نجاح النهايات بحسن البدايات


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛

 القرآن يعلمنا دومًا كيف نتعامل مع هذه الحياة، وكيف نستفيد منها الخبرات، وكيف ننهل منها نهلًا صحيحًا، وكيف أيضًا نتعامل معها في خضم هذه المتغيرات، فضَرَبَ لنا الأمثال والقصص فيمن طغى سرعان ما انتهى، ومن اتقى بقى، في قصص يعتبر منها الإنسان ويأخذ منها الحكم والفوائد، من تلك القصص المهمة قصة قارون مع قومه عندما قال الله سبحانه وتعالى: ﵟإِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡﵞ ﵝالقَصَص : ﵖﵗﵜ، كان من قوم موسى فبغى وتكبر وتجبر وظلم واعتدى مع أنَّ الله سبحانه وتعالى أعطاه من الكنوز والمال ﵟمَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِﵞ ﵝالقَصَص : ﵖﵗﵜ ، المفتاح الواحد من كنوزه يحمله جمع خمسة أو ستة هذا المفتاح فما بالك بتلك الخزائن التي فيها تلك الكنوز، فقال له قومه لا تفرح؛ أي لا تفرح فرح غرور، ولا تعجب وتغتر بما عندك، فإن هذه الدنيا دار غرور ﵟإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦ﵞﵝالقَصَص : ﵖﵗﵜ ، الله سبحانه وتعالى لا يحب من فرح فرح غرور وتجبر وتبختر، وإنما الفرح الحقيقي بطاعة الله وبما عند الله وبصلاح خلق الله.

وقالوا له: ﵟوَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَﵞ ﵝالقَصَص : ﵗﵗﵜ ، أي لا تترك ما عندك وترميه، وإنما تعامل معه بطريقة صحيحة ابتغ فيه الدار الآخرة ﵟوَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَﵞ ﵝالقَصَص : ﵗﵗﵜ ، هذا المال وهذا المنصب وهذه الوجاهة إنما هي من عند الله سبحانه وتعالى، فأحسن فيما أعطاك معه سبحانه وتعالى؛ أحسن بعبادته بطاعته باستغلال ما أعطاك فيما يحبه سبحانه وتعالى، ﵟوَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٧٧ﵞ ﵝالقَصَص : ﵗﵗﵜ بأنواعه من قتل وإجرام وسفك لدماء ونهب وبغي إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٧٧ﵞ، لم يقبل قارون نصيحة الناصحين مع ما فيها من جمال تعبير ووعظ وتذكير، ﵟقَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓﵞ ﵝالقَصَص : ﵘﵗﵜ يعني هذا ليس من عند الله سبحانه وتعالى ولكن أنا أعلم بوجوه المكاسب وأفهم بالطرق التي أستفيد منها الأموال، فتوصلت إلى ذلك، فيقول الله سبحانه وتعالى: ﵟأَوَلَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاﵞ ﵝالقَصَص : ﵘﵗﵜ بلى يعلم، يعلم عن من قبله كيف هلكوا وكم كانت عندهم من أموال فما نفعتهم، قال: ﵟوَلَا يُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٧٨ﵞ ﵝالقَصَص : ﵘﵗﵜ ، المجرم هو أعلم بنفسه فهو على نفسه بصيرة وأدرى بما فيه، فلا يسأل عن إجرامه لأنه يعلم أنه مجرم مذنب وإن تكبر وأظهر غير ما عنده.

 فأراد قارون أن يتباهى بماله وما عنده ﵟفَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِي زِينَتِهِۦﵞ ﵝالقَصَص : ﵙﵗﵜ خرج في زينة كبيرة بخدمه وحشمه وبغاله وخيوله وذهبه يمر بين الناس حتى ينظر الناس ما عنده من جاه ومال في مئات من البغال والحيوانات والخدم، فافتتن الناس وانقسموا إلى قسمين:

القسم الأول: الذين يريدون الحياة الدنيا، نظرتهم إلى الدنيا نظرة قاصرة، نظرة مظاهر لم يكن عندهم شيء من العلم، ماذا قالوا؟  ﵟيَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ ٧٩ﵞ ﵝالقَصَص : ﵙﵗﵜ يتمنوا ما عند قارون من مال، وظنوا أن هذا الحظ العظيم، ونسوا ما هو الحظ العظيم لما عندهم من جهل وتعلق بهذه الدنيا.

القسم الثاني: أهل العلم: ﵟوَقَال ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَيۡلَكُمۡﵞﵝالقَصَص : ﵐﵘﵜ ينصحون أهل الدنيا ﵟوَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيۡرٞﵞ ﵝالقَصَص : ﵐﵘﵜ ثواب الله في الدنيا من الأجور، وفي الآخرة من الجنان ﵟخَيۡرٞ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗاۚ وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّٰبِرُونَ ٨٠ﵞ ﵝالقَصَص : ﵐﵘﵜ ، هذه ثلاثة ضوابط مهمة للوصول إلى الثواب العظيم عند الله سبحانه وتعالى: الأول الإيمان، الثاني: الأعمال الصالحة، ولا يستطيع أن يثبت على الإيمان والأعمال الصالحة إلا من كان صابرًا وهو الضابط الثالث.

 مرت الأيام فخسف بقارون وما عنده من مال ﵟفَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ ٨١ﵞﵝالقَصَص : ﵑﵘﵜ من الذي يستطيع أن ينصر قارون إذا أراد الله سبحانه وتعالى هلاكه، وعندما أهلكه لو اجتمع جميع من في الأرض فإنهم لا يستطيعون نصرته ومساعدته، فهو عاجز عن نصر نفسه ومن معه عاجزون عن نصره، فهنا أبصر من لم يكن يبصر، وهم أهل الدنيا ﵟوَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُﵞ ﵝالقَصَص : ﵒﵘﵜ يعني يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وذلك لحكمة بالغة ﵟلَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاﵞ ﵝالقَصَص : ﵒﵘﵜ أنهم لو عملوا مثل عمله وشاركوه في دنياه لخسف بهم لكن أمهلهم الله فأبصروا بعد هلاكه ﵟوَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٢ﵞ ﵝالقَصَص : ﵒﵘﵜ.

وختم الله القصة بقاعدة عظيمة  ﵟتِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ ٨٣ﵞ ﵝالقَصَص : ﵓﵘﵜ.

 هذه القصة العظيمة الكبيرة المهمة في حياة الإنسان تبصره عدة بصائر:

 البصيرة الأولى: أن يعلم الإنسان كيف يتعامل مع الدنيا، وأن يجعل الدنيا دار ممرٍّ ومعبر لا مقرٍّ، وما آتاه الله سبحانه وتعالى من مال وجاه ومنصب، فإنما يستخدمه لله وفي الله ولنفع عباد الله ليس بالبغي والطغيان والظلم والعدوان، فبهذا يكون كسب ما في الدنيا من خير ويثاب في الآخرة على ما أحسن فيه من أجر وثواب.

 البصيرة الثانية: فضل أهل العلم على البلاد وعلى العباد، فإنِّ العلماء يُبصرون ما لا يبصره عامة الناس، فإنهم يرون ويعلمون بما بصَّرهم به الشرع، وما هم أعلم به  بالواقع، لذلك من المهمِّ جدًا أن يعظم ويحترم العلماء، ويؤخذ برأيهم وأقوالهم، أعني بهم علماء أهل الحقِّ والاعتدال والسنة، ليس كلُّ من تصدر للفتوى والعلم أصبح عالمًا، فلابد أن نميِّز بين علماء أهل الحقِّ وعلماء أهل الباطل حتى لا تزل بنا  القدم.

 البصيرة الثالثة: العاقبة للمتقين، والسعادة للمحسنين، والفوز للمتعلمين، والنجاة للمؤمنين العاملين الصابرين على طاعة الله، إذًا من أراد العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة فليصبر، ويكن مؤمنًا عاملًا للصالحات، أما غير ذلك فإنه عاقبة مؤقتة في الدنيا وسرعان ما تزول هذه الدنيا، ومن كانت الدنيا همه فرّق الله سبحانه وتعالى له شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما كتب له، وجعل فقره بين عينيه، ومن كانت الآخرة همه جمع الله سبحانه وتعالى له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.

 إذًا لا تنظر إلى البدايات لكن انظر إلى نجاح النهايات، فهذا مهم جدًا، وإنما شرط نجاح النهايات بصحة البدايات.

شرط النهايات تصحيح البدايات...وفاقد الشرط بالمشروط لا ياتي

 نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن ينفعنا بما سمعنا، وأن يبارك في أهلينا وأموالنا، ويحفظ بلادنا.

 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.