ذهبت دنياهم لما أذهبوا دينهم


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه أما بعد؛

 ففي هذه النسمة الإيمانية أذكر لكم قصة وردت في القرآن مفصلة ومختصرة فيها عبرة عظيمة وفيها فائدة جليلة، وهي قصة صالح عليه السلام، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الشمس: ﵟكَذَّبَتۡ ثَمُودُ بِطَغۡوَىٰهَآ ١١ إِذِ ٱنۢبَعَثَ أَشۡقَىٰهَا ١٢ فَقَالَ لَهُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقۡيَٰهَا ١٣ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمۡدَمَ عَلَيۡهِمۡ رَبُّهُم بِذَنۢبِهِمۡ فَسَوَّىٰهَا ١٤ وَلَا يَخَافُ عُقۡبَٰهَا ١٥ﵞ ﵝالشَّمۡس : ﵑﵑ - ﵕﵑﵜ كان قوم ثمود في نعمة عظيمة وخير جليل من أمور دنياهم ﵟفِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ ١٤٧ وَزُرُوعٖ وَنَخۡلٖ طَلۡعُهَا هَضِيمٞ ١٤٨ وَتَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا فَٰرِهِينَ ١٤٩ﵞ ﵝالشُّعَرَاء : ﵗﵔﵑ - ﵙﵔﵑﵜ، فكان عندهم من الخير الدنيوي الشيء العظيم لكنهم بطروا نعمة الله جل في علاه، وعبدوا غير سبحانه وتعالى، نسوا المنعم نسوا ربهم الذي خلقهم ومنّ عليهم بهذه المنن والنعم، وعبدوا الأوثان والأصنام، فدعاهم صالح إلى توحيد الله وإلى عبادته ﵟقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥﵞ ﵝالأَعۡرَاف : ﵓﵗﵜ أي معبود بحق غير الله سبحانه وتعالى، فلما دعاهم إلى توحيد الله وإلى عبادة الله قامت العداوة بينه وبين قومه مع أنهم يعرفون نسبه وحسبه وكمال عقله؛ لذلك قالوا: ﵟقَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّٗا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ ٦٢ﵞ ﵝهُود : ﵒﵖﵜ الذي صدهم عن عبادة الله شبهة الأسلاف والآباء ما كانوا يعبدون من الأصنام، واتهموه بأنه من المسحرين أي أثر عليه السحر فأصبح يقول ما لا يعرف، وطلبوا منه آية وهي ناقة تخرج من صخرة، فدعا الله سبحانه وتعالى فأخرجها فكانت آية عظيمة، وجعل الله سبحانه وتعالى لها يومًا ترد على الماء فتشرب وإذا شربت لم يشربوا، وإنما يشربون من لبنها وكانت من بركتها تسقي القبيلة كاملة، فيوم هي تشرب ويوم هم يشربون ويريدون الماء، فلاحظ أنهم سيشربون يومًا لبنًا واليوم الثاني ماءً لكنهم ما رضوا بهذه القسمة، ورأوها قسمة جائرة بعقولهم الساذجة، وأصبحوا يدبرون ويفكرون في أمر مرير وعظيم بعد أن طلبوا هذه الآية تآمروا على قتل هذه الناقة فقام تسعة رهط ﵟوَكَانَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ تِسۡعَةُ رَهۡطٖ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ ٤٨ﵞ ﵝالنَّمۡل : ﵘﵔﵜ فتشاوروا فقام منهم أشقاهم ﵟإِذِ ٱنۢبَعَثَ أَشۡقَىٰهَا ١٢ﵞ فقام أشقاهم فعقر الناقة وعصوا أمر ربهم وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكتفوا بهذا الحد وإنما زادوا في الإجرام فأرادوا قتل صالح ﵟتَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥﵞ ﵝالنَّمۡل : ﵙﵔﵜ ثم لما يطالبون أولياءه بدمه يقولون ﵟمَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ٤٩ﵞ وكان هذا مكر منهم كما قال سبحانه وتعالى: ﵟوَمَكَرُواْ مَكۡرٗا وَمَكَرۡنَا مَكۡرٗا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٥٠ﵞ ﵝالنَّمۡل : ﵐﵕﵜ فهذا المكر عاد عليهم وهذه العاقبة رجعت إليهم فقال الله سبحانه وتعالى: ﵟفَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ مَكۡرِهِمۡ أَنَّا دَمَّرۡنَٰهُمۡ وَقَوۡمَهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٥١ فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥٢ﵞ ﵝالنَّمۡل : ﵑﵕ - ﵒﵕﵜ، هذه القصة وهذه الآية يجب على المسلم أن يتأمل فيها عدة تأملات وعدة فوائد:

 الأولى: حرص نبي الله على دعوة الناس إلى توحيد الله، وهذه هي دعوة الأنبياء والرسل أنهم يدعون أقوامهم إلى توحيد الله، وهذا التوحيد هو أهم واجب وأعظمه، وهو الذي من أجله أرسلت الرسل ونزلت الكتب وتفرق الناس وخلقت الجنة والنار من أجل تحقيق توحيد الله سبحانه وتعالى.

 ثانيا من الفوائد: ثبات النعم الدنيوية بتحقيق الأصول الدينية، حقيقة الله سبحانه وتعالى ما خلقنا في هذه الدنيا لنرتع ونلعب ونلهو، وإنما الله سبحانه وتعالى لعبادته ﵟوَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ﵞ ﵝالذَّارِيَات : ﵖﵕﵜ فتحقيق عبادة الله سبحانه وتعالى هي التي تبقي لنا أمر الدنيا؛ لذلك لما أشركوا بالله وما أرادوا توحيده ولا الرجوع إلى عبادة دمرهم الله سبحانه وتعالى بهذا الذنب.

 ثالثا: أن في مخالفة الرسل الخسارة والهلاك، فصالح عليه السلام أرسل لقومه وطلبوا منه آية وهم يعرفونه صدقه ويعرفون حسبه ونسبه ورأوا الآية بأعينهم، ثم بعد ذلك كذبوا فكانت عاقبتهم أن دمرهم الله سبحانه وتعالى، وهنا أمر جدًا مهم أنه من خالف الرسول لابد له من الانحراف والهلاك في هذه الدنيا، وكما أن مخالفة الرسل فيما قبل أدت بالأمم إلى ما وصلوا إليه من الهلاك، فكذلك مخالفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى الخسارة والهلاك، ويكفينا في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» ([1])  وقال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أُمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ أبَى»، قيلَ: وَمَنْ يَأبَى يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى»([2]) .

خامسا: خطر التقليد، الإنسان لابد ألا يكون إمعة، الإنسان لابد يُعمل عقله ويتدبر القرآن والسنة ويتدبر الأدلة، لا يكن إمعة يتبع كل ناعق لا يتبع الأسلاف على ما كانوا فيه من أخطاء، وإنما يعرف الصواب فيتبعه ويعرف الشر فيجتنبه.

 سادسًا: ولو كان المتآمرون على الشر قليل وبقية الناس يرضون بهذا الشر فالعقاب يعم الكل، فهناك تسعة رهط تآمروا وتشاوروا وقتل الناقة واحد منهم، ثم أرادوا قتل صالح والبقية راضون بذلك بل مساهمون متعاونون مع قومهم في ذلك، فدمرهم الله سبحانه وتعالى جميعًا، كذلك الذنوب والمعاصي لابد على الإنسان أن لا يرضاها، وجاء فالذنب يفعله يفعل من في آخر الأرض فينكره من كان قريبًا منه، فلا يأثم، ويرضى به من كان في آخر هذه الأرض فيأثم بسبب الرضا بهذا الذنب، فالذنب لابد أن لا يرضاه الإنسان ولا يفرح به بل ينكره بقلبه أو بلسانه أو بفعله على حسب الضوابط الشرعية.

 السابعًا: خطر الذنوب على الأفراد والشعوب، الذنب له خطورة عظيمة على الإنسان، فالذنوب سبب لقلة البركة، الذنوب سبب لوحشة في القلب، الذنوب سبب لضيق الصدر، الذنوب سبب لعمى البصيرة، الذنوب لنفرة الخلق، الذنوب سبب لقلة الفهم، الذنوب سبب لقلة الحفظ، الذنوب السبب لبعد الإنسان عن طريق الحق، الذنوب سبب لفساد كبير وعريض إذا كان الإنسان متساهلًا فيها، وجاء عن ابن عباس أن الحبارى لتموت في جحرها بسبب ذنب يفعله بني آدم، فهذه الذنوب تؤثر على الأوطان، وتؤثر على الأفراد وتؤثر على الشعوب سواء كانت شركًا أو كبيرة من كبائر الذنوب كالزنا والربا والسرقة والرشوة وغير ذلك، كل ذنب له تأثير، وإذا عم الذنب عم البلاء.

 نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا بحفظه، وأن يطهر قلوبنا ويصلح سرائرنا، ويغفر لنا لكم ولأمهاتنا وآبائنا، وأن يحفظنا بحفظه ويحفظ بلادنا، ويوفق ولاة أمرنا لكل خير، وصلى الله على نبينا محمد.


 

([1]) رواه أحمد (5667).

([2]) رواه البخاري (7280).