التحذير من إتيان السحرة والعرافين


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

إنَّ الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله

أمَّا بعد:

فنَحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام، ونسأله عز وجل أن يُثبِّتنا على الإسلام والسُّنة، كما نسأله عز وجل عِلمًا نافعًا، وقلبًا خاشعًا، ودعاءً مستَجابًا، هذه المحاضرة التي هي بعنوان:  التحذيرُ مِن اتيان السَّحَرة والعَرَّافِين

الكلامُ في هذا الموضوع له أسبابه، ومن أسبابه كثرةُ المرضى في أيَّامنا بالسِّحر، وكثرة الأسئلة، ثمَّ أيضًا فشُوُّ السِّحر في أكثر بلاد المسلمين.

فمن الأهميَّة الكلامُ في هذا الموضوع، ولأجل التَّوعية في بلادنا وفي بلاد المسلمين مِن خُطورة السِّحر نتكلَّم في هذا الموضوع مِن خلال هذه المحاضرة نذكر: تعريف السِّحر، وما هو حكم السِّحر وتعلُّمِه؟ وكيف العلاجُ مِن السِّحر؟ ثمَّ نُشير إلى مسألةٍ مهمَّةٍ وهي مسألة حلِّ السِّحر بالسِّحر، وردِّ شُبهةٍ في هذه المسألة في آخر هذه المحاضرة.

* أمَّا تعريف السِّحر:

ففي اللُّغة عِبارة عن ما خَفي ولَطُف سبَبُه، ولهذا جاء في الحديث: «إنَّ مِن البَيان لسَحْرًا»([1])، وسُمِّي السَّحور سَحُورًا؛ لأنَّه يقع خُفيةً آخرَ اللَّيل، وقال اللهُ عز وجل: ﵟقَالَ أَلۡقُواْۖ فَلَمَّآ أَلۡقَوۡاْ سَحَرُوٓاْ أَعۡيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ وَجَآءُو بِسِحۡرٍ عَظِيمٖ ١١٦ﵞالأَعراف، أي: أَخفَوا عنهم عِلمَهم.

ولمَّا كان السِّحرُ من أنواع الشِّرك لا يأتي السِّحرُ بدونه.

ويقول الإمامُ القُرطُبي رحمه الله: «والسِّحرُ عند علمائنا حِيَلٌ صناعيَّةٌ يُتوصَّلُ اليها بالتعلُّم والاكتساب، غيرَ أنَّها لخفائها ودِقَّتها لا يُتوصَّلُ اليها إلَّا آحادُ الناس، فيَندرُ وقوعُها وتُستَغرب آثارُها لنُدورها. قال: ومادَّتُه الوقوفُ على خواصِّ الأشياء، والعِلم بوُجوه تركيبها، وأزمان ذلك».

قال: «وأكثرُه تخيُّلاتٌ لا حقيقةَ لها، وإيهاماتٌ لا ثبوتَ لها، فتَعظُم عند مَن لا يعرفها، وتشتَبه على مَن لا يقف عليها».

إلى أن قال رحمه الله: «ولا يُنكَر أنَّ السِّحر له تأثيرٌ في القلوب بالحُبِّ والبُغض، وبإِلقاء الشُّرور حتى يُفرِّق الساحرُ بين المَرء وزوجِه، ويَحولُ بين المَرء وقلبه، وبإِدخال الآلام، وعظيمِ الأسقام؛ إذ كلُّ ذلك مُدرَك بالمشاهَدة، وإنكارُه مُعانَدةٌ» ([2]).

ويقول الحافظ أبو بكر ابن العربي المالكي رحمه الله (ت: 543هـ) عن السِّحر: «هو فعلٌ غريبٌ يَحدث عند قول الساحر، وفِعله في جسم المسحور أو مالِه، وضعه تعالى في الأرض بمشيئته وحكمته، فتَحِقُّ الكلمةُ على مَن سبقت عليه بالهلَكة، وهو كفرٌ في نفسه؛ لأنه لا يتأتَّى إلَّا بكُفرٍ». ([3]).

ثمَّ قال أيضًا في شرحه لسنن الترمذي عن السِّحر وحقيقته: «إنَّه كلامٌ مؤلَّفٌ يُعظَّم فيه غيرُ الله، وتُنسَب إليه الأفعالُ والمَقاديرُ الكائناتُ بخَلق الله عند قول الساحِر وفِعله في المسحور ما شاء مِن أمره، حسب ما جرَت العادةُ به، وتلك الأفعالُ مِن خلق الله تعالى» ([4]).

ويقول أيضًا الإمامُ ابن قدامة رحمه الله (ت: 620هـ): «السِّحرُ عزائمُ ورُقًى وعُقَدٌ تُؤثِّر في الأبدان والقُلوب، فيُمرِض ويَقتُل ويُفرِّق بين المرء وزوجه، ويُأخذُ أحدُ الزَّوجين عن صاحبه، قال الله تعالى: ﵟفَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚﵞ البقرة: ﵒﵐﵑﵜ، وقال سبحانه: ﵟ قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ ١ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ٢ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ٣ وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ ٤ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ٥ﵞ الفلَق، قال ابنُ قدامة: يعني السَّواحِرَ اللَّاتي يَعقِدنَ في سِحرهِنَّ، ويَنفُثنَ في عُقَدِهنَّ»([5]).

ويقول الحافظُ النَّووي رحمه الله: «فالساحرُ قد يأتي بفِعلٍ أو قَولٍ يتغيَّر به حالُ المَسحور فيَمرضُ ويموتُ منه، وقد يكون ذلك بوُصول شيءٍ إلى بدَنه؛ مِن دُخانٍ وغيره، وقد يكون دُونَه»([6]).

وهكذا يقول أيضًا شيخُ الإسلام ابنُ تَيميَّة: «والإنسانُ إذا فسدَت نفسُه أو مِزاجُه يَشتهي ما يضرُّه ويلتَذُّ به، بل يَعشَقُ ذلك عِشقًا يُفسد عَقلَه ودينَه وخُلقَه وبدنَه ومالَه، والشيطانُ هو نفسه خبيثٌ، فإذا تقرَّب صاحبُ العزائم والأقسام وكتبَ الرُّوحانِيَّاتِ السِّحريَّةَ وأمثالَ ذلك إليهم، بما يُحِبُّونَه مِن الكُفر والشِّرك؛ صارَ ذلك كالرِّشوة والبَرطِيل لهم»، البرطيل: نوعٌ مِن أنواع الرِّشوة. ثمَّ يقول شيخُ الإسلام: «فيَقضُونَ بعضَ أَغراضِه، كمَن يُعطي غيرَه مالًا ليَقتُلَ له مَن يريدُ قتلَه، أو يُعينه على فاحشةٍ، أو يَنالُ منه فاحشةً». ثمَّ قال: «ولهذا كثيرٌ مِن هذه الأمور يَكتُبون فيها كلامَ الله بالنَّجاسة - وقد يَقلِبون حروفَ كلام الله عز وجل؛ إمَّا حروفَ الفاتحة، وإمَّا حروفَ ﵟقُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ١ﵞ، وإمَّا غيرَهما -؛ إمَّا دمٍ وإمَّا غيره، وإمَّا بغير نجاسةٍ، أو يَكتُبون غيرَ ذلك ممَّا يَرضاه الشيطانُ، أو يتكلَّمون بذلك، فإذا قالوا أو كتَبوا ما تَرضاه الشياطينُ أعانَتهم على بعض أَغراضِهم؛ إمَّا بتَغوِير ماءٍ مِن المياه، أو إمَّا أن يُحمل في الهواء إلى بعضِ الأمكِنة، وإمَّا أن يأتيه بمالٍ مِن أموال بعض الناس، كما تَسرِقُه بعضُ الشياطين مِن أموال الخائِنين، ومَن لم يَذكُر اسمَ الله عليه وتأتي به، وإمَّا غيرُ ذلك»([7]).

كلام شيخ الإسلام ابن تيميَّة يُبيِّن نفسيَّةَ هذا الساحر؛ قال: إذا فسدَت نفسُه أو مِزاجُه يَشتَهي ما يضرُّه، ويتقرَّب إلى الشيطان بالعَزائم والأقسام وغيرِها، يتقرَّب إلى الشياطين بما يُحبُّونه مِن الكفر والشِّرك، فكأنَّه يَدفع لهم الرِّشوة لقتل بعض الناس، أو لإعانته على فاحشةٍ أو غير ذلك.

ويقول: إنَّهم يَكتُبون في هذا السِّحر كلامَ الله بالنَّجاسة، ويَقلِبون حروفَ كلام الله عز وجل؛ إمَّا بدَمٍ أو بغَيره، وإمَّا بغير نجاسةٍ. يقول: يَكتُبون ممَّا يَرضاه الشيطانُ - هؤلاء السَّحرة -، فإذا كتَبوا ما تَرضاه الشَّياطينُ أعانتهم على بعضِ أَغراضِهم؛ إمَّا يَحمِلونهم في الهواء إلى بعض الأَمكِنة، أو يَأتونهم بمالٍ مِن أموال الناس بالسَّرقة، أو بأموال مَن لم يَذكر اسمَ الله عز وجل على مالِه، لا يحفَظُه باسم الله عز وجل، فيَسرِقون هذه الأموالَ - الشياطينُ -، ويَأتون بها إلى هذا الساحرِ.

هذا ملخَّصُ كلام شيخ الإسلام ابن تيميَّة.

وأيضًا ما ذكرته لكم فيما يتعلَّق بتعريف السِّحر مِن كلام الإمام القُرطبي، ومِن كلام أيضًا أهلِ اللُّغة، وكلام ابنِ قُدامة، وكلام الحافظ ابن العربي - رحمهم الله جميعًا -.

* مسألة أخرى: حكمُ السِّحر وحكمُ تعلُّمه.

قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «والسِّحرُ محرَّمٌ بالكتاب والسُّنة والإجماع»([8]).

لا شكَّ أنَّ الآياتِ والأحاديثَ دلَّت على تحريم السِّحر، ومنها قولُه عز وجل: ﵟوَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَيۡمَٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَﵞالبقرة: ﵒﵐﵑﵜ، قال ابنُ العربي في تفسير هذه الآية: «وما كفرَ سليمانُ قطُّ، ولا سحَرَ، ولكنَّ الشياطينَ كفروا بسِحرهم»([9]).

هذا هو الدَّليلُ الأوَّلُ.

وقال الإمامُ الشَّنقيطي رحمه الله: «في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الساحرَ كافرٌ مِن أمرَين، قوله تعالى: ﵟوَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُﵞ؛ فإنَّه يدلُّ على أنَّه لو كان ساحرًا - وحاشاه مِن ذلك - لكان كافرًا، وقوله: ﵟوَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَﵞ صريحٌ في كُفر معلِّم السِّحر» انتهى كلام الشنقيطي رحمه الله([10]).

الدَّليل الثاني أيضًا مِن القرآن، قوله عز وجل: ﵟوَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ ٦٩ﵞطه، قال أيضًا الشنقيطي رحمه الله: «اعلم أنَّ قولَه تعالى في هذه الآية الكريمة ﵟوَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ ٦٩ﵞ يعُمُّ نفيَ جميع أنواع الفَلاح عن الساحِر، وأكَّد ذلك بالتَّعميم في الأمكنة بقَوله: ﵟحَيۡثُ أَتَىٰ ٦٩ﵞ، وذلك دليلٌ على كُفره؛ لأنَّ الفلاحَ لا يُنفَى بالكُلِّيَّة نفيًا عامًّا إلَّا عمَّن لا خيرَ فيه وهو الكافرُ»([11]).

وهكذا قال عز وجل - مِن الأدلَّة في القرآن قال تعالى -: ﵟأَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ ٣ﵞالأنبياء، وقوله عز وجل: ﵟوَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ ٤ﵞالفلَق، النَّفَّاثاتُ هي السَّواحِر. وغيرُها مِن الآياتِ.

الدَّليل الثاني أيضًا حديثُ أبي هريرة - هذه الأدلَّة على تحريم السِّحر -، قال : «اجتَنبُوا السَّبعَ المُوبِقاتِ: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقَتلُ النَّفسِ الَّذي حرَّم اللهُ إلَّا بالحقِّ، وأَكلُ الرِّبا، وأَكلُ مالِ اليَتيم، والتَّولِّي يومَ الزَّحفِ، وقَذفُ المُحصَناتِ المُؤمِناتِ الغافِلاتِ» حديث متفق عليه([12])، «اجتَنبُوا السَّبعَ المُوبِقاتِ» وذكر منها: «السِّحر»، السَّبعُ المُهلِكات؛ مِن المَعاصي، مِن الكبائر.

هذا دليلٌ على تحريم السِّحر، ولذلك بوَّب البخاريُّ رحمه الله على هذا الحديث في «الصحيح» قال: (باب الشِّرك والسِّحر من المُوبِقات)([13]).

يقول شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «وقد عُلم أنَّه محرَّمٌ بكتاب الله وسُنَّة رسوله وإجماع الأُمَّة، بل أكثرُ العلماء على أنَّ الساحرَ كافرٌ يجبُ قَتلُه، وقد ثبت قَتلُ الساحِر عن عُمرَ بن الخطَّاب، وعُثمانَ بن عفَّان، وحَفصَةَ بنتِ عُمر، وعبدِ الله بن عُمر، وجُندُبِ بن عبد الله، ورُوي ذلك مرفوعًا عنه عن النبيِّ ، وقد قال اللهُ تعالى: ﵟوَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ ٦٩ﵞ طه»، ثمَّ ساق شيخُ الإسلام الأدلَّةَ على ذلك، ثمَّ قال: «ومعلومٌ بالاضطرار مِن دين الإسلام أنَّ السِّحرَ مِن أعظم المحرَّمات»([14]).

ويقول الشَّيخُ حافِظُ الحكَمي رحمه الله: «وكذلك كلُّ مَن تعلَّم السِّحرَ، أو علَّمه، أو عملَ به يَكفرُ كفرَ الشياطين الَّذين علَّموه الناسَ؛ إذ لا فرقَ بينه وبينهم، بل هو تلميذُ الشيطانِ وخرِّيجُه، عنه روَى، وبه تخرَّج، وإيَّاه اتَّبعَ» ([15]).

وأجمع العلماءُ على تحريم السِّحر، وعلى كُفر مَن استَحلَّه، قال الحافظُ النَّووي رحمه الله: «ويحرُم فِعلُ السِّحر بالإجماع، ومَن اعتقد إباحتَه فهو كافرٌ، وإذا قال إنسانٌ: تعلَّمتُ السِّحرَ أو أُحسِنه، استُوصِف؛ فإنْ وصفَه بما هو كفرٌ فهو كافرٌ، بأن يَعتقد التقرُّبَ إلى الكواكِب السَّبعة»([16]).

يقول أيضًا ابنُ قدامة رحمه الله: «وتعلُّم السِّحر والعملُ به حرامٌ؛ فإن فعَله رجلٌ وجبَ قَتلُه إذا كان مُسلِمًا»([17]).

* بعضُ المسائل:

- هل يُقتل الساحرُ قِصاصًا أو حَدًّا؟ اختلف الأئمة في ذلك؛ فنقل ابنُ هُبَيرة في «الإفصاح» عن الإمام أبي حَنيفة ومالكٍ وأحمدَ أنَّه يُقتل حدًّا، ونَقل عن الإمام الشافعي أنَّه يُقتل قِصاصًا([18]).

هذا الخلافُ إذًا بين الأئمَّة - رحمهم الله -: هل تُقبل تَوبةُ الساحر؟ قال الإمامُ القُرطبي رحمه الله: «الساحرُ عند مالكٍ كالزِّنديق؛ لأنَّ العملَ عنده بالسِّحر كفرٌ مُستَسِرٌّ به، فلا تُقبل توبةُ الساحر، كما لا تُقبل توبةُ الزِّنديق، إذ لا طريقَ لنا إلى معرفة صدقِ توبته». إلى أن قال: «ويتأيَّدُ ذلك بأنَّ الساحرَ لا يتمُّ له سِحرُه حتى يعتقدَ أنَّ سحرَه ذلك مُؤثِّرٌ بذاتِه وحقيقتِه، وذلك كفرٌ» ([19]).

وقال الوزيرُ ابنُ هُبَيرة رحمه الله: «واختلفوا هل تُقبل توبتُه؟ فقال أبو حَنيفة - في المشهور عنه - ومالكٌ: لا تُقبل توبتُه، ولا تُسمَع قولًا واحدًا، وقال الشافعيُّ: تُقبل توبتُه قولًا واحدًا، وعند أحمدَ روايتان أظهرُها: لا تُقبل توبتُه، والأخرى: تُقبل توبتُه، كالمُرتَدِّ»([20]).

هذه نقولٌ مِن كلام أهل العلم بالنِّسبة لقَبول توبة الساحر، وقد علِمنا في أيَّامنا من السَّحرة مَن تاب وحسُنت توبتُه، وحذَّر مِن السِحر بأنواعه، وثبَّته اللهُ عز وجل على الاستقامة.

بعضُ أهل العلم الَّذين روَوا الأحاديث في الوعيد الشَّديد لمَن أتى السَّحرةَ، ترجم أبو حاتم ابنُ حِبَّان في «صحيحه» قال: (ذكرُ الأخبار عن نفي دخول الجنَّة للمُؤمن بالسِّحر)، وذكر الأحاديث([21]).

وهكذا ترجم لها الإمامُ البَيهقي في «السنن الكبرى» قال: (باب تكفير الساحرِ وقتلِه إن كان ما يسحَرُ به كلامَ كُفرٍ صريحٍ)([22])، ثمَّ ساق حديثَ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : «مَن أتَى عرَّافًا أو كاهِنًا، فصَدَّقه بما يقولُ؛ فقَد كفرَ بما أُنزِلَ على محمَّدٍ »([23])، ثمَّ أتبعه بأحاديثِ قَتل الساحر.

وأيضًا ثبت عن الإمام أحمدَ رحمه الله قال: «العِرَافةُ طرَفٌ مِن السِّحر»([24]).

وترجم أيضًا الحافظُ المنذري في كتابه «الترغيب والترهيب» قال: (باب التَّرهيب مِن السِّحر، وإتيانِ الكُهَّان والعرَّافِين والمُنجِّمِين بالرَّمل والحَصى ونحوِ ذلك، وتصديقِه)، وذكر الأحاديثَ في كتابه «الترغيب والترهيب»([25]).

هذه بعضُ تبويباتِ أهلِ العِلم.

علِمنا تعريفَ السِّحر، وحُكمَ السِّحر، وحُكمَ تعلُّم السِّحر.

نتكلَّم في مسألة عِلاج المَسحور:

وهي ما تُسمَّى النُّشرة، النُّشرة هي علاجٌ للمَسحور، فكُّ السِّحر عن المَسحور تسمَّى النُّشرة، والنُّشرة منها ما هو شِركٌ محرَّمٌ، ومِن النُّشرة أيضًا هناك نُشرةٌ شرعيَّةٌ؛ بالأذكار الشرعيَّة، والأَدوِية المُباحَة، وهذا تفصيلُه مِن كلام أهل العِلم.

ثمَّ نذكر ما يتعلَّق برَدِّ شُبهةٍ فيما يتعلَّق بالنُّشرة، وعِلاج المَسحور بالسِّحر.

أوَّلًا: هذه نقولاتٌ مِن كلام أهل العِلم:

- قال أبو سليمان الخطَّابي رحمه الله: «النُّشرة ضَربٌ مِن الرُّقية والعِلاج، يُعالَج به مَن كان يُظَنُّ به مسٌّ مِن الجنِّ»([26]).

إذًا كلامُ الإمام الخطَّابي هنا يُعرِّف لنا النُّشرةَ ضَربٌ مِن الرُّقية، يعني: نوعٌ مِن الرُّقى، وعِلاجٌ مِن مسِّ الجنِّ، وعلاجٌ مِن العَين، وعِلاجٌ مِن السِّحر، هذا تعريفٌ عامٌّ، «النُّشرة ضَربٌ مِن الرُّقية والعِلاجِ، يُعالَج به مَن كان يُظَنُّ به مسٌّ مِن الجنِّ». هكذا قال.

ويقولُ الإمام ابنُ الأَثِير رحمه الله: «النُّشرة كالتَّعويذة والرُّقية، يقالُ: نشَرتُه تَنشِيرًا، إذا رقَيتُه وعوَّذته، وإنَّما سُمِّيت نُشرةً؛ لأنَّها يُنشَر بها عن المريض، أي: يُحَلُّ عنه ما خامَره مِن الداء»([27]).

وأما لفظ ابن الأثير في كتابه «النهاية» يقول: «النُّشرة بالضَّمِّ ضَربٌ مِن الرُّقية والعِلاج، يُعالَج به مَن كان يُظَنُّ أنَّ به مسًّا مِن الجِنِّ، وسُمِّيت نُشرةً؛ لأنَّه يُنشَر بها عنه ما خامَره مِن الداء، أي: يُكشف ويزال...، ومنه الحديثُ: «فلَعلَّ طَبًّا أصابَه ثمَّ نشَره بقَول: أعوذ برب الناس»، أي: رَقاه»([28])، إذًا النُّشرة هي الرُّقية.

في حديث جابر رضي الله عنه الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرُهما بسندٍ جيِّدٍ، قال جابر أن رسولَ الله سُئل عن النُّشرة، فقال: «هي مِن عَمل الشَّيطانِ»([29]).

وهنا يقولُ الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله في كتابه «تيسير العزيز الحميد» (ص 364) يقول في الكلام عن هذا الحديث: إنَّ رسولَ الله سُئل عن النُّشرة فقال: «هي مِن عَمل الشَّيطانِ»، قال: «الألف واللَّام في النُّشرة للعهد، أي: النُّشرة المَعهودة التي كان أهلُ الجاهليَّة يصنعونها هي مِن عمل الشَّيطان، لا النُّشرة بالرُّقى والتَّعوِيذات الشرعيَّة، والأدوِية المُباحَة؛ فإنَّ ذلك جائزٌ كما قرَّره ابن القيِّم».

ابنُ القيِّم رحمه الله أيضًا قال: «النُّشرة حلُّ السِّحر عن المَسحور، وهي نوعان: حلُّ سِحرٍ بسِحرٍ مثلِه، وهو الذي مِن عمل الشيطان؛ فإنَّ السِّحر مِن عمله، ويَتقرَّب إليه الناشرُ والمُنتَشرُ بما يحبُّ، فيُبطل عملَه عن المَسحور. الثاني - يعني: النوع الثاني من النشرة - النُّشرة بالرُّقية الشرعيَّة والتَّعويذات والأدوِية المُباحَة، وهذا جائزٌ بل مستَحبٌّ، وعلى النَّوع المَذموم يُحمل قولُ الحسن: لا يَحُلُّ السِّحرَ إلَّا ساحرٌ»)[30]).

أيضًا يقول ابنُ قدامة رحمه الله في كتابه «المغني»، وهكذا يقول في كتابه «الكافي»، يقول: «وأمَّا مَن يحلُّ السِّحرَ؛ فإن كان بشيءٍ مِن القرآن، أو شيءٍ مِن الذِّكر والإقسام، والكلام الذي لا بأسَ به؛ فلا بأسَ به، وإن كان بشيءٍ مِن السِّحر؛ فقد توقَّف أحمدُ عنه»، ثمَّ ذكر الأثرَ عن الإمام أحمد في هذه المسألة وأنَّه أنكرَ العلاجَ، قال: «ما أدري ما هذا»؛ لأنَّه ذُكر له أنَّ بعض الناس رخَّصوا في حلِّ السِّحر بالسِّحر، فقال: «ما أدري ما هذا»([31]).

وقد فهم بعضُ العلماء - كالخلَّال رحمه الله - أنَّ الإمامَ أحمدَ لا يرى بأسًا، لكنَّ الجوابَ عن هذا: أنَّ إتيانَ المَسحور الساحِرَ ليَحُلَّ عنه السِّحر يُؤدِّي إلى الشِّرك والكُفر، والشِّركُ والكفرُ لا يجوز التداوي بهما بلا خلاف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والمسلمون وإن تنازَعوا في جواز التداوي بالمحرَّمات كالمَيتة والخنزير؛ فلا يتنازَعون في أنَّ الكفرَ والشِّركَ لا يجوز التداوي به بحالٍ؛ لأنَّ ذلك محرَّمٌ في كلِّ حال»([32]).

إذًا في صحَّة هذا القول عن الإمام أحمد نظرٌ:

أوَّلًا: أنَّ إتيانَ المَسحور الساحِرَ ليَحُلَّ عنه السِّحرَ يؤدِّي إلى الشِّرك والكفر، وهذا لا يمكن للإمام أحمد أن يقولَ ذلك.

الثَّاني: أنَّ حَلَّ السِّحر عن المَسحور بسِحرٍ مثله فيه مُعاوَنةٌ للساحر، فيه إقرارٌ له على عمله، فيه تقرُّبٌ إلى الشيطان بأنواع القُرَب ليُبطل عملَه عن المَسحور، هذا أمرٌ مهمٌّ أيضًا.

الثَّالث: أنَّ الناشرَ - يعني: صاحب النُّشرة، صاحب الرُّقية - والمُنتَشر؛ كلٌّ منهما يتقرَّب إلى الشيطان بما يُحبُّ مِن ذبحِ شيءٍ، أو السُّجود له، أو غير ذلك، فإن فعلَ ذلك ساعَد الشيطانَ، وجاء إلى إخوانه الشياطين الَّذين عملوا ذلك العملَ، فيُبطل عملَه عن المَسحور، وهذا كفرٌ، أفَيُعمَلُ الكفرُ لتحيَى نفسٌ مَريضةٌ أو مُصابَةٌ؟! مع أنَّ الغالبَ في المَسحور أنَّه يموت أو يَختَلُّ عقلُه، هذا الكلام أشار إلى مثله الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله ([33]).

الرَّابع: أنَّ الإمامَ أحمدَ نصَّ على قَتل الساحر، كما جاء في «مسائله (برواية إسحاق بن هانئ)»: «وسألتُه عن الساحِر والساحِرة يُقتَلان؟ قال: نعم، إذا بانَ ذلك بأحدٍ منهما، وعُرفا به مِرارًا، وأقَرَّا على أنفسهما»([34]).

يُقتلان إذًا، الإمام أحمد أفتى بقَتل الساحر إذا اعترف، فلا يُمكن أن يُجيز النُّشرة وفَكَّ السِّحر بالسِّحر، لا يُمكن للإمام أحمد.

هذا ردٌّ على مَن فهم مِن كلام الإمام أحمد أنَّه يُجيز هذا الأمرَ.

هنا شُبهةٌ لابُدَّ مِن بيانها، فيما يتعلَّق بنفس المسألة؛ لأنه ورَد عن بعض العلماء السَّابِقين إباحةُ حَلِّ السِّحر بالسِّحر.

جاء ذلك وردَّه كثيرٌ مِن أهل العلم، ونَقل ابنُ بطَّالٍ رحمه الله عن الطَّبري أنَّه قال: «وحَلُّ السِّحر عن المَسحور نَفعٌ له»([35])، ثمَّ ذكر ذلك أنَّه مِن العلاج الذي جاء الأمرُ به في حديث: «إنَّ اللهَ لَم يُنزِلْ داءً إلَّا وأَنزَلَ له شِفاءً، علِمَهُ مَن علِمَهُ، وجَهِلهُ مَن جَهِلهُ»، هذا الحديث في «الصحيح»([36]).

وقالوا: حلُّ السِّحر عن المَسحور مِن العلاج المأمور به، يُفهم مِن كلام الطبري جوازُ إتيان السَّحرة لحَلِّ السِّحر.

طيِّب، ما هو جوابكم عن الأحاديث الواردة بالنَّهي عن إتيان السَّحرة؟

قالوا: المرادُ بها تصديقُ السَّحرة بما يقولون فقط.

هذه شبهةٌ، وهي موجودةٌ في كتب العلماء، فما هو الجوابُ عن هذه الشُّبهة؟ ما هو الردُّ عن هذه الشُّبهة؟

يستَدلُّون بحديث الأمر بالمُعالَجة على جَواز العلاج وحَلِّ السِّحر عن المَسحور بالسِّحر! هذه شبهةٌ؛ لأنَّهم يأتون بدليلٍ، لكن هذا الدَّليلُ المرادُ به العِلاجُ الشَّرعي؛ عالَج بالعِلاج الشَّرعي، أمَّا السِّحرُ ليس علاجًا شرعيًّا.

لكن هناك ردٌّ مفصَّلٌ أيضًا عند أهل العِلم عن هذه الشُّبهة، أَذكرُه لكم، قالوا:

أوَّلًا: القولُ بجَواز إتيان السَّحرة لحَلِّ السِّحر عن المَسحور قولٌ باطلٌ مِن وُجوهٍ:

الوجه الأوَّل: مُعارضَتُه لصريح الأدلَّة بالنَّهي والزَّجر عن طَلب حَلِّ السِّاحر عن المَسحور، منها حديثُ عِمرانَ بن حُصَين الذي ذكرناه: «ليسَ مِنَّا مَن سَحر، أو سُحر له»([37])،  وهكذا حديثُ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما بلفظ: «مَن سَحر، أو تُسُحِّر له؛ فليسَ مِنَّا»([38])، وهكذا حديثُ عبدِ الله بن مَسعودٍ رضي الله عنه): «مَن أتَى عرَّافًا، أو ساحِرًا، أو كاهِنًا، فسأَلهُ فصَدَّقهُ بما يقولُ؛ فقَد كفرَ بما أُنزِلَ على مُحمَّدٍ »([39])، وهكذا حديثُ أبي هُرَيرةَ الذي في «الصَّحيحَين» - الذي مرَّ معنا -: «اجتَنبُوا السَّبعَ المُوبِقاتِ: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ»([40]).

إذًا هذا القولُ بجَواز النُّشرة - جاز حَلُّ السِّحر عن المَسحور بالسِّحر - مردودٌ، أوَّلًا لمُعارضَته لصريح الأدلَّة بالنَّهي والزَّجر عن طلب حلِّ الساحِر.

الرد الثَّاني: أنَّ السَّحَرةَ يستَخدِمُونَ الشياطينَ في عمل السِّحر؛ فإنَّهم يتقرَّبون إليهم بما يحبُّون مِن الشِّرك بالله والكفر به، فإذا تقرَّب الإنسانُ إلى الشيطان بذلك أعانته الشياطينُ على عَمل السِّحر، فأَصبح ساحِرًا، فمتى أراد أن يَسحَر أحدًا من الناس سحَره، فإذا أتَى المَسحورُ الساحِرَ ليَحُلَّ عنه السِّحرَ طلَب منه أن يتقرَّب إلى الشيطانِ إمَّا بذَبح شاةٍ، أو دَجاجَةٍ، أو ذُبابٍ، ونحو ذلك، فإذا تَقرَّب المَسحورُ إلى الشيطانِ بذلك أشرك بالله وكفرَ به، عند ذلك يَطلب الساحِرُ مِن الشيطان أن يُبطل عن المَسحور عملَ السِّحر؛ لأنَّ مقصدَ الساحِر الحصولُ على المال، ومَقصدُ الشيطان إخراجُ المُسلِم من الإسلام، وإدخالُه في الكفر والشِّرك، فاللُّجوء للسَّحرة لحَلِّ السِّحر فيه إِفسادٌ، فيه إيصالُ هذا المَسحور إلى الكفر بالله عز وجل، وهذا يُبطل القولَ بجَواز حلِّ السِّحر بالسِّحر.

وابنُ القيِّم رحمه الله فصَّل في هذا الأمر بذكره فتاوى إمام المُفتِين في الطبِّ، قال: «وسُئل عن النُّشرة فقال: «هي مِن عَمل الشَّيطانِ»، ذكره أحمد وأبو داود».

ثمَّ قال ابنُ القيِّم: «والنُّشرة حلُّ السِّحر - يعني: عن المسحور -، وهي نوعان: حلُّ السِّحر بسِحرٍ مثلِه، وهو الذي مِن عَمل الشَّيطان، فإنَّ السِّحر مِن عمله، فيَتقرَّب إليه الناشر والمُنتَشرُ بما يُحبُّ، فيُبطل عملَه عن المَسحور».

قال: «والثاني النُّشرة بالرُّقية والتَّعوُّذات والدَّعواتِ، والأَدوِية المُباحَة، فهذا جائزٌ بل مستَحبٌّ».

قال: «وعلى النَّوع المَذموم يُحمَل قولُ الحَسن: لا يَحُلُّ السِّحرَ إلَّا ساحرٌ»([41]).

إذًا هذا الردُّ الثَّاني: أنَّ السَّحرةَ يَستخدِمون الشياطينَ في عمل السِّحر، ويتقرَّبون إليهم بما يحبُّون من الشِّرك بالله والكُفر به، فإذا تقرَّب الإنسانُ إلى الشيطان أعانته الشياطينُ على عَمل السِّحر، فلا يجوزُ عِلاج السِّحر بالسِّحر لهذا السبب أيضًا.

الردُّ الثَّالث: أنَّ السِّحر حرام بالكتاب والسُّنة والإجماع كما ذكر ابنُ تيميَّة وغيره، ممَّا سبق في هذه المحاضرة، والذي يَعتقد حِلَّ السِّحر كافرٌ بالإجماع كما قال النَّووي وغيره، فيما أَشَرنا سابقًا، فكيف يجوزُ إتيانُ السَّحَرة والسِّحرُ حرامٌ في الكتاب والسُّنة والإجماع، والَّذي يَعتقد حِلَّه كافرٌ بالإجماع؟! فكيف يُقال: يجوزُ حَلُّ السِّحر بالسِّحر؟!

الرَّدُّ الرَّابع: أنَّه تقدَّم عند أهل العلم أنَّه يجبُ قتلُ الساحِر، حتى لقد قال الإمامُ الشَّوكاني: «نعم، يُؤدِّبه بضَربةٍ بالسَّيف، يَطيرُ بها رأسُه عن جَسده»([42]).

إذًا، كيف - مع هذا - يُقال: يجوزُ إتيانُ السَّحَرة ليَحُلُّوا السِّحر عن المَسحور؟! لأنَّ القولَ بجواز ذلك يقتضي عدمَ قتلِهم لأَجل حَلِّ السِّحر عن المَسحُورِين، ومِن ثَمَّ يَلزم مِن عدم القَتل إقرارُهم على السِّحر، وتكثيرُ سَوادهم.

الرَّدُّ الخامس - على مَن أباح حَلَّ السِّحر بالسِّحر -: أنَّ إتيانَ السَّحَرة لحَلِّ السِّحر يؤدِّي إلى الشِّرك والكفر، وما كان يؤدِّي إلى شيءٍ مِن ذلك حَرُم تعاطيه، ووجَب اجتنابُه بلا نِزاعٍ.

قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: «والمسلمون وإن تنازَعوا في جواز التَّداوِي بالمُحرَّمات كالمَيتة والخِنزير؛ فلا يتنازَعون في أنَّ الكُفر والشِّرك لا يجوز التَّداوِي به بحالٍ، لأنَّ ذلك محرَّمٌ في كلِّ حالٍ»([43]).

الرَّدُّ السَّادس: كلامُ الطَّبري - الذي نقلناه مِن خلال هذه الشُّبهة - قيَّد القولَ بالجَواز بأن يكون الذي يُتعالَج به غيرَ محرَّمٍ - يعني: العِلاج -، فإن وُجد ساحِرٌ يُعالِج بشيءٍ غيرِ محرَّمٍ فلا مانعَ مِن التَّداوِي عنده، لكن أنَّى له ذلك كما قال الطَّبري، لو سلَّمنا بقول الطَّبري رحمه الله؛ لأنَّه قال يجوزُ حَلُّ السِّحر بالسِّحر بأن يكون الذي يُتعالَج به غيرَ محرَّمٍ، يعني: يجوزُ بالمُباحاتِ، بالحَلال.

فيقال أيضًا: أين يُوجد ساحِرٌ يُعالِج بشيءٍ غيرِ محرَّمٍ؟ أين ذلك؟ أين هذا الساحر؟ بل يجبُ سَدُّ الباب، وتركُ التَّفصيل في الأحوال، وإتيانُ السَّحرة لغَرض التَّداوي ممنوعٌ شرعًا؛ سواءٌ صدَّق السَّحرةَ بما يقولون، أم لم يُصدِّقهم، أي: فليس مِن شرط المَنع التصديقُ، وإنَّما المَنع والحَظر لِما يُفضي إليه إتيانُ الساحر مِن الشِّرك بالله والتقرُّب إلى الشياطين بما يحبُّونه - كما مرَّ معنا -؛ فإن صدَّق السَّحرةَ بما يقولون فزيادةُ شرٍّ على شرٍّ، وبلاءٌ على بلاءٍ، وخسارةُ الآخرة والأولى، والله أعلم.

هذا ما أرَدنا أن نَذكُره مِن خلال هذه المُحاضَرة في الكلام عن تعريف السِّحر، وحُكم السِّحر، وتعلُّمه، وعِلاج المَسحور بالنُّشرة، وهي نوعان: نُشرةٌ محرَّمةٌ شِركيَّةٌ، ونُشرةٌ مُباحَةٌ بالرُّقية الشَّرعيَّة، وبالأَدوِية المُباحَة، وختَمنا المُحاضرةَ مِن خلال الردِّ على شُبهة حَلِّ السِّحر بالسِّحر، وأنَّه لا يجوز حَلُّ السِّحر بالسِّحر.

نسألُ اللهَ عز وجل أن يُفقِّهنا وإيَّاكم في دِينِنا، كما نسأَلُه عز وجل أن يَحفظ بلادَنا - دولةَ الإمارات - وبلادَ المسلمين مِن كلِّ سُوءٍ وفِتنةٍ، نسأَلُه عز وجل أن يُوفِّق وُلاةَ أُمورِنا لِما يحبُّه ويَرضاه، وأن يرزُقَهم البِطانةَ الصَّالحةَ، ﵟرَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ٢٠١ﵞالبقرة.

وآخِرُ دَعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على محمَّدٍ، وعلى آله وصَحبه وسلَّم.


 

([1]) رواه البخاري (5767).

([2]) «المُفهم لما أُشكل من تلخيص كتاب مسلم» (5/569).

([3]) «القبس في شرح موطأ مالك بن أنس» (ص 1125).

([4]) «عارضة الأحوذي» (6/246).

([5]) «الكافي في فقه الإمام أحمد» (4/64).

([6]) «روضة الطالبين» (9/345).

([7]) «مجموع الفتاوى» (19/34).

([8]) «مجموع الفتاوى» (35/171).

([9]) «أحكام القرآن» (1/44).

([10]) «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» (4/552).

([11]) «أضواء البيان» (4/551).

([12]) رواه البخاري (2766)، ومسلم (89).

([13]) «صحيح البخاري» (7/137).

([14]) «مجموع الفتاوى» (29/384).

([15]) «معارج القبول» (2/553).

([16]) «روضة الطالبين» (9/346).

([17]) «الكافي» (4/65).

([18]) الإفصاح (10/31).

([19]) «المفهم» (5/574).

([20]) الإفصاح (10/31).

([21]) «صحيح ابن حبان» (13/507) رقم (6137).

([22]) «السنن الكبرى» (8/135).

([23]) رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (16574).

([24]) «الجامع لعلوم الإمام أحمد» (12/343).

([25]) «الترغيب والترهيب» (4/16).

([26]) «معالم السنن» (4/220).

([27]) «جامع الأصول» (7/575).

([28]) «النهاية في غريب الحديث والأثر» (5/54).

([29]) رواه أحمد (14135)، وأبو داود (3868). وصحَّحه الألباني في «الصحيحة» (2760).

([30]) «إعلام الموقعين» (4/396).

([31]) «المغني» (12/304). وانظر: «الكافي» (4/65).

([32]) «مجموع الفتاوى» (19/61).

([33]) «فتاوى ورسائل» (1/165).

([34]) «مسائل ابن هانئ» (2/93).

([35]) «شرح صحيح البخاري» (9/445).

([36]) رواه أحمد (3578)، و ابن ماجه (3438)، والحاكم (8205) عن ابن مسعود رضي الله عنه. وصحَّحه الألباني في «الصحيحة» (451).

ورواه البخاري (5678) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «ما أَنزَلَ اللهُ داءً إلَّا أَنزَلَ لهُ شِفاءً».

([37]) رواه البزار (3578)، والطبراني في «الكبير» (355). وصحَّحه الألباني في «الصحيحة» (2650).

([38]) رواه الطبراني في «الأوسط» (4262). وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (5435).

([39]) رواه البزار (1873)، وأبو يعلى (5408). وصحَّحه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (3048).

([40]) رواه البخاري (2766)، ومسلم (89).

([41]) «أعلام الموقعين عن رب العالمين» (5/450).

([42]) «السيل الجرار» (4/375).

([43]) «مجموع الفتاوى» (19/61).