أدبيات التعامل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد؛
نلتقي في هذه الليلة في هذا اللقاء المعنون بـ"أدبيات التعامل"، وعندما نتكلم عن الأدبيات فإن الأدبيات قد تطلق على ما يتعلق بباب الأدب والشعر والنظم ونحو ذلك، وقد يعنى بها أمر السلوك وهو المقصود هنا، القواعد أو الضوابط أو الوصايا السلوكية في الأمر المتحدث عنه، والأمر الذي أتكلم فيه بإذن الله جل وعلا في هذا اللقاء هو فيما يتعلق بالسلوكيات في أمر التعامل مع الآخر.
عندما نتكلم عن قضية التعامل تعامل الإنسان مع غيره فلابد أن نعلم أن الناس تختلف طبائعهم، وهذا الاختلاف هو أثر من اختلاف البيئة واختلاف العادات واختلاف التنشئة فكل هذه مؤثرات، ثم ما يتعلق بتربية الوالدين وهو السلوك الأول الذي يكون في المنزل، وعلى هذا فقد دلت النصوص الشرعية على أن الناس يختلفون في أخلاقياتهم وفي سلوكياتهم وفي تعاملهم، جاء في حديث أبي هريرة في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «النَّاسُ مَعَادِنٌ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، خِيَارُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقهُوا، وَالأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، ومَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»([1]) ، وجاء في الحديث الآخر قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب» ([2]) ، إذًا وجود الفوارق بين الناس أمر معلوم؛ إذ لا يمكن أن يكون الناس على حال واحدة في التعامل وفي الأخلاقيات وفي السلوك وفي تبادل الصلات الاجتماعية، ولذلك كان من عناية الله سبحانه وتعالى وتأييده لأنبيائه ورسله أنه يرسل الرسول بلسان قومه، ويؤيده بالمعجزات الأمور الخارقة للعادة، ومن ذلك أيضا ما يتعلق بفعل النبي في أمر دعوته في الترغيب وفي الترهيب وفي الموعظة وما يتعلق بذلك، هذا كله يتوجه إلى قضية اختلاف مستويات الناس ومحاولة تنويع الخطاب حتى يستوعب جميعا أصناف المجتمع، فإن الدعوة إلى الله جل وعلا مثلا أو الإحسان إلى الخلق لا يتعلق بفئة دون أخرى، لا يتعلق بفئة المثقفين أو يتعلق بفئة العوام أو يتعلق بفئة الرجال أو فئة النساء، جاء الإسلام هداية للناس كافة والعناية بالصغير والكبير والعناية بالذكر والأنثى والعناية بالشاب وبكبير السن والعناية بالعالم وبالجاهل، ومن هنا كانت معرفة أدبيات التعامل مع الشخص الذي تتعامل معه من الأهمية بمكان.
إذاً مما يدل على أهمية هذا الأمر أن أساليب التعامل تكون مع مختلف الطبائع، ولذلك لو نظرنا إلى الشريعة نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام تفاوت تعامله بحسب المتعامل معه، دخل أعرابي إلى المسجد وبال في المسجد، ولك أن تتصور هذه المسألة، فذهب الناس ليقعوا به يضربوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء، أو سجلا من ماء»([3]) ، حينما نتأمل في هذه الحادثة ونتأمل في تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع الأعرابي الذي ليس عنده من العلم ولا من المعرفة ما تقتضي أن يمتنع من هذا الفعل في المسجد، ثم نتأمل في قوله عليه الصلاة والسلام: « دعوه»، وفي رواية: «لا تزرموه، وَأَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» ، ثم قال صلى الله عليه وسلم تتمة للحديث: «فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»، تأمل إذًا نستفيد من هذا الحديث حكمة النبي عليه الصلاة والسلام في التعامل مع الأعرابي ومن في حكمه، ثم نستفيد كذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام تعامل بالرفق واللين مع عظم الفعل الذي فعله الأعرابي في المسجد، نستفيد كذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام حرص على تأليف قلب الرجل وأمر بذلك وقال: «فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»، فكان المقصود تأليف قلب هذا الرجل، ثم درس لنا في قضية فقه إنكار المنكر فإن النبي عليه الصلاة والسلام لو تركهم يقعوا فيه لربما ابتعد عنهم وتنجس بقية المسجد ربما كان ضررا له إذا قطع بوله إلى غير ذلك من المفاسد، وإنما النبي عليه الصلاة والسلام قال: «دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء، أو سجلا من ماء»، إذًا لو تأملنا هذا التعامل مع هذا الأعرابي، ثم تأملنا في تعامله صلى الله عليه وسلم مع معاذ الذي كان يصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم فيطيل الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى أولئك قال صلى الله عليه وسلم: « أفتان أنت يا معاذ »([4]) ، إذًا هذا يدل على أن مع أن الذي فعله معاذ هو إطالة الصلاة أمر تعبدي والذي فعله الأعرابي هو أمر منكر، فانظر إلى ردة الفعل في الأمر المنكر وانظر إلى توجيهه صلى الله عليه وسلم في أمر تعبد لكن لم يكن صوابا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: « أفتان أنت يا معاذ »، ومعاذ رضي الله عنه وأرضاه إنما فعل ذلك من حبه للعبادة ومن حرصه عليها.
إذًا مما يدل على أهمية معرفة أدبيات التعامل هي السلوكيات التي نتعامل فيها مع غيرنا أن نعرف أن الصبر يقتضي الحرص عليه في اختلاف طبائع الناس، الصبر أمره عظيم في التعامل مع مختلف الناس، والصبر هو العبادة التي تدخل في جميع العبادات تدخل في بر الوالدين وفي صلة الرحم وفي الإحسان للجار وفي الإحسان للصديق وفي الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام وفي الحج وفي البيوع وفي الصلات الواجبة وفي الصلات المستحبة إلى غير ذلك، الصبر لا بد منه في كل شيء ولا تستغني عنه في جميع الطاعات والصبر عن جميع المعاصي والصبر على جميع الأقدار المؤلمة، إذًا أنت محتاج للصبر لذلك لو تأملنا في تعامل النبي عليه الصلاة والسلام ثم في صبره على التعامل الذي قد يساء فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، جاء في حديث أنس قال: «كُنْتُ أمشي مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ،- قوي- فأدْرَكَهُ أعْرَابِيٌّ -جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام- فَجَبذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدةً، فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: -قال الأعرابي وهو ينادي النبي عليه الصلاة والسلام- يَا مُحَمَّدُ، مُر لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ- هذا الأعرابي يتحدث مع النبي صلى الله عليه وسلم ويناديه باسمه، والله جل وعلا يقول: ﵟلَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاﵞ ﵝالنُّور : ﵓﵖﵜ لا يدعى باسمه يدعى يا رسول الله يا نبي الله، إذًا جبذ النبي عليه الصلاة والسلام هذه الجبدة الشديدة حتى أثرت على صفحة عنقه، وطلب منه المال وناداه بمجرد اسمه- فَالتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ» ([5]) ، أعطوه هذا الموقف العجيب منه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع هذا الأعرابي وفي قوله: مُر لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، إذا لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم قابل هذا الفعل بالصبر وبالضحك بالابتسامة وبالعطاء، يقول قائل كما يقول كثير من الناس إذا قيل لهم النبي صلى الله عليه وسلم كان يعفو والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن، النبي صلى الله عليه وسلم كان ... يقول يا أخي هذا رسول الله لست أنا وكأنه يدفع عن نفسه أمر الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم نعم هذا رسول الله لكن أنت مأمور بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم: ﵟلَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞﵞ ﵝالأَحۡزَاب : ﵑﵒﵜ الواجب عليك أن تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم بمن تريد أن تقتدي هل تقتدي برغباتك بردات أفعالك بما تجده في نفسك لا، تقتدي به صلى الله عليه وسلم وتعمل بهديه وتقتفي أثره وتصبر كصبره وتعفو كعفوه وتحسن كإحسانه صلى الله عليه وسلم، إذًا لو قال قائل: ما هي الدوافع التي تدعو الإنسان إلى الأدبيات في التعامل ما الذي يدفعك إلى ذلك ما الذي يعينك بإذن الله عز وجل على أن تتعامل تعاملا حسنا؟
أول هذه الأمور: أن يكون هذا التعامل لوجه الله سبحانه وتعالى، وإذا جعل الإنسان أخذه وعطاء وإحسانه وابتسامته وغضبه وفرحه وصلته وقطعه لله جل وعلا فقد أحسن غاية الإحسان، إذا لم تعط لنفسك ولم تمنع لنفسك وإنما أحسنت ابتغاء وجه الله جل وعلا ومنعت ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، أحببت وأبغضت وواليت وعاديت ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، هذه أوثق عرى الإيمان أن تعطي لله وتمنع لله، وتحب لله وتبغض لله أوثق عرى الإيمان، ولذلك يا إخوة جميع الصلات الآنية المصلحية تتقطع بانتهاء المصلحة وتبقى الصلات التي مبناها على إرادة وجه الله سبحانه وتعالى تبقى هي أقوى الصلات وأكثر الصلات استمرارا حتى لو بقيت على حالها في إرادة وجه الله سبحانه وتعالى فإنه يفرق بينهما أي بين الاثنين الموت فقط، إذا بقيت هذه الصلة صلة المحبة في الله صلة الإعطاء لله صلة المنع لله لا تنتهي هذه الصلة إلا بالموت إلا أن تتغير النية تكون لله سبحانه وتعالى ثم تكون لأمر الدنيا فهنا قد انتقض هذا الأمر، إذًا مما يعين الإنسان على إصلاح نيته في حسن التعامل مع الآخرين أن ينوي في هذا التعامل ابتغاء وجه الله، أنت تحسن إلى فلان ليس لجاهه ولا لسلطانه ولا لماله ولا لمجرد قرابته بل تحسن له ابتغاء وجه الله جل وعلا كان قريبا أم بعيدا حبيبا أم غريبا من أبناء جنسك أو ليس من أبناء جنسك من أبناء لهجتك أو ليس من أبناء لهجتك، حسن التعامل الذي قمت به هو ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى اقتضاه منك الدليل الشرعي في أن الناس سواسية، لا تفرق بين قريب وبعيد جمعك أنت وإياه هذه الأخوة العظيمة إخوة الإيمان، إذًا لا بد أن تقوم بحقها، ولذلك الله جل وعلا أمرك بهذا قال: ﵟوَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗاﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵓﵘﵜ هل هذا الأمر من الله جل وعلا وهو الذي وحد في المقاصد والمطلوبات هل كان هذا الأمر: ﵟوَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗاﵞ لتأخذوا أموالهم وقولوا للناس حسنا لتستفيدوا من متاعهم وقولوا للناس حسنا لتشتركوا معهم في أموالهم لا، وقولوا للناس حسنا ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، ولذلك والصلة وثيقة في قضية التعامل مع الآخرين بباب الدعوة إلى الله، قال جل وعلا: ﵟ ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ ﵞ وهذا فيه الإخلاص أنك تريد وجه الله جل وعلا في هذا الأمر ﵟ ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ ﵞ ﵝالنَّحۡل : ﵕﵒﵑﵜ .
الأمر الثاني الذي يقوي هذا الجانب في نفس الإنسان أي حسن التعامل مع الآخرين وأدبيات التعامل مع غيرك: أنك حينما تعاملت معهم علمت أن الخير في هذا التعامل أي حسن التعامل معهم وأنك بذلك مستحق للأجر من الله جل وعلا، ولذلك جاء الإسلام بتعظيم قضية الأخلاق، والأخلاق يا إخوة هل هي مجرد كلمة نرددها بألسنتنا أو نتزين بها أم هي لفظ سليم ونية صالحة وتعامل راق تعامل جميل كلمة نافعة أثر الأخلاق يظهر في سلوكك، يظهر في وعدك يظهر في حسن تعاملك يظهر في كريم خلقك، يظهر في فزعتك ونجدتك يظهر في تقديم المعونة لغيرك، إذًا حسن الخلق أمر عظيم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أحسنهم خلقا» ([6]، وهذه خيرية دينية تبين منزلة التفاضل بين المؤمنين مما يتفاضل به أمر الأخلاق، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار» ([7]) ، ولذلك قال من قال من السلف: حسن الخلق يستر كل عيب وسوء الخلق يفضح كل عيب، انظر إلى هذه المنزلة العظيمة تبلغ منزلة صائم النهار وقائم الليل بحسن خلقك، فقد لا تكون من أهل قيام الليل ولا من أهل صيام النهار وعندك ما عندك من التهاون في هذا الأمر لكن عندك من كريم الأخلاق ومن حسن الخلق تدرك هؤلاء، وتصل إلى مصافهم وتلتحق بركبهم لأن عندك شيء أثقل ما يكون في الميزان هو، وهو حسن الخلق أثقل ما يكون في الميزان حسن الخلق.
أيضا مما يعينك على قضية التعامل وأدبيات التعامل: أن تعلم أن القيام بأدبيات التعامل هو استقرار لأمر التعايش بين الناس؛ إذ لا يمكن أن يتعايش الناس وهم في جفاء، ولا يمكن أن يتعايش الناس وهم في تباغض وهم في كره ولا أن يتعايش الناس وهم يقومون على مذهب نفعي ينظر أحدهم في مصلحته ولا ينظر في مصلحة غيره، ينظر في توفر طعامه ويبيت من بجانبه جائعا، ينظر في أمر متاعه ولا ينظر في حاجة أخيه لا يمكن للحياة أن تقوم على ذلك، ولذلك من محاسن هذا الدين العظيم الذي نحمد الله جل وعلا عليه من محاسنه مراعاة الآخرين، التفقد لأحوال المحتاجين الإنفاق على الفقراء والمساكين، النظر في إغاثة الملهوفين والنظر في حاجة المحتاجين، والإعانة لمن ألمّ به ضر أو جاءته فاقة أو حصلت له نكبة، هذه من محاسن هذا الدين، ولذلك كانت مما بني عليه الإسلام قضية الزكاة، الزكاة تعطى لغيرك لأصناف منهم الفقراء والمساكين، جاء الحث على قضية الصدقة جاء الحث على قضية الإكرام جاء الحث في الشريعة على قضية الإيثار، ولا يمكن لمؤمن أن يبات شبعان وجاره جائع، فهذا خلل فيك ونقص فيك، وضعف إيمان تلبست به، لا يمكن أبدا في أهل الإيمان أن الإنسان يكون على شبع ومن بجانبه على جوع وفاقة، إذًا مما تستقر به معايش الناس الحرص على قضية حسن التعامل وأدبيات التعامل مع الغير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ يَألَفُ وَيُؤْلَفُ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَألَفُ وَلَا يُؤْلَفُ» ([8]) .
من الأمور أيضا معاشر الأحبة: اطمئنان القلب وراحة النفس، الإنسان إذا عامل غيره بالتعامل الحسن فإن هذا راحة لنفسه وطمأنينة لقلبه، ولذلك من أسعد الناس قلبا ومن أكثرهم انشراحا ومن أهدئهم نفسا ومن أكثرهم طمأنينة الذي يقوم على مصالح الآخرين، ويعين الآخرين في أمور حياتهم، تجد عنده من الأجور التي قدرها الله جل وعلا له، ويعلمها هو سبحانه لكن نثق نحن بموعود الله أن الله لا يحرم من كان هذا حاله من العون، ثم تجد أن أموره ميسرة لعموم قاعدة الجزاء من جنس العمل، فمن يسر على غيره يسر الله له من قام على حاجة الآخرين فرج الله عنه كربته، وقضى له حاجته، من نظر في حاجة المحتاجين تيسرت أموره ولم يحتج إلى غيره؛ لأنه في مقام الأفضل اليد العليا خير من اليد السفلى، وهذا يقوم على مصالح الآخرين ويتتبع حاجاتهم، فلذلك تجد أن طمأنينة النفس دائما مرتبطة بمعونة الآخرين، ولا يمكن لمن كان قائما على حوائج الآخرين أن يكون ضيق النفس، ولا أن يكون صاحب هم وغم قد جثى على قلبه، أو سيطر على صدره أبدا تجد عنده من انشراح الصدر، ولذلك كان من أسباب انشراح الصدقة، من أعظم أسباب انشراح الصدر الصدقة، وهو باب عظيم ولذلك يسعى أهل الإيمان دائما في نفع غيرهم من إخوانهم، يقول جل وعلا: ﵟوَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعۡدِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠ﵞ ﵝالحَشۡر : ﵐﵑﵜ إذًا الحرص على هذا الأمر هو من دلائل سلامة التفكير بل ومن دلائل سلامة الإيمان والتدين لله جل وعلا، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم غاية الحذر من أمر الجفاء البعد الاستئثار بأمر الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: «دبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ ، الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» ([9]) معنى ذلك أنها تضر بدينك، فسماها النبي عليه الصلاة والسلام حالقة وتعرفون أثر الحلاقة على الشعر، وهذا تشبيه وكيف أنه ربما يجتز الشعر من أصله وهكذا ما قد يضر بإيمان العبد، ثم قال صلى الله عليه وسلم: « لا تدخلوا الجنةِ حتى تؤمِنوا، و لا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلُّكم على ما تحابُّون به؟ قالوا: بلى، يا رسولَ اللهِ، قال: أفشوا السلامَ بينَكم »([10])، إذًا هذه كلها من الأمور المعينة على هذا الأمر، ثم من أعظم ما يعين العبد على أدب التعامل مع غيره النظر في سنته صلى الله عليه وسلم وفي سيرته، ويرى كيف كان يتعامل مع المرأة العجوز وكيف كان يتعامل مع الأطفال، يأتي إلى الصبي وهو جالس وقد مات عنه الطير الذي كان يلعب به فيقول عليه الصلاة والسلام: «يا أبا عمير، ما فعل النغير»([11]) ، يداعبه صلى الله عليه وسلم وهو الذي يحمل همّ الأمة الإسلامية ورأس الهرم في الدولة الإسلامية، ويأتيه من الوفود وتقوم به من الغزوات ويبعث السرايا ويقوم في أمر القضاء، ويرشد الأمة ويقوم على أمر دينها ثم يأتي إلى صبي ويقول: «يا أبا عمير، ما فعل النغير» يقول: مات يا رسول الله، لم يشغله ذلك عن حسن التعامل مع الأعرابي مع العجوز مع أصحابه ،وهو يداعبهم ويلاطفهم ويسمع منهم، مع الأطفال يمر عليهم فيسلم عليهم كما في حديث أنس، إذًا لو نظرنا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام والله لاستغنينا عن كثير من النظريات البشرية القائمة على مبدأ التعامل ولاستغنينا عن كثير من الكتب التي تدل على قضية كيفية التعامل مع الآخرين ولاستغنينا عن كثير من الاستنتاجات التي جاءتنا من الغرب تدعوننا إلى معرفة طريقة التعامل، الواجب علينا أن لا نهجر ما جعله الله جل وعلا سببا لهدايتنا قال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه» ([12]) .
استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كنا لنا ماض نسيناه
انظر في نصوص القرآن انظر في تعامل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم انظر في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه على اختلاف المواقف والأحوال، انظر في تعامل أبي بكر وفي تعامل عمر وفي تعامل عثمان وعلي انظر في تعامل طلحة والزبير وأبي عبيدة وخالد وابن عمر انظر في هذه الآثار التي حفظتها لنا كتب التاريخ لتستقي من ذلك منهجا عظيما في أمر التعامل مع الجار ومع القريب ومع الوالدين ومع الزوجة ومع الأبناء لا يكاد يوجد مجال للتعامل إلا وتجد فيه آية قرآنية أو حديثا نبويا أو أثرا عن صحابي أو أثرا عن تابعي، أو توجيها لعالم من علماء المسلمين ممن كتبوا في أدق تفاصيل مسائل أعمال القلوب، وجوانب التعامل مع الآخرين لكن من الذي يقرأ من الذي يتأمل من الذي يبحث ليس معنى ذلك أن نمتنع من قراءة شيء مفيد كتبه غيرنا، لكن لماذا أنتقل أنا قبل أن أنظر في موروثنا الشرعي، في حضارتنا الإسلامية فيما قامت به الدولة الإسلامية الأولى من حسن التعامل حتى في تعامله صلى الله عليه وسلم مع غير المسلم، انظر وتأمل في تعامله صلى الله عليه وسلم لتستقي من القواعد والضوابط والفوائد الشيء العظيم الذي هو المنهج الذي لا يحيد والتوجيه الذي لا يجوز مخالفته والذي لا يعتبر يا إخوة نظرية قد تنقضها نظرية، وإنما يعتبر شرع ومنهاج يجب علينا اتباعه، يجب علينا سلوك طريقه.
إذًا ما أثر هذا التعامل لو سلكناه؟
أول أثر في تعاملنا بأدبيات التعامل مع الآخرين: هو تقارب القلوب الشريعة جاءت بهذه القضية واهتمت بها غاية الاهتمام، ولو نظرنا في قضية مهمة جدا حتى في صلاتنا يا إخوة في صلاتنا، يقول صلى الله عليه وسلم: «لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم» ([13])تحذير إياك من شيء يخالف بين القلوب: ﵟوَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵓﵐﵑﵜ، ﵟوَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٣١ مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖﵞ ﵝالرُّوم : ﵑﵓ - ﵒﵓﵜ وحذرنا صلى الله عليه وسلم فقال: «وستفترق هذه الأمة ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» ([14]) ، إذًا تحذير من التفرق تحذير من الاختلاف أمر بالاجتماع الحرص على نقاء القلوب، وتقارب القلوب حتى في قضية تسوية الصفوف لتسوون صفوفكم أو ليخالفن بين قلوبكم، لذلك قال العلماء من أسباب افتراق الأمة عدم تسوية الصفوف تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، إذًا في قوله صلى الله عليه وسلم وقد جاءه رجل قال يا رسول الله: كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم -سبقوه في منازل عالية في الطاعات والعبادات هو يحبهم لكن عمله يقصر عن ذلك- قال صلى الله عليه وسلم: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»([15]) ماذا استفاد العلماء من هذا الحديث؟ يقول ابن بطال رحمه الله: «فدل هذا أن من أحب عبدًا في الله فإن الله جامع بينه وبينه في جنته ومدخله مدخله وإن قصر عن عمله» ([16]) ، انظر إلى أثر علاقة القلوب بعضها ببعض حتى وإن لم تصل إلى عمله لكنك ستكون معه؛ لأنك اجتمعت معه على قلب نقي على توادد ومحبة ومودة وتآلف صادق.
أيضا من أثر التعامل وحسن التعامل مع الغير ما سيكون من حسن التعايش، الله جل وعلا لما أمرنا بقوله: ﵟوَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗاﵞ أمرنا بالاجتماع ثم نهانا عن التفرق قال: ﵟوَلَا تَفَرَّقُواْﵞ لا تختلفوا كل سبب يدعو إلى التفرق فهو محرم شرعا، كل أمر يؤدي إلى الاختلاف فهو ممنوع، لا يجوز للناس أن يختلفوا الأصل الاجتماع ليس الأصل الافتراق، فتبين أن الله جل وعلا أمرنا بقضية الاجتماع لكن هذا الاجتماع قيده الله جل وعلا بقوله: ﵟوَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِﵞ أي: أن الاجتماع لا يكون على باطل الاجتماع لا يكون على فاسد الاجتماع لا يكون على أمر محرم، الاجتماع يكون على الدين ﵟوَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗاﵞ أي: بدين الله في بعض التفاسير: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلها بمعنى واحد فالسنة هي الدين، إذًا حينما تصفو القلوب ويحسن التعامل بين الآخرين ممكن أن تتعايش تأمن جارك وتأمن شريكك في التجارة لأن القلوب صادقة، وكلا الشريكين يتعامل بوفق أدبيات التعامل لكن إذا كان عندك شريك في تجارة وأنت أخشى ما تخشى منه وأخوف ما تخاف على مالك منه وأنت في شك من مكره وكذبه وتحايله كيف سيستقر أمر الربح في هذا؟ إذا كنت لا تأمن جارك كيف ستأمن ألا تغلق بابك إذا كنت لا تأمن صديقك كيف ستأمن عليه على مالك ومتاعك، إذا كنت لا تأمن قريبك كيف ستأمنه على صدق الصلة بك وعلى القيام بأمر صلة الأرحام لا يمكن، لذلك من آثار حسن التعامل حسن التعايش.
ثم أيضا من هذه الآثار وهي متعلقة بحسن التعايش: قوة التعاون بين الناس، إذا صفت القلوب وكان التعامل صالحا صادقا سيتعاون الجميع على تحقيق المصالح العامة دون المصالح الشخصية، وعلى القيام بالأمر النافع للجميع دون الأمر الذي يتعلق بمصلحة فلان من الناس، يقول القائل:
لولا التعاون بين الناس ما شرفت نفس ولا ازدهرت أرض بعمران
إذا لم يكن هناك تعاون ولذلك قلت في أول الكلمة إذا كان هذا التعاون وكان هذا التوادد وكانت هذه المحبة محبة مصلحية تنتهي مع المصلحة، لكن إذا كانت هذه المحبة لله جل وعلا فهي من أقوى الروابط، أقوى ما يربطك بإنسان هو أمر الإيمان، وقد يربطك بإنسان غريب، أمر الإيمان ما لا يربطك بقريبك وتكون قوة الرابطة بينك وبين البعيد أقوى من قوة الرابطة بينك وبين القريب، إذا كان الرابط هو الإيمان المحبة في الله التوادد.
أيضا من آثار حسن التعامل: البعد عن الاختلاف، لا شك أن التعامل إذا كان صادقا ويراد به وجه الله سبحانه وتعالى لن تختلف، إن اختلفت وجهات النظر في مسألة فإنه لا يمكن أن يغلب نظره لأن العلاقة الصادقة ليس قيامها على أمر الانتصار للرأي، قيامها على إمكانية التآلف حتى مع وجود نوع اختلاف في الرأي، ما لم يكن هذا خلاف الشرع، خلاف الشرع أمر آخر تختلف أنت وأخيك في مسألة تحتملها أوجه الاختلاف، فتتنازل عن قولك وترجح قوله وتقول لا حرج إن شاء الله، آخذ برأيك هذا دليل على سلامة صدرك، لكن تختلف مع أخيك وتفترق عنه لاختلافك في نوع الطعام أو في اسم المطعم أو ما هي السيارة التي سنذهب بها، أو ما هو المشروب الذي سنطلبه هذا دليل على أن العلاقة بينكما أرق من الشعرة ما يكاد يمر عليها مقص المواقف إلا ويقطعها، لا يمكن أن تستمر لأنك إن تجاذبتها من جهتك وهو أصر من جهته انقطعت هذه الصلة وهي صلة ضعيفة جدا، أما الصلة الإيمانية لا تنقطع قوية والكل يرخيها من جهته حتى تستمر العلاقة وحتى تتآلف القلوب زيادة، فأنت مؤثر كريم مرجح لقول غيرك منقاد لأخيك، لذلك الله جل وعلا يا إخوة لما وصف تعامل المؤمنين مع إخوانهم ماذا قال: ﵟأَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵔﵕﵜ انظر إلى هذا الوصف ما معنى أذلة من كلمة الذل، ومعنى ذلك أنك تتنازل ليس عن الدين ولا عن الاعتقاد ، تتنازل عن رغبتك في أمر دنيوي تتنازل عن حاجتك مقابل أن يدوم بقاء المودة مع أخيك، إذًا هذا الأمر المطلوب وهذا يدل على علو همة وعلى نظرة عظيمة.
لو تأملت في السيرة النبوية حينما جاء المهاجرون إلى ديار الأنصار جاؤوا من مكة إلى المدينة، قاسم بعض الأنصار إخوته من المهاجرين بيته قال: النصف لك ونصف يبقى لي، قاسم بعض بالأنصار مع إخوته المهاجرين زوجاته قال: انظر من تريد أطلقها، إلى هذه المرحلة يا إخوة من الإيثار إلى هذه المرحلة من التآلف إلى هذه المرحلة من المحبة وصلوا، ولذلك التقصير عن هؤلاء شيء وارد ولكن لا ينبغي أن نجعل الفرع أصلا معنى ذلك ينبغي أن نقتدي بهؤلاء: ﵟأُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡﵞ ﵝالأَنۡعَام : ﵐﵙﵜ، والصحابة هم أهل القدوة وأهل الأسوة الذين اختارهم الله جل وعلا لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فالاقتداء بهم في كل المجالات شيء فاضل وأمر مطلوب وهو من الشريعة، ولذلك عظم الله جل وعلا أمرهم وأثنى على من يتبعهم بإحسان: ﵟوَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵐﵐﵑﵜ اقتفوا طريقهم أخذوا بهديهم في سلوكياتهم في أخلاقياتهم في تعاملهم مع الآخرين، ثم حينما نتكلم وبهذا نحاول إن شاء الله أن نختصر فالكلام في هذا الباب طويل وأستسمحكم عذرا فاصبروا.
مما يعين على ضبط قضية التعامل مع الآخرين:
أولا: أمر الصدق أن تكون صادقا وقد تقدم معنا الأصل وهو الإخلاص لله سبحانه وتعالى، الصدق يا إخوة من أهم روابط بقاء المحبة وبقاء العلاقات الاجتماعية، كن صادقا مع زوجك كن صادقا مع والديك كن صادقا مع جارك كن صادقا مع أبنائك كن صادقا مع إخوتك كن صادقا مع صديقك، الكذب مشين وقبيح، قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ... وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»([17]) صيغة مبالغة ما يكتب عند الله كاذب يكتب كذّاب دليل على كثرة كذبه وأنه صار الكذب متلبس به لا تتعامل بالكذب أبدا الكذب قبيح الكذب دليل على ضعفك دليل على جبنك دليل على بخلك دليل على ضعف إيمانك، تعامل مع الجميع بالصدق، والصدق نجاة في كل أمر في تربيتك لأبنائك أو في تعاملك مع زوجك، إياك والكذب فيما يتعلق بأوجه التعامل مع الآخرين إياك والكذب فيما يتعلق بالتعامل مع ولي أمرك إياك والكذب مع أبويك مع إخوتك أشقائك أو إخوتك من الإيمان أو نحو ذلك، لذلك الله جل وعلا أوصانا وصية عظيمة قال: ﵟ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ١١٩ﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵙﵑﵑﵜ كونوا مع الصادقين في كلامهم في مسلكهم في حياتهم في عشرتهم، ولذلك جاء عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قرأ هذه الآية: ﵟ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ١١٩ﵞ قال: مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه([18]) ، هم الصادقون فأنت حينما تسلك مسلك الصدق أنت تقتفي طريقته صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولذلك جاء في الحديث الذي صححه الألباني، وتأملوا فيه قال عليه الصلاة والسلام: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ ، فلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنْ الدُّنْيَا-أربع أمور احفظوها-: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ» ([19])، أربعة أمور إذا توفرت عندك وفاتك ما فاتك من الدنيا لا تبالي: حفظ أمانة أن تكون أمينا أن تكون صادقا أن تكون صاحب خلق وأن تكون عفيفا تبتعد عن الحرام أو عن المشتبهات، تحرص على العفة في مطعمك وفي مشربك وفي مأكلك وفي مركبك تكون عفيفا في ذلك، لو قال قائل: ما هي الأمور التي يتجلى فيها أمر الصدق في التعامل مع الناس؟ غالب ما تنتظم تحته أمور الصدق في خمسة أمور:
أما الأمر الأول: ففي صدق الحديث في كلامك إذا تحدثت فتحدث بالواقع لأن الكذب هو الإخبار بخلاف الواقع، لا تبالغ لا تتكلم بكلام لم يحصل لا تزد في كلامك بما تحاول به إقناع الآخرين فتضيف من الكذبات أو تضيف من البهارات حتى تزين كلامك لا، كن صادقا.
الأمر الثاني: الصدق في الوعد، إذا وعدت كن صادقا، فِ بوعدك كن صاحب وفاء وعدت في موعد احضر موعدك، وعدت في عون لا تتخلف عن عونك لأخيك، وعدت في مساعدة وعدت في أي أمر فإن الوفاء بالوعد من صفات أهل الإيمان وإخلاف الوعد من صفات أهل النفاق.
أيضا الصدق في المودة والمحبة: الصدق في المودة والمحبة يا إخوة لها التزامات، أنت عندما تقول لأخيك إني أحبك في الله كلمة عابرة هكذا تطير في الهواء لا، لها التزامات فيها إيثار فيها كرم فيها الصدق في التعامل فيها العون فيها الوقوف مع أخيك فيها الفرح لفرحه فيها الحزن لحزنه.
ولذلك النوع الرابع من الصدق: هو الصدق في الفرح والحزن: أن تكون صادقا في أحاسيسك أن تكون صادقا في مشاعرك، تحزن إذا أصاب أخاك كرب أو هم أو غم أو نحو ذلك، وتفرح إذا ما صارت له مناسبة سعيدة أو جاء ما يسعده أو يفرحه تفرح لفرحه، وهذا الفرح للفرح يدل على أنك من أبعد الناس عن الحسد، ومن أصفى الناس قلبا.
الأمر الأخير فيما يتعلق بالصدق: صدق البذل والعطاء صادق في بذلك وعطائك لا تريد ممدحة ما تعطي ليقال جزاك الله خيرا أعطيتنا وأنت أهل الإكرام، تعطي وأنت تنتظر ماذا سيقول المعطى له هذا لا يدل على صدقك، أنت في باب العطاء تخفي عطيئتك، أنت في باب العطاء تخفي صدقتك حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، إذًا أنت صادق في قضية العطاء أردت بهذا العطاء وجه الله سبحانه وتعالى تفريجا على أخيك.
أيضا من الضوابط في قضية التعامل مع الآخرين ألا تحكم على إنسان لمجرد أول مقابلة قابلتها فيه، فإن هذا يناقض أدبيات التعامل لماذا يا إخوة؟ قد تسمع عن إنسان فإذا قابلته في مجلس كان في حال غضب شديد أو ربما فرح شديد إذ لم يكن على الاعتدال، فأخذت عنه نظرة وهذه الخطورة في هذه القضية أن هذه النظرة التي أخذتها عنه ربما لا تتغير عندك فترة طويلة، والذي ينبغي عليك أن تحرص على النظر في قضية حسن الظن؛ إذ لا تحكم على إنسان حتى تعاشره، المعاشرة مطلوبة لا تحكم على إنسان بمجرد موقف لا تحكم على إنسان بإخلافه لقضية حصلت منه زللا أو خللا أو نسيانا أو خطأ، لا تحكم على الآخرين بمجرد خطأ، الحكم يكون مبني على مجالسة ومؤانسة ومعاشرة، ولذلك جاء عن خرشة ابن أبحر قال: شهد عند عمر رجل شهادة عند عمر ابن الخطاب فقال له: لست أعرفك، يقول عمر للرجل الذي جاء يقول شهادة عن رجل قال له عمر: لست أعرفك ولا يضرك ألا أعرفك ما يضرك أن عمر ما يعرفك فأتني بمن يعرفك، آتني بشخص يعرفك أنت من أنت، فقام رجل من القوم قال أنا أعرفه قال عمر بأي شيء تعرفه، قال الرجل: بالعدالة والفضل الرجل هذا عدل وفاضل قال عمر: إذا هو جارك الأدنى، يعني جارك تعرفه هو جارك الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه قال: لا قال: فمعاملك في الدينار والدرهم، تعاملت معه في بيع وشراء تعرفه قال يستدل بهما على الورع، يعني إذا تعاملت معه دليل على أنه ورع قال: لا قال فرفيقك في السفر، سافرت معه الذي يستدل به على مكارم الأخلاق قال: لا قال لست تعرفه يا رجل أنت ما تعرف هذا الرجل، ما عاشرته كيف تقول هذا فلان، إذًا لا يجوز لك لا أن تحكم سلبا ولا إيجابا لمجرد موقف واحد، إنما إن عاشرت الرجل أو صاحبته أو عرفت مدخله ومخرجه أو عرفت تعامله بالدينار أو عرفت غير ذلك هنا تكون قد حكمت عليه بمعرفة، الناس بعضهم قد يستدل على ظاهره بشيء، ويكون هذا الظاهر خلاف الواقع أليس كذلك؟ وقد تسيء الظن به في أمر ويكون الواقع أيضا خلاف إساءة الظن، ولذلك من ضوابط التعامل أيضا مع الناس عليك بحسن الظن من غير تهمة وإياك من سوء الظن من غير تهمة، معنى ذلك أن تحسن الظن إذا لم تكن هناك تهمة، وإنما إساءة الظن إذا كان هناك ما يقتضي التهمة، الله عز وجل قال: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞﵞ ﵝالحُجُرَات : ﵒﵑﵜ وهذا يدل على أن بعض الظن إثم وبعضه ليس بإثم إذا كان له حاله التي يقوم عليها أمر سوء الظن أو يصح سوء الظن، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ»([20]) . الظن أكذب الحديث، أكذب ما يكون في كلام الناس سوء الظن، وهنا تنبيه يكون متى سوء الظن وسوء الظن هو الأصل لا، ليس الأصل، الأصل إحسان الظن لكن متى يصح سوء الظن؟ يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: «من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به» ([21]) المطلوب من الإنسان أن يبتعد عن التهم أن يبتعد عن أخذ أموال الناس بالباطل يأخذ من هذا ويأخذ من هذا، ويتلاعب على هذا ويتلاعب على هذا ثم يقول اتقوا الله لماذا تسيئون الظن، هم ما أساءوا الظن هم حكموا على فعلك حكموا على تلاعبك حكموا على استهتارك، فينبغي عليك أنت أن تدفع سوء الظن عنك، نبيك صلى الله عليه وسلم المبرأ من كل عيب قال للصحابة: «على رسلكما إنها صفية ...إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم»([22]) ، بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يقتضي دفع سوء الظن عنه وهو النبي صلى الله عليه وسلم فمن أنت، يجب عليك أن تدفع سوء الظن عن نفسك، وأن لا تضع نفسك في مواضع التهم ومواضع الشبه.
أيضا من ضوابط التعامل الحسن مع الناس يا إخوة: القول الحسن الكلمة الطيبة، الكلمة الطيبة صدقة، والله جل وعلا قال: ﵟ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ يَنزَغُ بَيۡنَهُمۡۚﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵓﵕﵜ أمر من الله، إياك أن تتكلم بالكلام الجارح فإن بعض الكلمات الجارحة التي تصدر من بعض الألسن تفرق بين القلوب سنين عددا، كلمة واحدة ما باليت بها أردت أن تنتصر لنفسك فيها فرقا بينك وبين قريبك، بين الأب وابنته بين الأب وابنه بين الأم وابنتها بين الأم وابنها بين القريب وقريبه بين الصديق وصديقه بين الشريك وشريكه، كلمة خرجت أحدثت جرحا غائرا في النفس، ففرقت بين المتحابين، بعض الكلمات تفسد الحياة الزوجية بعض الكلمات تسبب جفاء في القلوب، إذًا احرص وقولوا للناس حسنا، احرص على الكلمة الطيبة لن تخسر شيئا، إن قابلك أخوك بكلمة سيئة ادفع بالتي هي أحسن، لتكن كلمتك دائما هي الكلمة الطيبة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الكلمة الطيبة، والله عز وجل ضرب بها مثلا وإن كانت في الآية هي في لا إله إلا الله لكن ذكر أهل العلم أن كل كلمة طيبة فهو أمر مطلوب، قال تعالى: ﵟ أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ ٢٤ تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ ٢٥ﵞ ﵝإِبۡرَاهِيم : ﵔﵒ - ﵕﵒﵜ إذًا احرص على الكلمة الطيبة.
كذلك من الأمور المهمة جدا يا إخوة: احتمال الأذى الشخصي تأمل في قصة الأعرابي الذي جذب النبي صلى الله عليه وسلم وأثر على صفحة عنقه قابله النبي عليه الصلاة والسلام باحتمال الأذى والصبر والابتسامة، وقال: أعطوه، الله جل وعلا قال موجها لعباده المؤمنين مادحا لهم قال: ﵟوَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵔﵓﵑﵜ مراتب تكظم غيظك تعفو تحسن، وجاء في الحديث أن رجلا قال يا رسول الله وتأملوا، يحكي للنبي عليه الصلاة والسلام واقعا يعيشه يحكي للنبي صلى الله وسلم مشكلة تؤرقه، يحكي للنبي عليه الصلاة والسلام صلة تكاد تنقطع قال: «يَا رَسُول الله، إنّ لِي قَرابةً أصِلُهُمْ وَيَقْطَعُوني، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إلَيَّ، وَأحْلَمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ»، وهذا عجيب هذا الرجل يقوم على هذه القرابة قال: وأحلم عنهم ويجهلون علي أصبر وأكون حليما وأبذل لهم أحسن لهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكأنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ»، ما معنى تسفهم المل؟ معنى ذلك كأنك تلقمهم الرماد الحار إذا كان أنت تحسن إليهم تكرمهم ويسيئون إليك، ثم قال صلى الله عليه وسلم «وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذلِكَ»([23]) يعني لا زال من الله معك عون الله يعينك الله يسدد أمورك ما دمت تريد وجه الله جل وعلا الله جل وعلا يسدد أمورك ويسهل دربك ويعينك في أمرك، ولذلك كان المطلوب من العبد إذا قوبل بالإساءة أن يقابلها بالعفو والصبر: ﵟوَلَنَجۡزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوٓاْ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٩٦ﵞ ﵝالنَّحۡل : ﵖﵙﵜ، والله جل وعلا لما ذكر قضية أحوال المؤمن وما يترقى به في مراتب الهداية قال: ﵟ وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ ﵞ ﵝالسَّجۡدَة : ﵔﵒﵜ أمر عظيم لا يستطيع كثير من الناس بعض الناس يقول يا أخي لماذا أصبر أنا غير محتاج للصبر لماذا أصبر على من يسيء إلي أنا قوي أنا عندي قوة على مقابلة الإساءة بالإساءة، والذي يرشك بالماء رشوه بالدم أمثلة تجري بين الناس والذي يعطيك كف أعطيه عشرة، لا يا أخي الذي يسيء إليك أحسن إليه والذي يظلمك، ومن الحكمة أن تعفو عنه اعف عنه ما لم يكن هذا سبيلا إلى زيادة ظلمه، إذًا الصبر أمره عظيم القضية ليست بالقدرة، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَدِيدُ الَّذِي يَملكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»([24]) ، هذا الشديد هذا القوي هذا الذي يؤجر هذا الذي يقال عنه صحيح عنده قوة وعنده شجاعة، لا يظلم ولا سيما إن كان الذي يظلمك له صلة قرابة واجبة، قد يحصل الظلم أحيانا من الأب أو من الأم للأسف، قد يحصل الظلم من الأخ الشقيق لأخيه أو من القريب لقريبه فإن كنت ترى أن هذا العفو نافع وعفوت وهو تقبل هذا العفو أيضا بالندم ونحو ذلك فالعفو أفضل من الانتقام، ولذلك قال العلماء من أضرار الانتقام أحيانا أنك قد تأتي وتنتقم فيزيد عندك أمر الانتقام على أمر الإساءة، فتكون من كونك يعني أخذت حقك إلى كونك ظالم صرت الآن ظالم؛ لأنك زدت في كما يقال زيدت العيار، فلذلك كان الأفضل العفو الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، إذًا من الأمور التي تعين الإنسان على ذلك أمر العفو والصفح، وهناك أمور يا إخوة بغير قضية من يسيء إليك ابتداء التعامل مع غيري، هناك أمور تحبب بعض الناس فيك وإن لم يكن بينك وبينه عمق في المعاملة أو صلة قوية، من ذلك أن تنادي الإنسان بأحب أسمائه إليه، إذا ناديته بأحب أسمائه إليه بالكنية التي يحبها باللقب الذي يحبه فإن هذا من أسباب قوة الأواصر بينك وبينه، يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: «ثَلَاثٌ يُصَفِّينَ لَك وُدَّ أَخِيكَ: تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيتَهُ، وَتُوَسِّعُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَتَدْعُوهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إلَيْهِ»([25])، تصور أنت إن تدخل إلى مجلس مزدحم وهذا موقف حرج أليس كذلك؟ ما تدري أين تجلس ثم يناديك شخص فيقول لك تعال ويوسع لك بجانبه كم ستحمل له من التقدير والمحبة، ولذلك مما يصفي لك الود هذا الأمر، وأن تسلم عليه إذا لقيته وأن تناديه بأحب أسمائه إليه.
أيضا مما يقوي علاقتك بالآخرين: أن تقطع الجدال إذا هناك ما يدل على حصوله أو أنه حصل أيّ أمر تدخل فيه في جدال مع أخيك في البيت مع والدك مع جارك اقطعه، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: «أنَا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَض الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ، وَإنْ كَانَ مُحِقًّا »([26]) ، لأن الجدال يورث التباغض والتناحر.
أيضا من حسن التعامل مع الآخرين: حسن الاستماع لا تتشاغل عن محدثك، لأن هذه من أسباب تنافر القلوب وخاصة نحن يا إخوة الآن في زمن الأجهزة، أنت تتحدث مع شخص والشخص ملتهي عنك وكلنا يقع في هذا الأمر للأسف الشديد، ولذلك تشتكي الأمهات ويشتكي الآباء من حال الأبناء وتشتكي الزوجات من حال الأزواج ويشتكي الأزواج من حال الزوجات، والكل يشتكي من الكل، يقول أنا أجالسه وأحدثه متحمس في الحديث وهو يقلب هاتفه، فمن أسباب التآلف حسن الاستماع تظهر له ولا سيما كبار السن، كبار السن يا أخي إذا جلست معه أنصت له ربما حدثك بهذا الحديث عدة مرات، أنصت له استمع له وبادره بالاستفصال والسؤال والاستفسار، وهذا من حسن التعامل ومن حسن التقدير مع كبير السن.
أيضا: الابتسامة يقول عليه الصلاة والسلام: «لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أخَاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ»([27]) ، لا تحقرن من المعروف شيء تلقى أخاك بوجه مبتسم، وهذا فيه صدقة وفيه أجر.
كذلك التواضع فإنك إن تواضعت قمت بأدب من أعظم أدبيات التعامل مع الناس، يقول عليه الصلاة والسلام: «إنَّ اللهَ أوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا »([28]) ، هذا مما أمره الله جل وعلا به.
أخيرا معاشر الأحب مما ينبه عليه هنا: لا ينبغي للإنسان في تعامله مع الناس أن تقوده عاطفته إلى اتخاذ موقف معين، وذلك مثلا أنه لو تأمل في أحوال الآخرين فإن الآخرين لهم عواطف وأنت تريد من الناس أن يراعوك في تعاملك، ثم لا تريد أن تعامل الآخرين في عواطفهم وأحوالهم، وللأسف أن هذا الأمر مستشري في الناس ينظر إلى الناس يقول هذا قاسي في تعامله، وربما لم تنظر ما سبب قسوته، قد تكون سبب قسوته في التعامل سوء أدبك لماذا لم تنظر إلى هذا لماذا نظرت إلى الأثر ولم تنظر إلى السبب، تناقش إنسان وتقول هذا مجادل وربما أنت من تريد أن تنتصر لنفسك لكنك لم تراقب نفسك راقبت غيرك، لم تنظر في حالك نظرت في حال غيرك إشكال كبير هذا، تنظر إلى الآخر وتقول هذا لا يتعامل معي بأدب وأنت لم تتعامل معه بتقدير، أنت تنتظر منه الأدب معك ولم تبذل شيء من الأدب معه، إذًا أنت تنظر إلى أثر تعامل الناس معك ولا تنظر إلى تعاملك أنت معهم، هذا أمر لا يليق عامل الناس بما تحب أن يعاملوك فيه، البعض يسيء يقول يا أخي أنت لا تتحمل لماذا لا تتحمل تطلب منه أن يتحمل سوء خلقك تطلب منه أن يتحمل غضبك، لماذا أنت لا تتحمل ولا تسيء لماذا أنت لا تحبس نفسك عن الإساءة ابتداء، ومن هذا الأمر ما يقع يا إخوة من مزاح قبيح يا أخي أمزح معك يا أخي أنت في كل شيء تزعل أمزح معك يا أخي أنت اضبط نفسك عن المزاح القبيح، اضبط ألفاظك ضع مستوى المزاح في الأمر المعقول النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقا، قيل لسفيان ابن عيينة: المزاح سبة قال بل سنة ولكن من يحسنه المزاح الصحيح، تمزح تكسر له يد تشج له وجه تفسد له مال، يقول يا أخي أمزح معك أنت صدرك ضيق ليس صدري ضيق خلقك سيء، تعاملك قبيح مزاحك فض أخلاقك رديئة تعامل تعامل جيد امزح مزحا طيبا على وفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم بما لا ينفر القلوب، إذًا لا تنظر دائما إلى ردات الأفعال انظر إلى فعلك أنت راقب نفسك في كلامك في فعلك في مزاحك في لفظك حتى تنظر بعد ذلك هل أنت تكون مبرأ من سبب ردة الفعل أو أنك سبب رئيسي فيها، ولذلك يأتي البعض ويقول والله أنا حتى في تعاملي مع الآخرين يا أخي أنا نصحت فلان ما قبل مني لا تنصح بشرط القبول ليس بالضروري أن يقبل منك، أنت أدي النصيحة فقط أنت لا تملك قلوب الناس وتخاصم الإنسان لماذا لا تقبل نصحي، الله عز وجل أنزل آيات قرأها بعض الناس ما آمنوا بها، كلام رب العالمين جل وعلا ما آمنوا به أخذهم العناد والكبر، وتطلب من الناس أن ينقادوا لكلامك أنت من أنت؟ النبي عليه الصلاة والسلام بعث في قوم قال قولوا لا إله إلا الله تفلحوا قال له بعضهم تبا لك ألهذا جمعتنا؟ وهو نبي الأمة مؤيد بالمعجزات تفرض على الناس أن يستمع لقولك، ومن سوء التعامل يا إخوة أن بعض الجلوس في مجلس يريد من الحاضرين جميعا أن يستمعوا له وإذا تكلم أحدهم تشاغل هو، وإذا جاء يتكلم يقول يا أخي لماذا قلة الأدب لماذا لا تستمع لي أنا أتكلم وإذا تكلم غيره لا قيمة لكلام غيره عنده أبدا، إذا كنا نتكلم عن أدبيات التعامل هذا من مساوئ التعامل من الأخلاقيات الرديئة، انظر إلى نفسك كما تحب أن تنظر إلى غيرك، عامل غيرك بما تحب أن يعاملوك به، تريد الناس يعاملوك بالتقدير عاملهم بالتقدير تريد الناس أن يعاملوك بالأدب عاملهم بالأدب، تريد الناس أن يعاملوك بالاحترام عاملهم بالاحترام، إذًا لا بد أن تسعى في إصلاح نفسك حتى يستقيم لك أمر أدبيات التعامل مع غيرك.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يرزقنا الأخلاق الحسنة وأن يصرف عنا سيئها، إنه الولي على ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
([1]) رواه مسلم (2638).
([2]) رواه الترمذي (2955)، وأبو داود (4693).
([3]) رواه البخاري (6128).
([4]) رواه البخاري (705)، ومسلم (465).
([5]) رواه البخاري (5809)، ومسلم (1057).
([6]) رواه أحمد (18456).
([7]) رواه أحمد (24595).
([8]) رواه أحمد (9187)، والحاكم (59).
([9]) رواه الترمذي (2510)، وأحمد (1412)، وهو في صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب (2695).
([10]) أخرجه مسلم (٥٤)، والبخاري في «الأدب المفرد» (٩٨٠) واللفظ له.
([11]) رواه البخاري (6203)، ومسلم (2150).
([12]) رواه مالك في الموطأ (1594).
([13]) رواه أبو داود (662).
([14]) رواه الترمذي (2641).
([15]) رواه البخاري (6170)، ومسلم (2641).
([16]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/333).
([17]) رواه البخاري (7188، مسلم (2668).
([18]) تفسير ابن كثير (4/205).
([19]) رواه أحمد (6652)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (733).
([20]) رواه البخاري (5143)، ومسلم (2563).
([21]) الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح (1/289).
([22]) رواه البخاري (3281)، ومسلم (2174).
([23]) رواه مسلم (2558).
([24]) رواه البخاري (6114)، ومسلم (2609).
([25]) آداب العشرة (16).
([26]) رواه أبو داود (4800).
([27]) رواه مسلم (2626).
([28]) رواه مسلم (2865).