ما أعقلها ؟!
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد؛
في القصص تأثير كبير في دفع القلب إلى تحقيق الإيمان والأعمال الصالحة، فالقصص تزيد من نسائم الإيمان وتحقق قيم عظيمة في الإنسان، ومن تلك القصص هذه القصة التي سأذكرها لكم وما فيها من بيان رجحان عقل فتاة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وما فيها من العبر.
قال أبو برزة الأسلمي([1]) : كان الأنصار إذا كان لأحدهم أيّم -يعني بنت لم تتزوج- لم يزوجها حتى يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لرجل من الأنصار: يا فلان زوجني ابنتك، قال: نعم ونعمى عين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لست لنفسي أريدها، قال: فلمن؟، قال: لجليبيب.
من جليبيب؟ جليبيب رجلٌ قصيرٌ دميمٌ يعني ليس بجميل وغير معروف بين الناس، لا يؤبه به أتى أو لم يأت لم يكن معروفًا بمكانة عند القوم، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب أن يتزوج فقال له جليبيب: إذًا تجدني كاسدا لا أحد يقبلني من النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غير أنك عند الله لست بكاسد، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه العائلة من الأنصار وطلب ابنتهم لجليبيب، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: لجليبيب قال: وكأنه يعني انصدم أو تفاجأ- ، قال: يا رسول الله حتى أستأمر أمها-وهذا من حسن عشرته رضي الله تعالى عنه أن الأمور التي تتعلق بالزواج ولها خصوصية في النساء يشاور فيه الأم، فهذا من حسن العشرة، وينبغي أو مطلوب من الأزواج أن يكون بينهم وبين زوجاتهم مثل هذه المشاورات، والمرأة أيضا تشاور زوجها أولى وأولى، فأتى الرجل أمها-، فأتاها، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك، قالت: نعم ونعمى عين، قال: إنه ليست لنفسه يريدها، قالت: فلمن يريدها؟، قال: لجليبيب، قالت: حلقى ألجليبيب؟، قالت: لا لعمر الله، لا أزوج جليبيبًا،-يعني مستحيل ما كانت تتوقع كرهت أن يتزوج جليبيب ابنتها قالت: لا لعمري لا تزوجه، لاحظ الأم نظرت إلى جزء من القضية وهي مكانة جليبيب جمال جليبيب عدم معرفة الناس به، وأيضًا ما عنده مال، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره خبر الأم وما قالت، ولم يكونوا قد شاوروا البنت
" فلما قام أبوها ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم، قالت الفتاة من خدرها لأمها: من خطبني إليكما-وهنا أمر ينبغي إذا خطب الرجل امرأة أن لا يتخذ الأب والأم القرار سريعًا قد يكون للبنت نظرة خاصة إن كانت عاقلة وتحت تربية طيبة لا يردُّون مباشرة، هذا من جانب، وجانب ثانٍ قد يردُّ إذا كان الرجل معروف بما يشينه في دينه وخلقه.
"قالا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، -فأخبروها أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى يطلبها لجليبيب، وأنهم ردوا طلبه- قالت: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره-لاحظوا أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، وتلت عليهم: ﵟوَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡﵞ ﵝالأَحۡزَاب : ﵖﵓﵜ - ادفعوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لن يضيعني،"
لاحظ صدق الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم ومعرفتها وثقتها برأي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لما خطبها لجليبيب بأنه لا يضيعها، وهذا فيه أمر أيضًا مهم أنه إذا أتى الرجل من طرف رجل عاقل ودين وصاحب رأي غالبًا أن صاحب الرأي والعقل لن يختار إلا الرجل المناسب لهذه البنت المناسبة.
"فانطلق أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: شأنك بها، فزوجها جليبيبًا"
فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم جليبيبًا ودعا لها بدعوة جميلة-: اللهم صبَّ الخير عليها صبًّا، ولا تجعل عيشها كدًّا "
دعوة جميلة من النبي صلى الله عليه وسلم، مرت الأيام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له، غزوة فلما أفاء الله عليه انتهت الغزوة يعني جنوا الغنائم والفيء، فلما أفاء الله عليه ما أفاء- "قال: هل تفقدون من أحد؟ ، قالوا: لا،"
ابحثوا وهم يقولون نفقد فلان وفلان من الناس الذين يؤبه بهم ومعروفين لكن لاحظ نظرة النبي صلى الله عليه وسلم.
" قال: لكني أفقد جليبيبًا" تذكَّره النبي صلى الله عليه وسلم مع أن في العادة الناس لا تذكر مثل هذه الشخصيات وهنا حفظكم الله دائمًا العبرة ليست بالمناصب ، ولا بالألقاب وإنما العبرة الحقيقية بمعدن الإنسان وعمله وما ينتجه في حياته، فقيمة المرء ما يحسنه هذه قيمة المرء، فالإنسان يجعل له مكانة بقيمته أو عمله الذي يعمله، لاحظ هذا الصحابي رضي الله تعالى عنه من يتفقده محمد صلى الله عليه وسلم وهو عند الله ليس بكاسد
"فاطلبوه في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة، قد قتلهم، ثم قتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتل سبعة، ثم قتلوه ، هذا مني وأنا منه، يقولها سبعًا، فوضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه، ما له سرير إلا ساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وضعه في قبره، وما كان في الأنصار أيم أنفق منها"
فكانت تلك الفتاة التي هي زوجة جليبيب من أغنياء الأنصار، وكانت تنفق النفقات الكثيرة في سبيل الله جل في علاه.
هذه القصة قصة جليبيب وما فيها من فوائد مرت عابرة، أريد أن أرسل إليكم منها ثلاث رسائل:
الرسالة الأولى إلى الآباء والأمهات: نريد أبناء وبنات كتلك الفتاة، نريد تربية على الإيمان، تربية على الأخلاق نريد تربية على العمل الصالح على القيم على السمعة الطيبة، نريد مواقف كمواقف هذه الفتاة، مواقف كمواقف عائشة مواقف كمواقف أسماء رضي الله عن الصحابيات كلهن، الفتاة التي حازت هذه المنقبة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تربت في ذلك البيت، فالبيت أول مدرسة للبنات والأبناء وهو بستان من بذر فيه الخير وسقاه وحماه جنى ثماره بإذن الله الفتاة في المنزل لها مكانة عالية هي البنت والأخت وهي غدا الأم، هي المدرسة هي التي سيتخرج على أيديها أجيال ورجال، لهذا ولغيره اعتنى الإسلام بالبنات، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم انه من اعتنى ثلاث بنات فأحسن تربيتهن كن له حجابا من النار.
الرسالة الثانية: إلى الفتيات الفتاة التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تلك التي كانت في القصة والفتيات كثير التي قدمت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تريده وما تريده الأم، تلك التي لم تنظر إلى حظّ نفسها ومباشرة وثقت بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تنظر إلى زاوية ضيقة ما نظرت إلى الجمال والمال والشكل، وإنما نظرت إلى من أتى بهذا الرجل وهو محمد صلى الله عليه وسلم ولن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلا برجل لن يضيعها، فتركت شيئا لله فعوضها الله سبحانه وتعالى خيرًا من ذلك أضعافًا كثيرة، فأولًا نالت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصب عليها الخير صبًّا وأن يكون عيشها ليس فيه كدًّا ولا نكدًا ولا ضيقًا، وما أجملها من دعوات جمعت بين المال وراحة الفؤاد.
الأمر الثاني: من الأشياء التي عوضها الله بها أنها زوجة من؟ زوجة شهيد زوجة جليبيب الذي قتل سبعة ثم قتلوه، زوجة جليبيب الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إنه مني وأنا منه إنه مني وأنا منه"، زوجة من؟ زوجة من سيشفع لها لأن الشهيد يشفع لسبعين من أهله وهي معه يوم القيامة ولو كانت أقل منه عملًا فإن الله سبحانه وتعالى يرفعها إلى درجته، فانظر إلى ذلك التعويض ينبغي للفتيات أن لا تكون نظرتهن قاصرة، لا تكن النظرة مادية، لا تكن النظرة يترتب عليها ذهاب الدين ذهاب الأخلاق ذهاب السمعة ذهاب العادات الطيبة، لا بد أن تكون النظرة شاملة ومستقبلية واسعة، الحياة الزوجية السعيدة التي تفكر فيها كل فتاة ليست هي في المال فحسب، ليست هي في الجمال فحسب، ليست هي في السيارات الفارهة ليست هي في البيت الواسع فحسب، إنما الحياة الزوجية السعيدة الصحيحة في زوج يكرمها، زوج يحسن عشرتها زوج يرفع من قدرها ويأويها ويحميها، كم من فتاة نظرت نظرة قاصرة إلى سيارة إلى بيت إلى راتب، وهي تعيش عيشة ضنكًا نكدًا، وكم من فتاة تزوجت رجلًا فقيرًا أو ليست له مناصب أو ليست له مكانة كما يقال في هذه الدنيا لكنها تعيش حياة سعيدة، إذًا اختاري لنفسك طريقًا صحيحًا وهدفًا واضحًا وكوني ممن سجل اسمه في التاريخ والأمجاد ليس اسمك أنت فحسب، بل ما ستنتجينه من أجيال وأبناء وما ستربينه ومن تربينه من الأولاد.
الرسالة الثالثة: إلى الشباب صحيح أن جليبيبًا كان قصيرًا دميمًا غيرَ معروف في بادئ الأمر لكن أعماله أظهرت مكانته، هو وإن كان يرى نفسه كاسدًا عند الناس، والناس يعني لا ترغب فيه ولكنه عند الله غالٍ، هو وإن كان ينظر إلى نفسه أنه فقير لكنه عند الله غني، انظر إلى جليبيب في بداية أمره وانظر إلى جليبيب في نهاية أمره ، أصبح جليبيب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو منه، فكان عليًّا كان شهيدًا، وأتى من بعده تلك المرأة التي كان عندها الخير العظيم الذي أريده أن قيمة الشباب فيما يسمعونه قيمة الشباب فيما يعملونه، قيمة الشباب في العلم والعمل، قيمة الشباب في معالي الأمور قيمة الشباب فيما يحققونه من أهداف، أما الأهداف السمجة الأهداف الضعيفة الأعمال التي ليست بقيمة، الأخلاق الضعيفة ولو كان فيها شيء من الفرح والسرور فإنه فرح مؤقت يعقبه خسارة كبيرة، انظر لبعض الشباب الذي ضيع حياته في المخدرات كانت نهايته السجون وعدم القبول في المجتمع، وانتظر إلى الشاب الذي ضيع نفسه في الألعاب ولعب السيارات وضيع دراسته ورسب في المدرسة ونحو ذلك كانت نهايته نهاية ضعيفة، فأنت من تحدد حياتك وأنت من تحدد أين ستكون بفضل الله سبحانه وتعالى، فاعزم وتوكَّل واستشر وسر على الطريق واعرف عوائقه واستعن بالله وحدد هدفك بإذن الله سبحانه وتعالى ستصل خصوصًا مع وجود بيئة تعين ووالدين يحملانك على ظهورهم حتى تصل إلى الهدف، كيف ومن كان في مثل دولة الإمارات في بيئة مهيئة للعلم والمدارس والبيوت، وولاة الأمر وجميع الوسائل متاحة والطريق معبَّدٌ ما عليك إلا أن تجتهد وتسير في الطريق الصحيح، وبإذن الله سبحانه وتعالى تصل وتتفوق.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ آبائنا وأمهاتنا، وأن يبارك في بناتنا وأن يحفظ شبابنا ويرفع رايتهم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.