الثبات على الدعوة إلى الله عز وجل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛
فنحمد الله عز وجل نعمة الإسلام، كما نشكر القائمين على مركز رياض الصالحين بدبي على جهودهم العلمية، ومنها هذه المحاضرة التي هي بعنوان: " الثبات على الدعوة إلى الله".
والدعوة لها معانٍ كثيرة في لسان العرب، دعا بالشيء دعوًا ودعوى ودعاء ودعوة أي: طلب إحضاره، ودعا الله طلب منه الخير وابتهل إليه واستغاث به، والدعاء واحد الأدعية، والدعوة تطلق على الدعاء إلى الطعام والشراب، وخصها البعض بالوليمة، كما تطلق على معان أخرى كالحلف والأذان وغيرها، أما الداعية هو الداعي الذي يدعو إلى الدين أو إلى فكرة، والجمع دعاة وداعون، ويقال المؤذن داعي الله، والنبي داعي الأمة إلى توحيد الله تعالى وطاعته، والدعاة قوم يدعوا إلى بيعة هدى أو ضلالة،ذ هذه خلاصة تعريفات الدعوة في لسان العرب([1]) .
أما الدعوة في الشرع فقد تعددت معاني الدعوة في القرآن الكريم والسنة النبوية، فجاءت بمعنى الحث على الشيء وقصده، وجاءت بمعنى الاستغاثة والعبادة والنداء والسؤال، وهكذا معان كثيرة.
أما الدعوة في اصطلاح الدعاة: الدعوة إذا أطلقت فالمراد بها الدعوة إلى الله تعالى، وهي تعني أمرين: الأول الدين الإسلامي فهي مرادفة لكلمة إسلام، والثاني عملية نشر الإسلام بين الناس، وعلى هذا سيكون الحديث هنا الثبات على الدعوة إلى الله، الثبات على عملية نشر الإسلام بين الناس خاصة، وجاءت تعريفات أخرى أيضا للدعوة: جمع الناس على الخير، دلالتهم على الرشد بأمرهم بالمعروف عن المنكر، هكذا أيضا جاء تعريف الدعوة: هي قيام المسلمين المؤهلين بتبليغ الناس كافة، وحثهم على اتباع الإسلام إيمانا وعملا ومنهاج حياة بطرق مشروعة مخصوصة، هذه الخلاصة التي جاءت في هذا التعريف الذي هو محور هذه المحاضرة الثبات على الدعوة إلى الله.
إذًا أن يقوم من له أهلية واستطاعة من المسلمين بتبليغ دين الإسلام إلى الناس كافة، أفرادا أو جماعات في كل زمان ومكان بالقول أو الفعل أو السلوك، مقتفين في ذلك أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم متأسين به، سالكين لذلك طرقا مشروعة مخصوصة، هذه خلاصة تعريف الدعوة لغة واصطلاحا.
وأما أهمية الدعوة إلى الله فهي معلومة عند كل مسلم، الدعوة إلى الله مقام عظيم من مقامات الإيمان والعمل الصالح، الله عز وجل يقول: ﵟوَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٣٣ﵞ ﵝفُصِّلَت : ﵓﵓﵜ، الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها لأنها أعظم الأعمال وأرفع العبادات وهي أخص خصائص رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومهمتهم التي بها بعثوا ولها حملوا، ومن أجلها شرّفوا وبها فضلوا، ولها اختيروا لأجل الدعوة إلى الله عز وجل، هي أبرز مهام عباد الله الصالحين وأوليائه المخلصين، الدعوة إلى الله هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه» ([2])، إذًا هذه أهمية الدعوة إلى الله عز وجل، وجاءت الآيات الكثيرة والأحاديث الكثيرة التي تبين عظمة الدعوة إلى الله والثواب الجزيل للداعي إلى الله عز وجل، ويكفي أن هذه الأمة فضلت وخيرت على الناس جميعا بسبب قيامها بواجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله عز وجل: ﵟكُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ ﵞ ﵝآل عِمرَان : ﵐﵑﵑﵜ، إذًا هي دعوة جمعت الخير كله، دعوة الإسلام حذرت من الشر كله، فحق لها أن توصف بقول الله عز وجل: ﵟفَقَدۡ جَآءَكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞﵞ ﵝالأَنعَام : ﵗﵕﵑﵜ، وهكذا الله عز وجل وصف صاحب هذه الدعوة بقوله: ﵟوَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ﵞ ﵝالأَنبِيَاء : ﵗﵐﵑﵜ.
كل ما سبق يبين لنا أهمية الدعوة إلى الله عز وجل، وأن من يحمل هذه الدعوة فهو يحمل رسالة الأنبياء، يسير على هدي ومنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
الغاية من دعوة الناس، يقول ابن القيم رحمه الله: «إن الله سبحانه فطر القلوب على قبول الحق والانقياد له، والطمأنينة به، والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل، والنفور عنه، والريبة به، وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره» ([3])، إذًا هذه الدعوة إلى الله عز وجل لا تصل إلى الناس إلا بمن يحملها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد من رجال يحملون هذه الدعوة من هذه الأمة، يبلغون الناس دين الله عز وجل، ويدعونهم إلى الله عز وجل لطريق السعادة والهدى وكل خير في الوجود من خلال الدعوة إلى الله عز وجل.
إذًا الدعوة إلى الله هي المسلك الأوحد الذي يسلكه رسل الله وأتباعهم لإيصال دين الله إلى الناس كافة، الدعوة إلى الله الواسطة التي تعرف بها أحكام الله وشريعته، وبغير هذه الدعوة إلى الله تبقى الأبواب موصدة والطرق مغلقة.
إذا كانت هذه الدعوة بهذه المثابة فإن بها تتحقق غايات عظيمة وأهداف كبيرة، يعجز هذا المقام عن حصرها، نذكر بعضها فإذا أقيمت الدعوة إلى الله عز وجل على في هذه الأرض عبد الناس الله عز وجل وحده، ولم يشركوا به شيئا، وهذه الغاية العظمى من خلق الجن والإنس لعبادة الله عز وجل لا شريك له، وكذلك أيضا بالقيام بالدعوة إلى الله عز وجل يعظم الإيمان بالله ورسله والملائكة والكتب المنزلة من عند الله، يعظم الإيمان بالقدر خيره وشره وبالبعث يوم الجزاء، يتحقق العمل الصالح الذي هو قرين الإيمان، وهكذا أيضا بالدعوة إلى الله عز وجل تصلح الأمة في جميع شؤونها العقدية والخلقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لتكون أمة تكلؤها السعادة، تحيط بها الطمأنينة، يرفرف عليها العدل، تسودها المحبة، كل ذلك بالدعوة إلى الله عز وجل، كذلك أيضا من ثمار القيام بالدعوة إلى الله دفع الهلاك والدمار عن الأمة، إنقاذ هذه الأمة من عذاب الله ونقمته، إذا ترك أهل الصلاح وأهل الإيمان الدعوة إلى الله عز وجل، أحجموا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتح باب الشر على مصراعيه لأهل الفساد، يبثوا بضاعتهم في الأمة، تسقط الأخلاق والقيم، تتحكم الأهواء والشهوات يعم الشر، يستشري الفساد فيحل بالأمة الهلاك والدمار؛ لذلك لا بد من القيام بالدعوة إلى الله عز وجل، كذلك أيضا لتقوم الحجة على العباد بأداء الأمانة فلا بد من القيام بالدعوة إلى الله عز وجل لتقام الحجة، كذلك أيضا لرد شبه أعداء الإسلام من أصحاب الأديان الباطلة والمحرفة أرباب المذاهب الفكرية المعاصرة، هذه هي أيضا من أهم الغايات والأهداف التي يمكن أن تحصل بالدعوة إلى الله عز وجل وبتبليغ دينه لعباده وبيان هديه لخلقه.
أما حكم الدعوة إلى الله فقد اتفق أهل العلم على وجوب الدعوة إلى الله، ثم اختلفوا في نوعية الوجوب هل هو فرض عين على كل مكلف أم لا، يقول ابن حزم رحمه الله: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على كل مسلم إن قدر بيده فبيده وإن لم يقدر بيده فبلسانه وإن لم يقدر بلسانه فبقلبه ولا بد، وذلك أضعف الإيمان، فإن لم يفعل فلا إيمان له» ([4]، ومع ذلك فقد تجب الدعوة على كل مسلم بالقدر الذي يطيقه، وفي حدود ما تعلمه من العلم، وقد وجب على كل مسلم من العلم ما يؤدي به الفرائض المفروضة عليه صحيحة كاملة وهكذا.
إن جميع المسلمين مطالبون بالدعوة إلى الله عز وجل في حدود مسؤولياتهم، ولذلك يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: ﵟ وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤ﵞ ﵝآل عِمرَان : ﵔﵐﵑﵜ : «والمقصود من هذه الآية، أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه» ([5]) .
نأتي لعنوان المحاضرة الثبات على الدعوة، ما هي عوامل الثبات في الدعوة إلى الله التي يجب أن يتخلق بها الداعية إلى الله عز وجل ويأخذ بهذه العوامل ليعينه الله عز وجل في دعوته؟ فهناك عوامل جمعها أهل العلم، واستنبطوها من الكتاب والسنة نذكرها باختصار تذكيرا لإخواني المسلمين والدعاة إلى الله عز وجل خاصة.
لا شك أن الدعوة إلى الله فيها مشقة تعترضها عقبات، إن طريق الدعوة إلى الله ليس بميسر ولا سهل طريق شاق صعب، مملوء بالعقبات والمخاطر، لا يقوى على السير فيه إلا من كان راسخ القدمين موفقا من الله عز وجل، عالي الهمة قوي العزيمة، مفعما بالصبر عنده الحكمة والمعرفة بالمصالح والمفاسد، عنده الصبر عنده حسن الخلق، عنده الصفات اللازمة للقيام بدعوته إلى الله عز وجل، فالدعوة لا تقدر بعدد، ولا تضبط بزمن الثبات على الدعوة إلى الله أمر مهم، هو المعين على الدعوة إلى الله بعد عون الله عز وجل، معينٌ للداعية على مواصلة الدعوة، لا شك أن العقبات التي تقابل الداعية عقبات صعبة في طريقه من قبل شياطين الإنس والجن، ولذلك يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: «وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم، يناضلون هؤلاء المجرمين، ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله، ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك، ويعينهم الله ويسدد رأيهم، ويثبت أقدامهم، ويداول الأيام بينهم وبين أعدائهم، حتى يدول الأمر في عاقبته بنصرهم وظهورهم والعاقبة للمتقين» ([6])، إذًا الباطل له دعوة، له إصرار وعزيمة، لا بد أن يقابل الباطل يقابل بالحق، أهل الحق يقابلون أهل الباطل بعزيمة أقوى وأشد، لابد لمن حمل دعوة الله تعالى أن يناله من أذى الخلق المعارضين لدعوته أذى بالقول وأذى بالفعل، لا يسلم أحد البتة حتى الرسل لم يسلموا من هذا الأذى، والله عز وجل ذكرهم، وذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم واجه وناله من الأذى الكثير، قال الله عز وجل: ﵟكَذَٰلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ ٥٢ أَتَوَاصَوۡاْ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ طَاغُونَ ٥٣ﵞ ﵝالذَّارِيَات : ﵒﵕ - ﵓﵕﵜ، وقال عز وجل: ﵟفَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدۡ كُذِّبَ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ جَآءُو بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُنِيرِ ١٨٤ﵞ ﵝآل عِمرَان : ﵔﵘﵑﵜ، وهكذا من سلك طريق الأنبياء لابد أن يجد من الأذى، يقول ابن كثير رحمه الله: «فكل من قام بحق أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله والرجوع إلى الله عز وجل» ([7]).
الأذى كما جمعه أهل العلم نوعان: أذى يضر الدعوة فذلك غير مقبول المآل؛ لأنه يوقف سير عجلتها، أذى يصيب حملتها فذلك مآل لا بد منه، وإذا فرق الله بينهما وأذى الخلق الموجه إلى الدعاة إلى الله ليس له علاج أنجع من الصبر والثبات على الدعوة؛ لذلك جاء عنوان هذه المحاضرة: الثبات على الدعوة إلى الله، لابد من الثبات، هناك مقومات تعين الداعية إلى الله على الثبات، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: « ولا بد أيضا أن يكون حليما صبورا على الأذى؛ فإنه لا بد أن يحصل له أذى؛ فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح» ([8])، إذًا عظمة الدعوة تستوجب عظمة الجهد؛ لذلك قال أحدهم:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
ولما كانت الدعوة إلى الله تحتاج إلى الثبات في جميع مراحلها قرن الله معها الصبر في آيات كثيرة، منها قوله عز وجل: ﵟيَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ ١٧ﵞ ﵝلُقمَان : ﵗﵑﵜ ، فهذا فيما أوصى به لقمان ابنه، وذلك بعد أن أمره بتكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر أمره أن يكمل غيره بأمره بالخير ونهيه عن الشر، وقد علم أن ذلك يشق على النفوس ويزعجها فأمره بالصبر، وأنه من الأمور التي يعزم عليها ويهتم بها، وهكذا الله عز وجل أمر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وهكذا بعد أن أمره عقب ذلك ومن معه من المؤمنين بالصبر، قال عز وجل: ﵟوَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ ١٢٧ﵞ ﵝالنَّحل : ﵗﵒﵑﵜ ، يقول السعدي رحمه الله: «وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ هو الذي يعينك عليه ويثبتك» ([9])، هكذا إذًا يتبين لنا أهمية الثبات للداعية وأنه لا يمكن أن يواصل سيره في دعوته إلا إذا ثبت في ميدان الدعوة، والثبات في ميدان الدعوة يتحقق له كثير من النتائج، فإذا ثبت الداعية إلى الله عز وجل قويت العزيمة وواجه الصعاب بإذن الله عز وجل، ووقف على صدق الصادقين من الدعاة، وهذا أيضا ثباته برهان على أنه جدير بالدعوة إلى الله، وأيضا ضمان استمرارية الدعوة، إذا ثبت الداعي إلى الله عز وجل تستمر الدعوة إلى الله، تقف أمام التحديات، يعجز أهل الباطل من النيل منها لصلابة سياجها، وهكذا يكثر أتباع الدعوة إلى الله إذا ثبت الدعاة إلى الله، وإذا ثبت الداعية على دعوته ترتب على ذلك ثواب عظيم في الدنيا والآخرة.
هناك عوامل كثيرة تعين على الثبات على الدعوة إلى الله عز وجل نختصرها منها:
معرفة فضل الدعوة إلى الله، ثواب المترتب على الدعوة إلى الله، كذلك معرفة ما يترتب على ترك الدعوة إلى الله عز وجل من العقاب، معرفة هذا الأمر مهم جدا يعين على الثبات على الدعوة على الله عز وجل، فإذا علم الداعية بأنه يقوم بعمل كبير بعمل جزيل يثاب عليه أعانه ذلك على الثبات على الدعوة إلى الله، والله عز وجل يقول: ﵟوَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٣٣ﵞ ﵝفُصِّلَت : ﵓﵓﵜ ، لا أحد أحسن كلاما ولا أطيب مقالا من الذي يقوم بالدعوة إلى دين الله عز وجل، دعوة عباد الله عز وجل إلى دينه على مراد الله بأمر من الله عز وجل، الأمة تنال الفلاح في الدنيا والآخرة إذا عملت بدينها، وقامت بالدعوة إلى الله خير قيام، أدت الأمانة ونصحت الأمة فحينها تعلو مرتبة هذه الأمة، ويعزها الله عز وجل، وتنال المجد والشرف بين الأمم، إذًا معرفة فضل الدعوة والثواب العظيم، وكذلك الإثم العظيم من ترك هذه الدعوة يعين على الثبات على الدعوة إلى الله عز وجل، يقول ابن القيم رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَه، لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أجُورِهمْ شَيئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ، كَانَ عَلَيهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيئًا»([10]) : «أخبر صلى الله عليه وسلم أن المتسبب إلى الهدى بدعوته لَهُ مثل أجْرِ من اهْتَدَى بِهِ» ([11]) إلى آخر كلامه رحمه الله.
إذًا معرفة الثواب العظيم مما يعين على الثبات على الدعوة إلى الله، وهكذا أيضا يقول الحافظ النووي رحمه الله في الحديث السابق: « فيه فضيلة الدلالة على الخير والتنبيه عليه والمساعدة لفاعله، وفيه فضيلة تعليم العلم، ووظائف العبادات لاسيما لمن يعمل بها من المتعبدين وغيرهم» ([12])، إذًا الداعية إلى الله ينال الأجر العظيم، ينقذ من اهتدى على يديه من النار، هكذا أيضا كل ما يقوم به الداعية إلى الله والمهتدي على يديه من حركات وسكنات ينال الداعية إلى الله أجرا، له مثل أجره لأنه تسبب في هداية الناس، ومن اهتدى يكون عونا للداعية على أداء رسالته، وهكذا يكتسب إسلام فردا جديدا من أفراده، يخسر الشيطان بعض أعوانه، كل ذلك بالدعوة إلى الله عز وجل، إذًا من مقومات الثبات على الدعوة إلى الله عز وجل معرفة الثواب العظيم.
أيضا مما يعين على الثبات على الدعوة إلى الله: العلم الشرعي، العلم الشرعي به تحيا الدعوة إلى الله عز وجل، العلم الشرعي النور الذي يستضيء به الداعية إلى الله عز وجل، يستضيء بالعلم الشرعي فمن ليس عنده علم يعجز على أن يؤدي دوره الذي كلف به، فبنور العلم والإيمان يستطيع الداعية أن يمشي بين الناس متبصرا في أموره، مهتديا لسبيله عارفا للخير مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره، عارفا بالشر مبغضا له مجتهدا في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره، العلم الذي تحتاجه الدعوة هو العلم الديني المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «المراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه» ([13]، وهكذا العلم للدعوة سلاح وضرورة وغاية مهمة، العلم الشرعي زاد لجميع مراحل الدعوة إلى الله، قال عز وجل: ﵟقُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨ﵞ ﵝيُوسُف : ﵘﵐﵑﵜ، فالله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس بأن هذه سبيله، أي: طريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى الله على بصيرة وهي العلم واليقين والبرهان، وهكذا يقول ابن القيم رحمه الله: « وإذا كانت الدعوةُ إلى الله أشرفَ مقامات العبد وأجلَّها وأفضلَها، فهي لا تحصلُ إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حدٍّ يصلُ إليه السَّعي» ([14]).
ثالثا مما يعين على الثبات على الدعوة: العمل بالعلم، فالله عز وجل قال: ﵟوَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖﵞ ﵝالتَّوبَة : ﵕﵐﵑﵜ إذًا اعملوا، اعملوا بالعلم الذي عندكم، والعمل سبب لدخول الجنة، قال عز وجل: ﵟوَتِلۡكَ ٱلۡجَنَّةُ ٱلَّتِيٓ أُورِثۡتُمُوهَا بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٧٢ﵞ ﵝالزُّخرُف : ﵒﵗﵜ، غاية العلم هدفه الأسمى أن يتوصل به إلى العمل، قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: «يا أيها الناس تعلموا فمن علم فليعمل» ([15]، وهكذا أيضا يقول أيوب السختياني رحمه الله: « قال لي أبو قلابة: إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة، ولا يكن همك أن تحدث به»([16])، وهكذا يقول الخطيب البغدادي رحمه الله: «والعلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصرا عن العلم، كان العلم كلا على العالم، ونعوذ بالله من علم عاد كلا، وأورث ذلا، وصار في رقبة صاحبه غلا» ، ويقول: « وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها» ([17]).
رابعًا مما يعينه على الثبات على الدعوة: الإخلاص، الإخلاص تخليص القلب عن شائبة الشرك والرياء، أن يكون الداعية إلى الله مخلصا لله، يبتغي وجه الله عز وجل من دعوته إلى عز وجل.
خامسا مما يعينه على الثبات على الدعوة: مراعاة المصالح والمفاسد وهذه مهمة جدا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما» ([18])، وهكذا أيضا يقول الشاطبي رحمه الله: « إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا» ([19])، فالشريعة جاءت بتحقيق المصالح وتحصيلها، وتفويت المفاسد وتعطيلها، هذا حين تنفرد المصالح أو المفاسد من غير تعارض بينهما، وأما متى ما تعارضت المصالح والمفاسد تزاحمت الحسنات والسيئات فإنه وجب حينئذ تقديم الراجح منهما، وهكذا دلت الأدلة من الكتاب والسنة على هذه القواعد، ولذلك يقول الحافظ النووي رحمه الله في حديث عائشة: «لولا قومك حديث عهدهم بكفر، لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس وباب يخرجون» ([20]): «وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها: إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيما فتركها صلى الله عليه وسلم» ([21])، أيضا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر» ([22])،إذا باب التعارض باب واسع جدا، ينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يتعلم هذا الباب، ويكون له عونا بعد الله عز وجل في دعوته إلى الله، الداعية إلى الله وهو يسير بدعوته عليه مراعاة المصالح والمفاسد في أمره ونهيه، فإن كان فيما يأمر وينهى مصلحة خالصة أو مصلحة أعظم أمر ونهى، وإن ترتب على ذلك مفسدة خاصة أو مفسدة أعظم كف عن الأمر أو النهي، وإن استوتا أو اشتبه الأمر توقف حتى يتبين له، وهو بذلك يضمن سلامة الطريق واستمرارية السير، ومواصلة الدعوة إلى الله عز وجل، وثباتها بعيدا عن الهزات والعقبات.
هذا ما أردنا أن نذكره من خلال هذه المحاضرة، نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، كما نسأله عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وفتنة، نسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمورنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقهم البطانة الصالحة.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) ينظر: لسان العرب لابن منظور (14/258-259).
([2]) مجموع الفتاوى (15/157).
([3]) مدارج السالكين (3/437).
([4]) المحلى(8/423).
([5]) تفسير القرآن العظيم (2/78).
([6]) تيسير الكريم الرحمن (ص271).
([7]) تفسير القرآن العظيم (2/159).
([8]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص32).
([9]) تيسير الكريم الرحمن (ص452).
([10]) رواه مسلم (2674).
([11]) مفتاح دار السعادة (1/62).
([12]) شرح النووي على صحيح مسلم (13/39).
([13]) فتح الباري (1/192).
([14]) مفتاح دار السعادة (1/154).
([15]) ذكره ابن أبي خيثمة في كتاب العلم (ص111).
([16]) ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (ص266).
([17]) اقتضاء العلم العمل (ص158).
([18]) مجموع الفتاوى (20/48).
([19]) الموافقات (2/2).
([20]) رواه البخاري (126)، ومسلم (1333).
([21]) شرح النووي على صحيح مسلم (9/89).
([22]) مجموع الفتاوى (28/129).