فقه صلة الأرحام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالن، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛
فنحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام، كما نشكر القائمين على مركز رياض الصالحين بدبي على جهودهم العلمية، ومنها هذه المحاضرة التي هي بعنوان: (فقه صلة الأرحام).
صلة الرحم وما يتعلق بأنواع الرحم، وفضائل صلة الرحم، وأقسام صلة الرحم، وأحوال الناس في صلة الرحم، ما هي الأسباب المعينة على صلة الرحم؟ ما هي وسائل صلة الرحم؟ وأيضا نتطرق إلى قطيعة الرحم وعقوبة ذلك في الدنيا والآخرة، ما هي أسباب قطيعة الرحم إلى آخره.
هذه مسائل مهمة تفيد المجتمع وتفيد كل مسلم، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
الرحم في لغة العرب بيت منبت الولد، ووعاؤه في البطن، والرحم أيضا القرابة فأطلق على القرابة وأسبابه، كما في مراجع لسان العرب([1]) ، الرحم في اصطلاح العلماء: اسم جامع لكل ذي رحم من الأقارب، يجمع بينهم نسب من غير تفريق بين محرم أو غير محرم.
إذًا الرحم: اسم جامع لكل ذي رحم من الأقارب يجمع بينهم نسب من غير تفريق محرم أو غير محرم، كلهم أرحام نسب من جهة الأب أو من جهة الأم، والله عز وجل يقول في كتابه: ﵟوَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِﵞ ﵝالأَنفَال : ﵕﵗﵜ وهنا الرحم بمعنى القرابة، فجاء لفظ الأرحام بالمعنيين في كتاب ربن، بمعنى موضع تكوين الجنين وبمعنى الصلة والقرابة.
أما أنواع الرحم نوعان: رحم محرم ورحم غير محرم، الرحم المحرم: كل شخصين بينهما رابطة لو فرض أحدهما ذكرا والآخر أنثى لم يحل لهما أن يتناكحا كالآباء والأم والإخوة والأخوات والأجداد والجدات وإن علوا والأولاد وأولادهم وإن نزلوا والأعمام والعمات والأخوال والخالات، هؤلاء رحم محرم.
أما الرحم غير المحرم فهم من عدا ذلك، كبنات الأعمام وبنات العمات وبنات الأخوال وبنات الخالات ونحوهم، فما هو تعريف صلة الرحم عند العلماء؟
صلة الرحم يقول الحافظ النووي رحمه الله: « الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك» ([2]، ويقول القرطبي رحمه الله في بيان حكم صلة الرحم: «اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة، وأن قطيعتها محرمة» ([3])، ويقول الحافظ المناوي رحمه الله: « صلة الرحم: مشاركة ذوي القرابة في الخيرات» ([4])، ويقول الحافظ ابن الأثير رحمه الله عن تعريف صلة الرحم: «الإحسان إلى الأقربين، من ذوي النسب والأصهار، والتعطف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وكذلك إن بعدوا أو أساءو، وقطع الرحم ضد ذلك كله» ([5])، ويقول الحافظ السفاريني رحمه الله نقلا عن البلباني رحمه الله ما نصه: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ مُوَالَاتُهُمْ وَمَحَبَّتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَجْلِ قَرَابَتِهِمْ، وَتَأْكِيدُ الْمُبَادَرَةِ إلَى صُلْحِهِمْ عِنْدَ عَدَاوَتِهِمْ، وَالِاجْتِهَادُ فِي إيصَالِهِمْ كِفَايَتَهُمْ بِطِيبِ نَفْسٍ عِنْدَ فَقْرِهِمْ، وَالْإِسْرَاعُ إلَى مُسَاعَدَتِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ، وَمُرَاعَاةُ جَبْرِ خَاطِرِهِمْ مَعَ التَّعَطُّفِ وَالتَّلَطُّفِ بِهِمْ، وَتَقْدِيمُهُمْ فِي إجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ، وَالتَّوَاضُعُ مَعَهُمْ فِي غِنَاهُ وَفَقْرِهِمْ وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِمْ، وَمُدَاوَمَةُ مَوَدَّتِهِمْ وَنُصْحُهُمْ فِي كُلِّ شُؤُونِهِمْ، وَالْبُدَاءَةُ بِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ وَالضِّيَافَةِ قَبْلَ غَيْرِهِمْ، وَإِيثَارُهُمْ فِي الْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» ([6]).
أما فضائل صلة الرحم في الدنيا والآخرة فهي كثيرة:
أولها: أنها تقوي الروابط الأسرية بين الأقارب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ» ([7])، وروى ابن قتيبة في عيون الأخبار عن عمر رضي الله عنه قال: «مروا ذوي القرابات أنّ يتزاوروا ولا يتجاوروا» ([8])، قال الزبيدي رحمه الله شارحا قول عمر رضي الله عنه: «أي: يزور بعضهم بعضا رغبا فإن ذلك يورث الألفة والمحبة، وقوله ولا يتجاوروا أي: لا يساكن في محل واحد، وإنما قال ذلك لأن التجاور يوجب التزاحم في الحقوق، وربما يورث الوحشة، وترفع الحرمة والهيبة، فيفضي إلى قطيعة الرحم والتدابر» ([9])، ولأن صلة الرحم تقوي العلاقات الأسرية فهي مدعاة لحب الأقارب وعطفهم وإيثارهم، إذًا من فضائل صلة الرحم أنها تقوي الروابط الأسرية بين الأقارب، كذلك أنها توسع في الأرزاق وتزيد في الأعمار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ، ويُنْسأَ لَهُ في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»([10]) ، وزيادة العمر في الحديث زيادة حقيقية وهي بالنسبة لعلم الموكل بالعمر، أما ما ورد في قول الله عز وجل: ﵟرَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا ٢٦ﵞ ﵝنُوح : ﵖﵒﵜ، ورسول الله صلى الله عليه يقول: «إنَّ آل بَني فُلاَن لَيْسُوا بِأولِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ المُؤْمِنينَ»([18]) ، ودلت النصوص على أن الأصل في القريب الكافر المعادي الذي يقاطع ولا يوصل إلا في بعض الحالات، كاتقاء شره ومداراته درء لمفسدة أو جلب لمنفعة شرعية، أما صلة ذي الرحم الكافر المسالم الذي لا يعادي الإسلام والمسلمين، لا يحارب لا يقاتل المسلمين، لم يمنع الشارع الحكيم من صلته والإحسان إليه، إذا كان لتأليف قلبه للإسلام، وقد مر معنا قبل قليل حديث أسماء رضي الله عنها مع أمها المشركة، قال الله عز وجل: ﵟ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ ٩٢ﵞ ﵝيُوسُف : ﵒﵙﵜ .
أيضا مما يعين على صلة الرحم: بذل المستطاع لهم من الخدمة بالنفس أو الجاه أو المال، أن لا يمن عليهم، أن لا يطالبهم بالمثل، فالواصل ليس بالمكافئ.
كذلك مما يعين على صلة الرحم: ترك التكلف مع الأقارب، رفع الحرج عنهم، تجنب الشدة في عتابهم، تحمل عتابهم، وحمل كلامهم على أحسن المحامل، وحسن الظن بالأرحام، فإذا عاتبه أحد أرحامه وأغلظ عليه لتقصيره في حقه لم يجاره في عتابه، بل يتلطف به ويشكره ويعتذر له حتى يهدأ؛ لأن من الناس لا يستطيع التعبير عن حبه إلا بكثرة اللوم والعتاب.
أيضا مما يعين على صلة الرحم: الاعتدال في المزاح مع الأرحام، تجنب الخصام، تجنب الجدال العقيم معهم، فإذا شعر بأن أحد أرحامه قد حمل في نفسه عليه، فليبادر إلى الهدية، والهدية تجلب المودة.
مما يعين على صلة الرحم أيضا: أن يستحضر الإنسان أن أرحامه لحمة منه لابد له منهم ولا فكاك له عنهم، فيصبر عليهم.
مما يعين أيضا على صلة الرحم: تدوين أسماء الأرحام إذا كثرو، وأرقام هواتفهم للتواصل معهم ونصحهم وصلتهم.
أيضا مما يعين على صلة الرحم: أن يسعى إلى إصلاح ذات البين إذا فسدت بين بعضهم، أن تكون لهم لقاءات شهرية تعين على الصلة.
أيضا مما يعين على صلة الرحم: تعجيل قسمة الميراث بين الأقارب حتى يأخذ كل واحد نصيبه لئلا تكثر المطالبات والخصومات، أن يكتبوا ما يتفقون عليه، فإن كانت هذه حالهم أيس الشيطان منهم، سادت المحبة والصلة بينهم.
نأتي لمسألة مهمة أيضا: وسائل صلة الرحم الصلة بالأفعال الصلة بالمقال الصلة ببذل المال الصلة بوسائل الاتصال الحديثة.
أولا: الصلة بالأفعال، الصلة بالزيارة تعتبر من أهم وسائل صلة الرحم، قصد المزور إكراما له واستئناسا به، قال النووي: «ويعدد وسائل الصلة تارة بالمال تارة بالخدمة وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك» ([24]) ، وقال الدمياطي رحمه الله: « تكون صلة الرحم تكون بالمال، وقضاء الحوائج، والزيارة، والمكاتبة، والمراسلة بالسلام، ونحو ذلك» ([25])، ويقول الشيخ العثيمين رحمه الله: «صلة الأقارب بما جرى به العرف واتبعه الناس؛ لأنه لم يبين في الكتاب والسنة نوعها ولا جنساها ولا مقدارها ... لذلك يرجع فيها للعرف، فما جرى به العرف أنه صلة فهو الصلة، وما تعارف عليه الناس أنه قطيعة فهو قطيعة» ([26]) .
أيضا من أنواع الصلة: الصلة بإجابة الدعوة إلى الطعام وغيره إذا كانت الدعوة مشروعة، والإجابة حق من حقوق المسلم، وخاصة دعوة وليمة العرس، فهي واجبة على كل مسلم مدعو إليها بعينه، ولا يكون فيها منكر، قال ابن قدامة رحمه الله: « إنما تجب الإجابة على من عين بالدعوة، بأن يدعو رجلا بعينه، أو جماعة معينين» ([27])، وقال أيضا رحمه الله: «إذا دعي إلى وليمة، فيها معصية، كالخمر، والزمر، والعود ونحوه، وأمكنه الإنكار، وإزالة المنكر، لزمه الحضور والإنكار؛ لأنه يؤدي فرضين؛ إجابة أخيه المسلم، وإزالة المنكر، وإن لم يقدر على الإنكار، لم يحضر» ([28])، وإذا كانت هذه إجابة الدعوة من الأرحام فهي من باب أولى، فقد يكون قد أدى فرضا ثالثا وهو صلة الرحم.
أيضا من أنواع وسائل صلة الرحم: الصلة بعيادة المريض، وهي فرض كفاية على الراجح؛ لأنها حق المسلم على المسلم وللأمر بها الذي يدل على الوجوب الكفائي، لحديث ابن عمر: أن رجلا جاء إليهم وهم جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَا أَخَا الْأَنْصَارِ كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟، فَقَالَ: صَالِحٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟ » ([29])، حيث لم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة سعد، بل جعل الخيار لمن شاء بقوله: «مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟» ، إذًا من أنواع الصلة ووسائل الصلة عيادة المريض.
أيضا من وسائل صلة الرحم: اتباع الجنازة، السير مع الجنازة، الراجح أن اتباع الجنازة فرض كفاية خاصة إذا كان الميت قريبا أو جارا لورود الأمر باتباعه، ولورود أيضا نصوص خاصة تفيد تقديم القريب من ذوي الأرحام والجار على غيرهما من عامة المسلمين، ينبغي على المسلم أن يحرص على تشييع الجنائز وأن يخرج مع أرحامه ويشارك معهم، فإن ذلك من الصلة.
أيضا من الصلة بالأفعال: الصلة بإصلاح ذات البين، المصالحة بين المتخاصمين بإزالة أسباب الخصام أو بالتسامح والعفو أو بالتراضي على وجه من الوجوه المشروعة، النصوص كثيرة في الأمر بذلك، قال صلى الله عليه وسلم: « أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ،وَالصَلَاةِ،وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ» ([30]).
أيضا الصلة بالمشاركة في الأفراح والمواساة في الأحزان، زيارة ذوي الأرحام ومساعدتهم بالخدمة والعون، وقد مر معنا إجابة الدعوة في الأفراح واتباع الجنائز في الأحزان، كذلك التهنئة في الأفراح والتسلية والتعزية في الأحزان وغيرها من الأفعال التي تكون سببا لصلة الرحم.
أيضا من أنواع الصلة ووسائل الصلة: الصلة بالأقوال الصلة بالسؤال عند ذوي الأرحام، معرفة أخبارهم وأحوالهم، وحمل همومهم ومعرفة مطالبهم، الصلة بدعوة ذوي الرحم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ونصحهم وإرشاد من كان متساهلا منهم، فإذا كان هذا واجبا اتجاه عامة الناس، فوجوبه اتجاه الأقارب والأرحام آكد.
أيضا من وسائل الصلة: الصلة بالدعاء لأقاربه وذوي أرحامه، فإذا كانت دعوة المرء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مستجابة، فكيف بدعائه لأرحامه وأقاربه، فمن مظاهر صلة الرحم الدعاء للأرحام بالخير والصلاح والهداية، قال ابن أبي جمرة رحمه الله: «تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه وبالدعاء» ([31]).
أيضا من وسائل الصلة: الصلة المال الصلة بالنفقة ما يجعل القريب وغيره من مال للطعام والكساء والفرش والخدمة والسكنى وغيره، والزوجة الإنفاق عليها واجبة النفقة على الوالدين والأصول والفروع والزوجة والأولاد واجبة، سبب وجوبها أنها قرابة يحرم قطعها يجب وصله، دلت الأدلة على وجوب النفقة على هؤلاء من الكتاب والسنة والإجماع، أما النفقة على الأرحام غير الأصول والفروع وهم الإخوة والأخوات ومن في حكمهم، فالراجح أنها لا تجب إلا بشروط منها: أن يكون معسرا أو عاجزا عن الكسب، أن يكون المنفق موسرا غني، وهذا من صلة الرحم.
أيضا من الصلة ببذل المال: الصلة بدفع الزكاة الواجبة، الصدقة المستحبة، فالأرحام أولى من غيرهم في ذلك، قال الله عز وجل: ﵟوَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِﵞ ﵝالأَنفَال : ﵕﵗﵜ، وقال صلى الله عليه وسلم: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صِلَةٌ، وَصَدَقَةٌ» ([32])، هنا فائدة مهمة، قال ابن المنذر: «أجمع العلماء على عدم جواز دفع الزكاة للوالدين والأولاد والزوجة لأن نفقته واجبة بالاتفاق» ([33]) ، يجوز للمرأة دفع الزكاة لزوجها على الراجح لإقراره عليه الصلاة والسلام لامرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كما في الصحيحين، يجوز دفع الزكاة بشروطها لبقية الأرحام كالأعمام والأخوال والإخوة وأبنائهم ذكورا أو إناثا لعدم وجوب الإنفاق عليهم، وحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صِلَةٌ، وَصَدَقَةٌ».
أيضا من أنواع الصلة: الصلة بالهدية والعطية والوصية والوقف، فإنها من وسائل صلة الأرحام ببذل المال لهم.
أيضا من وسائل الصلة: الصلة بالوسائل الحديثة كالهواتف والرسائل والانترنت وغيره، من أنفع وأسهل الوسائل في صلة الرحم إذا كانوا بعيدين لكنها لا تغني عن الصلة في بعض الحالات، كعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة، المشاركة في الأفراح لكن وجود هذه الوسائل للصلة خير من القطيعة، قال ابن باز رحمه الله: « والواجب عليك صلة الرحم حسب الطاقة بالزيارة وبالمكاتبة والهاتف» ([34]) ، إذًا بالإمكان استخدام وسائل الاتصال كالرسائل الهاتفية أو البريد الالكتروني أو برنامج الماسنجر للمراسلات الفورية وصلة الرحم.
هنا نتكلم عن عقوبة قطيعة الرحم في الدنيا والآخرة، بعد أن علمنا أن عقوبة أن قطيعة الرحم من كبائر الذنوب ما هي العقوبة؟
إن عقوبة قطيعة الرحم معجلة في الدني، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» ([35]).
إن قطيعة الرحم تحرم قاطعها بركة الرزق وطول العمر لأن صلة الرحم سبب لبسط الرزق وطول العمر وضده قطيعة الرحم، قال ابن حجر رحمه الله: «قال الطيبي: أن الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويل، فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم» ([36]) ، هذا يكون للقاطع بحرمانه من بركة الرزق وطول العمر، فهذه عقوبة لقطيعة الرحم.
إن قاطع الرحم عاص لله تعالى مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب إن مات عليها بغير توبة، فحكمه حكمه مرتكب الكبيرة وهو على خطر عظيم.
إن قاطع الرحم يُدَّخرُ له العذاب يوم القيامة إن لم تتداركه رحمة الله تعالى، ودليله الحديث الذي أشرنا إليه سابقا حديث أبي بكرة رضي الله عنه: « مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ».
أيضا من عقوبة قطيعة الرحم: أن قطيعة الرحم سبب لمنع دخول الجنة، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ»([37]) ، قال سفيان: قاطع رحم ، قال النووي في شرحه هذا الحديث: « هذا الحديث يتأول تأويلين: أحدهما: حمله على من يستحل القطيعة بلا سبب ولا شبهة مع علمه بتحريمه، فهذا كافر يخلد في النار ولا يدخل الجنة أبد، والثاني: معناه ولا يدخلها في أول الأمر مع السابقين بل يعاقب بتأخره القدر الذي يريده الله تعالى» ([38]).
نأتي لذكر أسباب قطيعة الرحم في آخر هذه المحاضرة، ما هي أسباب قطيعة الرحم؟ الجهل بالحكم الشرعي لقطيعة الرحم، الجهل بعواقب القطيعة في الدنيا والآخرة، الجهل بحكم صلة الرحم وأنه من الواجبات، الجهل بفضائل صلة الرحم في الدنيا والآخرة التي ذكرناها من خلال هذه المحاضرة.
من أسباب قطيعة الرحم: ضعف التقوى ضعف الاستقامة على الدين، تضييع الواجبات كالصلة، عمل المعاصي كقطع الأرحام، الكبر بعض الناس إذا نال منصبا أو جاها أو مالا تكبر على أرحام فقطعهم.
من أسباب قطيعة الرحم: الانقطاع الطويل فترة طويلة عن الأقارب، فوجدت الوحشة منهم فيبدأ بالتسويف بالزيارة، يتمادى بالأمر إلى القطيعة بالكلية، يعتاد القطيعة فيصير قاطعا لرحمه.
من أسباب قطيعة الرحم: العتاب الشديد واللوم والتقريع من بعض الأقارب بعد طول انقطاع، تحصل النفرة منهم والهيبة من المجيء إليهم خوفا من شدة عتابهم، فيقطعهم.
من أسباب قطيعة الرحم: التكلف الزائد أكثر من اللازم، يخسر الأموال الطائلة يجهد نفسه في إكرامهم فوق استطاعته لا يصله أرحامه خوفا من إيقاعه في الحرج والمشقة، فتقطع الأرحام.
أيضا من أسباب قطيعة الرحم: قلة الاهتمام بالأرحام الزائرين، الشح والبخل معهم ثم يقلل زيارتهم حتى تحصل القطيعة.
ومن أسباب قطيعة الرحم: تأخير قسمة الميراث، كل يريد حقه فيحصل الاختلاف، تشيع العداوة والبغضاء بين الأقارب، تكثر المشكلات، تحل الفرقة تسود القطيعة.
أيضا من أسباب قطيعة الرحم: الاشتغال بالدنيا اللهث وراء حطامها لا يجد وقتا لصلة أرحامه، فتحصر القطيعة.
من الأسباب أيضا: المشكلات العائلية، منها الطلاق بين الأقارب سبب لقطيعة الرحم بعد المسافة، التكاسل عن الزيارة عند البعض، قلة تحمل الأقارب قلة الصبر عليهم وعلى أذاهم وعلى زلاتهم، والحسد الغيبة النميمة سوء الخلق كثرة المزاح، هذه أسباب كثيرة لقطيعة الرحم، يجب على المسلم أن يتجنب هذه الأسباب التي تؤدي إلى قطيعة الرحم.
علمنا من خلال هذه المحاضرة ما هو تعريف صلة الرحم، وما هي أنواع الرحم، ما هي فضائل صلة الرحم، وأقسام صلة الرحم الأسباب التي تعين على صلة الرحم، ما هي أقسام صلة الرحم، أحوال الناس في صلة الرحم، وسائل صلة الأرحام، ثم تطرقنا إلى قطيعة الرحم، وأنها من كبائر الذنوب، وأشرنا إلى بعض الأسباب لقطيعة الرحم، وعقوبة قطيعة الرحم.
نسأل الله عز وجل يعيننا وإياكم على صلة أرحامن، وأن يعيذنا وإياكم من قطع الأرحام، نسأله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى طاعته، وأن يفقهنا وإياكم في دينه، كما نسأله عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وفتنة، كما نسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمورنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) ينظر: لسان العرب لابن منظور (12/232).
([2]) شرح النووي على صحيح مسلم (2/201).
([3]) الجامع لأحكام القرآن (5/6).
([4]) التوقيف على مهمات التعاريف (ص460).
([5]) النهاية في غريب الحديث والأثر (5/190).
([6]) غذاء الألباب (1/273).
([7]) رواه أحمد (8868)، والترمذي (1979)، والحاكم (7284)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (276).
([8]) عيون الأخبار (3/88)
([9]) إتحاف السادة المتقين (7/284).
([10]) رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557).
([11]) رقم (5642).
([12]) صحيح البخاري رقم (5642).
([13]) رواه البخاري (1396)، ومسلم (14).
([14]) (1/263).
([15]) نقله الحافظ النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم (16/113).
([16]) رواه البخاري (6032).
([17]) رواه البخاري (2620)، ومسلم (1003).
([18]) رواه البخاري (5990)، ومسلم (366).
([19]) فتح الباري (10/421).
([20]) رواه البخاري (5991).
([21]) شرح سن أبي داود (6/455).
([22]) رواه مسلم (2558).
([23]) شرح النووي على صحيح مسلم (16/115).
([24]) شرح النووي على صحيح مسلم (2/201).
([25]) إعانة الطالبين (3/154).
([26]) شرح رياض الصالحين (3/185).
([27]) المغني (7/213).
([28]) المغني (7/213).
([29]) رواه مسلم (925).
([30]) رواه مسلم (2509)، وأبو داود (4919)، والترمذي (2509)، وهو في صحيح الترغيب والترهيب (4919).
([31]) ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/418).
([32]) رواه أحمد (16232)، والترمذي (658) ، وهو في صحيح الجامع الصغير (3858).
([33]) الإجماع لابن المنذر (ص48).
([34]) مجموع الفتاوى (9/415).
([35]) رواه أحمد (20374)، وأبو داود (4902)، والترمذي (2511)، وابن ماجه (4211).
([36]) فتح الباري (10/416).
([37]) رواه البخاري (5984)، ومسلم (2556).
([38]) شرح النووي على صحيح مسلم (16/113).