النخلة جمال وبركة وعبرة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أتم النعمة وجعل في الأنعام عبرة، ومنّ علينا بأشجارٍ فيها بركة، وصلى الله على نبينا محمد من نصح وأرشد الأمة، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يتفرق فيه الناس إلى نار وجنة، أما بعد؛
حديثي معكم عن "النخلة"، ما هو قدر هذه النخلة في الإسلام؟، وما هي مكانتها؟ وما هي الأحكام التي تتعلق بها؟ موضوعٌ جميلٌ وطويلٌ، لكن لابد أن نعرف أن هذه النخلة لها مساسٌ أو تعلقٌ بالعقيدة، ولها تعلقٌ بالأحكام الإسلامية حتى في الصلاة، ولها تعلقٌ بأحكام الصيام، ولها تعلقٌ بأحكام الربا والبيوع، ولها تعلقٌ بمسائل كثيرة في ديننا الإسلامي، مما يدل على أن هذا الإسلام اعتنى حتى بهذه الثمرة، فالإسلام عظيم، ومكانته جليلة.
ولنقف معكم وقفات في جمال هذه النخلة في القرآن، وما فيها من بركة، فإن الله سبحانه وتعالى يقول وتأملوا في قوله جل في علاه: ﵟوَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّٰتٞ مِّنۡأَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُصِنۡوَانٖ ٤ﵞﵝالرَّعۡد: ﵔﵜ ، قال أهل التفسير: "الصنوان": هي النخلة التي هي متجمعة في أصل واحد، النخلة التي يخرج منها عدة نخيل فتكون صنوان، وغير صنوان: هي المعتادة المتفرقات([1]) ، لكن انظر إلى الحكمة والعبرة في ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: ﵟ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ ﵞوهو صنوان:ﵟ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَى ٰبَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ٤ﵞﵝالرَّعۡد: ﵔﵜ . فالأرض واحدة، والنبتة واحدة، والماء واحدٌ، ولكن في هذه طعمٌ وذوقٌ ولونٌ ليس في الأخرى، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى بعد هذه الآية: ﵟ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ٤ﵞ ﵝالرَّعۡد:ﵔﵜ.
ففي النظر في هذه النخلة وما فيها من ثمرة آيات باهرات لابد أن يتفكر فيها الإنسان؛ لذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﵟ وَٱلنَّخۡلَ بَاسِقَٰتٖ لَّهَا طَلۡعٞ نَّضِيدٞ ١٠ﵞﵝق:ﵐﵑﵜ، النخل الباسقات هي الشامخات، والطلع معروف، لكن الطلع قبل أن يخرج من أكمامه يكون نضيدًا، أي: متراكبًا بعضه فوق بعض، انظر إلى دقة الوصف ، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى مُفضلًا هذه النخلة على غيرها من الثمار والفواكه يقول في سورة الرحمن: ﵟوَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلۡأَنَامِ ١٠ فِيهَا فَٰكِهَةٞ وَٱلنَّخۡلُ ذَاتُ ٱلۡأَكۡمَامِ ١١ﵞ ﵝالرحمن: 10-11ﵜ، قال أهل العلم: فأفردها بالذِكر لشرفها ومكانتها ورِفعتها([2])، ويقول الله سبحانه وتعالى: ﵟ وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ ٩٩ﵞﵝالأَنۡعَام:ﵙﵙﵜ، القنوان: هي عنقود الرُطب، لكن يخرج من هذا الطلع هذا القنوان حتى يُصبح عذقًا ثقيلًا شامخًا مثمرًا لا يكاد يحمله الإنسان الواحد، ومع هذا هي دانيةٌ قريبةٌ من الإنسان، ويقول الله سبحانه وتعالى: ﵟ لِيَأۡكُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَيۡدِيهِمۡۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ ٣٥ﵞﵝيس:ﵕﵓﵜ، فهذه النِعم لابد من شكرها، ولابد من ذِكر ما فيها ليتدبر الإنسان ويتفكر، فإن في خلقها شيءٌ عظيم، وقد ضرب الله سبحانه وتعالى بالنخلة مثلًا عظيمًا جدًا، فيقول الله سبحانه وتعالى: ﵟ أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ ٢٤ تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗﵞ ﵝإِبۡرَاهِيم:24-25ﵜ، الشجرة الطيبة هي النخلة أصلها ثابت، وفرعها في السماء، وتؤتي أُكلها كل حينٍ، لا يؤكل من الثمر في كل وقته ويكون في جميع الأوقات مثل ثمرة النخلة، فتأكله رُطبًا ثم تكون تمرًا، ثم بعد ذلك تدخره وتأكل منه طوال السَنة، لكن هنا فائدة مهمة جدًا، الله سبحانه وتعالى يقول: ﵟ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗﵞ، ما هي الكلمة الطيبة؟ هي كلمة التوحيد، فهذا التوحيد كلمة طيبة أصلها عظيم، منْ أسس التوحيد أسس بنيانًا شامخًا، من حقق التوحيد رفع جبالًا شامخة، فالتوحيد ثباتٌ وقوة وأمنٌ واجتماع وأُلفة، كهذه النخلة، المؤمن إذا حقق التوحيد في قلبه كان أصله ثابت، وكان فرعه معطاءً، لذلك شَبه النبي صلى الله عليه وسلم النخلة بالمؤمن، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال: رسول صلى الله عليه وسلم: «أخْبِرُونِي بشَجَرَةٍ مَثَلُها مَثَلُ المُسْلِمِ، تُؤْتي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بإذْنِ رَبِّها، ولا تَحُتُّ ورَقَها فَوَقَعَ في نَفْسِي أنّها النَّخْلَةُ، فَكَرِهْتُ أنْ أتَكَلَّمَ، وثَمَّ أبو بَكْرٍ وعُمَرُ، فَلَمّا لَمْ يَتَكَلَّما، قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: هي النَّخْلَةُ، فَلَمّا خَرَجْتُ مع أبِي قُلتُ: يا أبَتاهُ، وقَعَ في نَفْسِي أنّها النَّخْلَةُ، قالَ: ما مَنَعَكَ أنْ تَقُولَها، لو كُنْتَ قُلْتَها كانَ أحَبَّ إلَيَّ مِن كَذا وكَذا، قالَ: ما مَنَعَنِي إلّا أنِّي لَمْ أرَكَ ولا أبا بَكْرٍ تَكَلَّمْتُ ما فَكَرِهْتُ» ([3]) ، لأن الأب يفرح بابنه عندما يشاركه، وعندما يعرف العلم، ففي هذا الحديث وقفات جميلة مع النخلة:
الوقفة الأولى: ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ مِنَ الشَّجَرِ لَما بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ المُسْلِمِ» ([4] ، حاول أهل العلم يبحث عن أنواع التشابه بين المؤمن وبين النخلة؟ فوجدوا أن المؤمن ثابت العقيدة، لا يتزعزع، ولا يتزحزح، ولا ينثني عن عقيدته، لا ينثنيعن إيمانه بربه، وتوحيده لله سبحانه وتعالى، وإيمانه بأسمائه وصفاته، لا ينثني عن إيمانه بالملائكة، والكتب، والرسل، والقدر خيره وشره، واليوم الآخر، لا ينثني عن اعتقاده بالسمع والطاعة لولاة الأمر، ثابت، تأتي الرياح، تهب العواصف، وهو على ما هو عليه، فالنخلة لا يتساقط ورقها، والمؤمن لا تتساقط مبادئه، ثابت، والآن مع الافتتاحات، ومع السوشيال ميديا، ومع هذه الأمور من الذي يثبت؟
يثبت الذي هو كالنخلة، يثبت الذي أصل الأصل، وثبته، الذي ثبت العقيدة، فالمؤمن هكذا لا تتغير مبادئه، لا يترك صلاته، لا يترك أخلاقه، ثابت.
الوقفة الثانية: أن المؤمن معطاء كالنخلة، النخلة يستفاد منها كلها، يستفاد من كربها ومن سعفها ومن خوصها،يستفاد منها كلها، وكذلك المؤمن لا تجلس معه إلا وأنت تستفيد منه، كما قال عيسى عليه السلام: ﵟ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ ﵞﵝمَرۡيَم:ﵑﵓﵜ، فالمؤمن مبارك أين ما كان، ينفع الناس، يعلم الناس الخير، يساعد الفقير، يساهم في زيارة المريض، يُعين الملهوف، يُفرج الكُرب.
الوقفة الثالثة: أن المؤمن قلبه كقلب النخلة، فقلبه لينٌ وعظيم، فقلب المؤمن لا يدخلهإلا الله سبحانه وتعالى، لا يجول في خاطره إلا كلام الله سبحانه وتعالى.
الوقفة الرابعة: قالوا: إن النخلة مع شموخها، لكنها أسهل شجرة وأقرب ثمرة، أسهل شجرة يركب عليها الإنسان، وأدنى ثمرة لأنها تدنو بعذقها خصوصًا إذا كانت دانية، قالوا: فكذلك المؤمن هينٌ لينٌ سهلٌ قريبٌ من الناس، وإنما الجنة أو النار يقول صلى الله عليه وسلم : «حُرمت النار على كل مؤمنٍ هينٍ لينٍ سهلٍ»([5]).
الوقفة الخامسة: ورد إشكال عند بعض الناس، قالوا: تقولون إن النخلة كلها مفيدة كالمؤمن، لكن النخلة فيها شيء قد يؤذي قلنا بهم ما هذا ؟، قالوا: فيها شوكٌ يؤذي، قالوا: كذلك المؤمن فإنه يؤذي من يؤذي دين الله سبحانه وتعالى، ويمنع من يُحرف في دين الله، وهو كذلك يمنع ويشك من اعتدى على عقيدتيه وعلى الدين وعلى الأخلاق وعلى القيم وعلى الوطن، فلابد من حماية، فالحماية قوة، فكذلك المؤمن شوكته في نحر أهل الانحرافات، وأهل التطرفات.
الوقفة السادسة: هناك أمرٌ مهم في قضية النخلة، وعلاقتها بالمؤمن، هذه النخلة ثابتةٌ صامتةٌ قويةٌ شامخةٌ إذا كانت على أرضٍ طيبة، وكانت تسقى بماءٍ، والمؤمن شامخٌ قويٌ ثابتٌ معطاءٌ إذا كان يسقى بالعلم النافع، إذا كان يسقى بالقرآن والسُنة، إذا كان دائمًا هو يتلقى هذا العلم الذي يقوي قلبه كالنخلة، أما إذا خلا من ذلك فإنه يتساقط بعض الضعف رويدًا رويدًا، كما أن النخلة إذا خلت سقطت كما قال الله سبحانه وتعالى في قوم عادٍ أنهم: ﵟكَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٖ مُّنقَعِرٖ ﵞ ﵝالقَمَر:ﵐﵒﵜ، اُجتث من أصله، وتساقط، وانكسر، أو ﵟكَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﵞ [الحاقة: 7]، النخلة نعم قوية لكن إذا أهمل سقيها خوت، إذا خوت دبت فيها الآفات فيدب فيها السوس ويأكل جوفها فتصبح بعد القوة ضعيفة خاوية، فالإنسان المؤمن لابد أن يتعاهد نفسه بالسقي، والسقي لا يكون إلا من كتاب الله وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام أئمة الدين من الصحابة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
قد بين الله سبحانه وتعالى لنا حكمة وعبرة في نواة التمرة، فنواة التمرة فيها قطمير، وهو القشر الرقيق الذي يغطي ظهر النواة، وفيها الفتيل وهو الخيط أو القشر الضعيف الذي يكون في شق النواة، وفيها نقير وهي النقطة الصغيرة التي على النواة.
فهنا ثلاث وقفات مع نواة التمرة:
الأولى في قوله سبحانه وتعالى: ﵟ وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ ١٣ﵞﵝفَاطِر:ﵓﵑﵜ، الذين تدعون من دونه يقول لهؤلاء الذين يدعون من دون الله صنمًا وثنًا ميتًا قبرًا يقول هؤلاء ما يملكون من قطمير، هذا القطمير الذي هو غشاء على النواة ما يملكونه حتى تطلبون منهم الولد، أو تطلبون منهم العافية، أو تطلبون منهم الرزق، فإذا كانوا لا يملكون أحقر شيء فكيف يملكونه ما فوقه وكيف تطلبونهمنهم !.
يقول الله سبحانه وتعالى: ﵟ إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡﵞ موتى ما يسمعون الدعاء، ﵟإِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡوَلَوۡ سَمِعُواْ ﵞ لو ولو فرضنا أنهم سمعوا ﵟ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ ﵞ ولو فرضنا أنهم استجابوا لكم فرضًا ﵟوَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ ١٤ﵞﵝفَاطِر: ﵔﵑﵜ يوم القيامة يتعادى هذا مع هذا، يتبرأ هذا من هذا.
الثانية: في قول الله سبحانه وتعالى: ﵟيَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۭ بِإِمَٰمِهِمۡۖ٧١ﵞﵝالإِسۡرَاء: ﵑﵗﵜ، كل إنسان يُدعى يوم القيامة بكتابه أمامه([6])، ﵟ فَمَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥبِيَمِينِهِۦفَأُوْلَٰٓئِكَ يَقۡرَءُونَ كِتَٰبَهُمۡ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلٗا ٧١ﵞﵝالإِسۡرَاء: ﵑﵗﵜ، من يُعطى يوم القيامة في ذلك الموقف العظيم يُعطى كتابه بيمينه، ﵟ َيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ ١٩ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ ٢٠ فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ ﵞﵝالحَاقَّة: 19-21ﵜ، الله سبحانه وتعالى هنا يقول: ﵟ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلٗا ٧١ﵞﵝالإِسۡرَاء: ﵑﵗﵜ، ما يظلمهم الله سبحانه وتعالى ولو هذا الفتيل هذا الخيط الصغير الذي في شق هذه النواة، وذلك من كمال عدل الله سبحانه وتعالى.
الثالثة: وأما النقير فقال الله سبحانه وتعالى فيه: ﵟ وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡأُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا ١٢٤ﵞﵝالنِّسَاء:ﵔﵒﵑﵜ، ما يُظلم حتى هذه النقطة الصغيرة ما يظلمه الله سبحانه وتعالى، بل يزيده ويضاعفه.
v مواقف عظيمة للصحابة مع النخلة.
لما عرف الصحابة هذا الوصف العظيم، وهذه المنة الكبيرة، خصوصًا هذا العطاء بهذه النخلة في الجنة، كان رجلٌ يُقوم حائطه حائط بستانه، وفي طريق الحائط نخلة فطلب من هذا الرجل أن يعطيه هذه النخلة، فأبى، فأتى عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقال يا رسول الله: «قل له يعطيني هذه النخلة حتى أُقوم حائطي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطه؟ قال: أعطه ولك نخلةٌ في الجنة، فأبى الرجل» ([7])، سمع شخصٌ من الصحابة هذا الحوار يسمى بأبي الدحداح، فأتى عند هذا الرجل الذي أبى أن يعطي ذلك اليتيم الذي يقوم حائطه النخلة، وعند أبي الدحداح بستان نخلٍ مكونٌ من ستمائة نخلة!، والناس تتباهى ببستان أبي الدحداح، مضروب به المثل في المدينة، فأتى عند الرجل هذا، فقال: بعني نخلتك ببستاني كله؟ قال: بعتك، فأتى عند النبي صلى الله عليه وسلم فرحًا قال:يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة»، قالها مرارًا، أي كم من عذق جميل لأبي الدحداح، تباهى به النبي صلى الله عليه وسلم ، فهنا المنافسة، حتى إنه دخل عند زوجته وزوجته في المزرعة قال: «يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ: اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَتْ: رَبِحَ الْبَيْعُ»، انظر إلى المرأة الصالحة، ربح البيع خلاص وانتهى، لماذا؟ لأنهم يعرفون قيمة النخلة في الجنة، ولهذا من المهم أن نعرف النخلة في الجنة ما هي وما وصفها وثمرتها، يقول صلى الله عليه وسلم عن نخل الجنة: «نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر، وكربها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء،- هذه الثمرة الواحدة مثل القلاقل وأما وصفها فيقول النبي صلى الله عليه وسلم-: أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، وليس لها عجم»([8])، أي: ليس فيها نواة، لهذا كانوا يتنافسون على مثل هذه كانوا يبيعون الدنيا من أجلها، مع محبتهم للنخلة وفيها رزقهم وفيها لكن لا يمنعون حق الله، بل يتبرعون ويعطون، ولذلك أحبتي من المهم جدًا أن النخلة فيها نوعين من الحقوق:
الحق الواجب: الذي هو الزكاة وهذا الحق في الثمر الذي يطلع منها، وهذا أحبتي مهم جدًا أغفله بعض الناس، حتى النخلة الذي عندك في البيت إذا بلغ النصاب ثمرتها فعليه الزكاة، فلابد أن تعرف فقه الزكاة في النخل إذا ما كنت تعرف فهناك مؤسسةٌ جميلةٌ رائدةٌ في معرفة الزكاة وحسابها وهي صندوق الزكاة، ارجع لهالتوصلك للمعلومة بأسهل ما يكون.
والحق الثاني حق مستحب وهو التصدق منها ففي ذلك بركة ونماء وهنا قصة لطيفة في هذا الموضوع فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ - لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ - فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ »([9]).
أخيرًا: أذكر لكم قصة وهي معجزة من المعجزات معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في النخلة : «أتى رجل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول له: نسمع أنك تقول كذا وكذا وكذا، تعال أداويك إنه يداويه يعني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعالى أُريك آية، إن رأيت الآية تكمل؟ قال: نعم، قال: انظر إلى ذلك العذق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعالى، فخر من النخلة إلى أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له: ارجع، فرجع إليه، فأسلم، الأعرابي وقال: والله لا أراجعك في شيء ولا أكذبك بعد ذلك في شيء»([10]).
ومن باب الشيء بالشيء يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وكان يستند في خطبته على جذع نخلة، ثم أتت امرأة من الأنصار قالت له يا رسول الله: عندي ولد نجار، يعني يصنع لك منبرًا وتخطب عليه، فلما خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر سمع الصحابة لجذع النخلة حنين وبكاء كبكاء الصبي حتى قال الصحابة رضوان الله عليهم: يكاد يتشقق من شدة البكاء، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي فضمه وسكنه كما يسكن الصبي، وقال: إنه كان يحن ويرق قلبه على ما يسمع من الذِكر([11]) ، وهكذا هو المؤمن، المؤمن يتذكر ويعتبر ويتفكر.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا مباركين أينما كنا، وأسأله سبحانه وتعالى أن يبارك في بلادنا وأوطاننا وفي أموالنا وأهلينا وفي نخلنا وثمراتنا ورطبنا، ونسأل الله أن يوفقنا جميعًا للخير، وصلى الله على نبينا محمّد.
([1]) ينظر: فتح القدير للشوكاني (3/79).
([2]) ينظر: تفسير ابن كثير (7/490).
([3]) رواه البخاري (131)، ومسلم (2811).
([4]) رواية عند البخاري (5444).
([5]) رواه أحمد (3938)، والترمذي (2488).
([6]) ينظر: تفسير ابن كثير (5/99).
([7]) رواه أحمد (12482).
([8]) رواه الحاكم (3776)، وهو في صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب (3735).
([9]) رواه مسلم (2984).
([10]) رواه الترمذي (٣٦٢٨)، وأحمد (1954).
([11]) الخبر عند البخاري (3583).