غضب يورث العدوان على الخلق» ([27])،  وهو يشرح مما يباعد بين القلب وبين الله عز وجل باب شبهة أورثت شكا في دين الله لماذا لأن الشبهات طريق لمخالفات الاعتقاد، ثم قال :باب شهوة أورث تقديم الهوى على طاعته ورضاه، الشهوات طريق لمخالفات الجوارح، ثم قال: باب غضب يورث العدوان على الله، الغضب وخاصة معه الحسد طريق لمخالفات الطباع من هذه الأبواب الثلاثة التي ذكرها ابن القيم تلج كل الذنوب والمعاصي المفسدة للقلب، وهي ترجع في أصولها إلى ثلاثة: تعلق القلب بغير الله وغايته الشرك ودعاء غير الله، وطاعة النفس في الغضب وغايته القتل، وطاعة النفس في الشهوة وغايتها الزنا.

 فليحذر المسلم من هذا الأمر، فهذا السبب العاشر الموجب لمحبة الله: مباعدة كل سبب يحول القلب وبين الله عز وجل من باب الشبهات وباب الشهوات وباب الغضب، يبعد عن كل شبهة وعن كل شهوة وعن الغضب الذي يورث العدوان على خلق الله عز وجل، هذه أسباب عشرة ذكرها ابن القيم رحمه الله وشرحها وعلقنا على بعضٍ منها.

 نسأل الله عز وجل أن يعصمنا وإياكم من الزلل، وأن يوفقنا وإياكم ويعيننا على الأخذ بهذه الأسباب الموجبة لمحبة الله عز وجل، فإذا أحب الله عز وجل عبده رحمه ووفقه وأدخله الجنة برحمته، نسأل الله عز وجل أن يرحمنا وإياكم، كما نسأله عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين كل شر ومن كل فتنة، كما نسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمور المسلمين لما يحبه ويرضاه وأن يرزقهم البطانة الصالحة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 


(([1]) رواه البخاري (7153)، ومسلم (2639).

([2]) مدارج السالكين (3/8-9).

([3]) مجموع الفتاوى (10/48). 

([4]) (3/18).

([5]) ذكره ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين (ص53).

([6]) رواه البخاري (7375)، ومسلم (813).

([7]) رواه الطبراني في  المعجم الكبير (8657).

([8]) رواه البخاري (46)، ومسلم (11).

([9]) رواه البخاري (6502).

([10]) فتح الباري (11/343).

([11]) جامع العلوم والحكم (2/337).

([12]) رواه أحمد (10976)، وابن ماجه (3792)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/317).

([13]) مدارج السالكين (2/285).

([14]) مدارج السالكين (3/316).

([15]) مختصر منهاج القاصدين (ص340).

([16]) مدارج السالكين (1/518).

([17]) ينظر: مدارج السالكين بتصرف- (1/518-519).

([18]) رواه الترمذي (2616)، وقال: حَدِيث حسن صَحِيحٌ.

([19]) رواه أحمد (22030)، ومالك في الموطأ (2744) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح  (5011).

([20]) رواه مسلم (2567)

([21]) رواه أحمد (18524).

([22]) ينظر: فتح الباري (11/335).

([23]) رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378).

([24]) ذكره ابن قدامة رحمه الله مختصر  منهاج القاصدين (ص91).

([25]) رواه أحمد (17114)، والترمذي (3407)، والنسائي (1304).

([26]) مجموع الفتاوى (10/217-218).

([27]) الفوائد (ص58).