أني مغلوب فانتصر


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة أما بعد؛

 ففي هذه الدروس الإيمانية والقيم الأخلاقية نتذاكر قيمًا عظيمة، ونحذر من ضدِّ هذه القيم في مواقف حصلت، وقصص قد سلفت، نستفيد منها العبر والعظات، وقد تدارسنا فيما سبق وحذرنا مما حذر منه القرآن من الزنا واللواط وشرب الخمر، واليوم أنا معكم في قصة فيها عبرة عظيمة جدًا، وهي قصة نوح عليه السلام.

 باختصار كان الناس من آدم إلى نوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم دخل الشرك على قوم نوح بأن كان فيهم رجال صالحون، يذكّرون الناس ويعلمونهم ويتعبدون الله سبحانه وتعالى، فلما ماتوا وجد الشيطان منفذًا لبغية يريدها وذنب خطير يحرص على إيقاع الناس فيه، فوسوس إليهم واستجرهم بخطواته، فقال لهم انصبوا تماثيل وصور لهؤلاء الصالحين حتى إنكم إذا رأيتموهم نشطتم إلى العبادة، ففعلوا ووضعوا لهم صورًا وتماثيلَ وكانوا يعبدون الله لا يعبدون تلك التماثيل والأصنام، حتى إذا ذهب جيل وطال عليهم الأمد وأتى جيل آخر وآخر، أوحى الشيطان إلى هؤلاء أنَّ آباءكم كانوا يتقربون إلى الله بهذه الأصنام، فهؤلاء الصالحون وسائط بينكم وبين الله، وأعان على ذلك ذهاب العلم وفشو الجهل، فاستجاب الناس إلى الشيطان وأصبحت تلك الأصنام التي هي في الأصل عبارة عن رجال صالحين ليست المقصود فقط الحجارة لكن المقصود ما تمثله هذه الحجارة من هؤلاء الصالحين، وجعلوا تلك الحجارة والأصنام وسائط بينهم وبين الله يتقربون بزعمهم إلى الله عن طريقها فيدعونها دون الله سبحانه وتعالى.

 فقام نوح عليه السلام فيهم فأنذرهم وحذّرهم من عذاب أليم، وأمرهم بعبادة الله وحده وطاعته وتقواه يدعوهم ليلًا ونهارًا سرًّا وجهارًا مرغبًا ومرهبًا، قال الله سبحانه وتعالى: ﵟقَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا ٥ فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا ٦ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارٗا ٧ ثُمَّ إِنِّي دَعَوۡتُهُمۡ جِهَارٗا ٨ ثُمَّ إِنِّيٓ أَعۡلَنتُ لَهُمۡ وَأَسۡرَرۡتُ لَهُمۡ إِسۡرَارٗا ٩ فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا ١٠ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا ١١ وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا ١٢ﵞ ﵝنُوح : ﵐﵑ - ﵒﵑﵜ هذا كله ترغيب ثمَّ أتى إلى جانب الترهيب ﵟمَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارٗا ١٣ وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ أَطۡوَارًا ١٤ﵞ ﵝنُوح : ﵓﵑ - ﵔﵑﵜ ، ثم انتقل إلى تقرير توحيد الربوبية الذي هو ثابت في قلوبهم ﵟأَلَمۡ تَرَوۡاْ كَيۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا ١٥ وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا ١٦ وَٱللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتٗا ١٧ ثُمَّ يُعِيدُكُمۡ فِيهَا وَيُخۡرِجُكُمۡ إِخۡرَاجٗا ١٨ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ بِسَاطٗا ١٩ لِّتَسۡلُكُواْ مِنۡهَا سُبُلٗا فِجَاجٗا ٢٠ﵞ ﵝنُوح : ﵕﵑ - ﵐﵒﵜ يذكّرهم بنعم الله سبحانه وتعالى لكنهم عصوا وتكبروا واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر الله ﵟوَمَكَرُواْ مَكۡرٗا كُبَّارٗا ٢٢ﵞ ﵝنُوح : ﵒﵒﵜ عظيمًا وتواصوا فيما بينهم ﵟوَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّٗا وَلَا سُوَاعٗا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسۡرٗا ٢٣ﵞ ﵝنُوح : ﵓﵒﵜ يتواصى بعضهم ببعض ألا تتركوا آلهتكم وتمسكوا بها فضلُّوا في أنفسهم وأضلوا خلقًا كثيرًا حتى أن الشرك ساد وفشا وأصبح هو التوحيد، ومن يحذر من الشرك كأنه يحذر من التوحيد، ومن يأمر بالتوحيد كأنه يزدري الصالحين حتى وصل هذا الشرك إلى العرب والعجم حتى خاف منه الخليل عليه السلام إمام الموحدين قال: ﵟوَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ ٣٥ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِﵞ ﵝإِبۡرَاهِيم : ﵕﵓ - ﵖﵓﵜ.

 فلما لم ينجع ولم تنفع فيهم الدعوة وقد أخبره الله أن لا تحزن على عدم إيمانهم فلن يؤمن منهم إلا قليل دعا عليهم نوح: ﵟأَنِّي مَغۡلُوبٞ فَٱنتَصِرۡ ١٠ﵞ ﵝالقَمَر : ﵐﵑﵜ وأوحى الله سبحانه وتعالى إليه بصناعة السفينة، سفينة تصنع في وسط الصحراء لا ماء ! فأصبحوا يمرون عليه يستهزئون: ﵟوَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُﵞ ﵝهُود : ﵘﵓﵜ تكذيبًا به وسخربة يقول لهم نوح عليه السلام: ﵟ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ ٣٨ﵞ ﵝهُود : ﵘﵓﵜ العاقبة والنهاية للمتقين، فالسخرية الأولى دائمًا لأهل الجهل المغرورين والعاقبة لأهل التقوى وأهل الصدق، فأمر الله سبحانه وتعالى نبَّيه أن يحمل من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ممن لم يؤمن بنوح عليه السلام، وكان من هؤلاء أقرب الناس إليه ابنه وزوجته التي هي أم ابنه، وعدد من آمن كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "ثمانون نفسًا"([1]) ، فانفتحت السماء بماء منهمر وتفجرت عيون الأرض فأصبح الماء يأتيهم من فوقهم وفار التنور من تحت الأرض وارتفعت السفينة، وقال الله سبحانه وتعالى: ﵟ۞ وَقَال ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡر۪ىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ ٤١ﵞ ﵝهُود : ﵑﵔﵜ  لاحظ في هذه الصعاب وهذه المحنة يذكرهم برحمة الله ومغفرته، فجرت السفينة في أمواج ليست كالأمواج العادية بل كالجبال تغطي هذه الأمواج الجبال الشامخة، ونادى نوح ابنه يا بني اركب معنا فأبى فكان من الهالكين المغرقين، ثم أمر الله سبحانه وتعالى بالسماء أن تقبض ماءها والأرض تغيظه ، واستوت السفينة على الجودي ونزلوا بسلام آمنين.

 هذه القصة بصورة مختصرة والفوائد فيها كثيرة لكن أم الفوائد والأسس والعبرة العظيمة والتأملات المهمة:

 الأولى: كيف دخل الشرك على الأمة؟ هذا أمر مهم جدًا أن يعرف، كيف جلس من على الأرض من آدم إلى نوح عشرة قرون على الإسلام وكيف دخل هذا الشرك الذي صعب قلعه بعد ذلك؟ لاحظ

 أولًا: الجهل.

 ثانيًا: الغلو في الصالحين.

 ثالثًا: التماثيل.

 رابعًا: وسوسة الشياطين من شياطين الإنس والجن، فهذه الأسباب جعلت هذا الشرك يدخل في هذه الأمة من زمن نوح وهو إلى قيام الساعة موجود.

 الثانية: لاحظوا قوة تعلق شبهة التوسل بالصالحين، وجعلهم وسائط فمع كل الطرق والأساليب التي اتبعها نوح عليه السلام، السر والعلن الترهيب والترغيب، تقرير توحيد الربوبية ليلًا نهارًا مدة ليست سهلة ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهو يدعوهم إلى هذا التوحيد ويحذرهم من هذا الشرك ﵟوَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ ٤٠ﵞ ﵝهُود : ﵐﵔﵜ لهذا أتى خوف إبراهيم عليه السلام وهو إمام الموحدين، على نفيه وذريته من هذا الشرك؛ لأنه أشبه بالشبكة دقيقٌ خفيٌّ من دخله تعثر فيه وكلما أراد الخروج ازداد تعقُّدًا، ولا يخرج منه إلا منّ الله سبحانه وتعالى عليه بذلك، ومن هنا كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر سنة، يدعو إلى التوحيد جملة وتفصيلًا تقريرًا وتحذيرًا من ضده بجميع الوسائل والأسباب والطرق، فآمن الصحابة ومن أراد الله إيمانه وبقي قوم ما خرجت هذه الشبهة من قلبه بسبب قوتها وارتباطها بالأسلاف والآباء والأجداد لذلك عمه معه قرابة الأربعين سنة يدعو صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم هي الدين الحق ومع هذا عند موته النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: «قل لا اله إلا الله» وهم يقولون: أترغب عن ملة عبد المطلب؟([2])  فمات على ملة عبد المطلب.

 ولا يزال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة يدعو إلى التوحيد إلى مماته وهو يحذر من ضده فيقول: «لا تجعلوا قبري وثنًا يعبد اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ([3])، ففي بداية دعوته يقول :"قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"([4])، وعند موته يحذر من ضده للخطر المترتب على الغلو في الصالحين، وكان يحذر من الغلو فيه وهو سيد ولد آدم فيقول: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» ([5])  ، ومع هذا لابد أن نعلم الشرك وصل إلى العرب، ودخل عليهم يغوث ويعوق ونسر وسواع وودٌّ، عن طريق عمرو بن لحي الخزاعي الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: « أول من غير دين إبراهيم» ([6]) ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة بكسر الأصنام فأرسل الصحابة وأمرهم أن  لا يجدون صنمًا من شجر أو حجر إلا كسروه.

 ثالثًا من الفوائد: خطر الشرك على الأمة، لاحظوا القصة الشرك كان سببًا لضياع أمة كاملة وهلاكها، وما نجى إلا أهل التوحيد، وهؤلاء الذين هلكوا من أهل النار؛ لأن من أشرك بالله حرمت عليه الجنة، وكان مأواه النار، فهذا الشرك لا يغفره الله سبحانه وتعالى؛ الشرك الأكبر لا يغفره الله سبحانه وتعالى، وهو مستوجب للخذلان والحرمان والهوان وذهاب الأمن عن الأوطان، بعكس التوحيد أمن وسلام وقوة وعزة ونصرة وترابط، ففيه سعادة الإنسان وسلامة الأوطان، والنبي صلى الله عليه وسلم خاف على أمته الشرك الأصغر أكثر من خوفه عليهم من الدجال فقد ظهر عليهم وهم يتذاكرون الدجال يقول لهم: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من الدجال"؟ فقال: "الشرك الأصغر الرياء"([7]) ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خاف على أمته الشرك الأصغر فكيف بالأكبر؟

 رابعًا: أن النجاة في اتباع الرسل فطريق النجاة طريقة اتباع الرسل، ونجاة هذه الأمة في متابعة رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد أحسن الإمام مالك رحمه الله تعالى حين شبه السنة بسفينة نوح فقال: "السنة سفينة نوح من ركبها نجى، ومن تخلف عنها غرق"([8])  .

خامسًا: تأملوا الجبال الشامخات كيف غمرها الماء حتى لم يبق على وجه الأرض كافر إلا إلا هلك وما نجى إلا أهل الإيمان القليل، وأعد النظر في تلك السفينة التي من صنع إنسان خشب ومسمار طفت مع غرق تلك الأمة ووصول الماء إلى الجبال، وهذا يعطينا أمرًا مهمًا وهو أن من كان مع الله ولله، وتواضع لله واتقاه علت مكانته ونجا ويسر الله له أمره، وجعل له من كل ضيق مخرجًا، وجعل الأسباب المنجيات في غاية القوة وتحقيق المقصود، وإن كان السبب قليلًا أو صغيرًا لكن مع التوحيد ومع الارتباط مع الله يكون هذا السبب بفضل الله سبحانه وتعالى نافعًا قويًّا مؤتيا موصلًا ومحققًا للمقصود.

 سادسًا: أن الداعية إلى الخير لا يستوحش من قلة السالكين والمجيبين، ولا يلتفت إلى كثرة المعاندين والمخالفين، ولا ييأس فنوح دعا تسعمائة سنة وخمسين عامًا زمنًا طويلًا ولم يستجب له إلا قليل، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه يأتي النبي وليس معه أحد ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان"([9]) ، فالداعية عليه أن يؤدي أمر الله، ويبث الخير بين عباد الله بالكتاب والسنة والحكمة واللين والرفق والعلم وينشر الخير، فالهداية بيد الله سبحانه وتعالى لا يملك هداية الخلق التي هي هداية التوفيق وإنما عليه هداية الدلالة والإرشاد.

 سابعًا: أن الدعاء سهم لا يخطئ إذا استخدمه المؤمن ودعا الله وكان مرتبطًا به وتعرف عليه في الرخاء، فإن الله سبحانه وتعالى ينجيه في الشدة، ويكون الدعاء سلاحًا بين يديه قويًّا كيف لا والله سبحانه وتعالى قريب مجيب الدعاء، وهو يستجيب دعوة الداعي، فعلى المسلم دائمًا أن يكون مع الله متعلقًا بالله منكسرًا بين يدي الله راجيًا داعيًا الله سبحانه وتعالى.

 هذا ما تيسر في هذه القصة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يحسن عاقبتنا، وأن يحفظ بلادنا وأن يوفق ولاة أمرنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 


 

([1]) تفسير ابن كثير (4/281).

([2]) رواه البخاري (1360)، ومسلم (24).

([3]) رواه الطبراني (475).

([5]) رواه البخاري (3445).

([6]) رواه ابن حبان (7490)، وقال الألباني في الصحيحة (1677): حسن صحيح.

([7]) رواه أحمد (23686).

([8]) ذم الكلام للهروي (5/81).

([9]) رواه البخاري (5752)، ومسلم (220).