التوكل على الله تعالى حقيقته وأقسامه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله لا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم؛
فإننا نحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام، و نسأل الله عز وجل أن يرزق الجميع الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل ذلك في موازين أعمالنا يوم القيامة ، وكتابة اليوم: التوكل على الله عز وجل.
إذا نظرنا في أعمال القلوب التي هي أصل الإيمان ومادته نجد أنه ما من مقام أجمع لعلم القلب وعمله من التوكل على الله عز وجل، التوكل على الله عز وجل من آكد أعمال القلوب، ومن أشرف أعمال القلوب، المقام الذي لا يمكن أن يستغني عنه الإنسان أبدا، فإما أن يحقق التوكل على الله الذي بيده ملكوت كل شيء، وإما أن يكون متوكلا على مخلوق ضعيف مثله، شأنه شأن المخلوقات الضعيفة التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، يظهر ذلك جليا على بقية الأعمال القلبية الأخرى، فإذا صدق التوكل على الله عز وجل في القلب ظهر أثر ذلك جليا على بقية الأعمال القلبية الأخرى، وهكذا بعد ذلك يستتبع أعمال الجوارح الظاهرة أيضا، لأجل ذلك قيل كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده»([1])، ومن هنا كان سلفنا الصالح يعتنون ببيان هذا المقام الرفيع للتوكل على الله عز وجل حتى جعله ابن عباس رضي الله عنهما جماع الإيمان، وهكذا قال في حق التوكل سعيد ابن جبير رحمه الله قال: التوكل نصف الإيمان([2]).
إذًا إذا نظرنا إلى أحوال الناس أنواع الناس في التوكل فنجد تباينا في أحوال الناس في أمر التوكل، فمنهم من استولت عليه الماديات حتى حمل ذلك أكثرهم على التعلق الشديد بالدنيا والتكالب عليها، على نحوٍ استحوذ على عقولهم وأذهانهم، وأثر ذلك على ضعف أعمال القلوب لديهم، والتوكل على الله من بين أعمال القلوب، قاد هذا الضعف إلى قلة الكتابة والكلام في هذا الموضوع الإيماني المهم التوكل على الله عز وجل؛ لأن أكثر الناس عولوا على الأسباب تعلقوا بالأسباب فرحين بما عندهم من العلم، معتمدين على ما أوتوا من قوة من وسائل مادية فأكثرهم نسوا الله عز وجل، ورضوا بالحياة الدنيا.
النوع الثاني من الناس في التوكل من رضي لنفسه بالقعود، وآثر الإخلاد إلى الأرض، أعماه الكسل والخمول أخذ يبحث عن حجة يحتمي بها، مظهرا شعار التوكل على الله، زاعما أن التوكل يقتضي ترك الأسباب، وينافي الأخذ بها، فهؤلاء قبعوا في الزوايا والخلوات ورضوا من الرزق بالإحسان إليهم والصدقات.
نوع ثالث من أنواع الناس في التوكل: أقوام يبدو عليهم الصلاح، يظهر عليهم الحرص على طاعة الله، لكن جانب التوكل عندهم قد ضعف، غفلوا عنه نظروا إلى الرزق والحطام أشفقوا على الأهل والأولاد، فلم يتكلموا بكلمة الحق، أقعدهم ذلك الإشفاق عن القيام بالإصلاح، وهم يعلمون حاجة الأمة إلى الإصلاح، من الناس أقوام غيورون على دين الله، تنبض قلوبهم بحرارة الإيمان راغبون في تدارك ما كان فرط منهم، وغلبتهم شهوتهم، فهم يسعون جاهدين للإصلاح، قد قوي توكلهم على الله تعالى واعتمادهم عليه سبحانه وتعالى، وإيمانهم بوعده المحقق، أنستهم هذه الفورة ما كان يتعين عليهم من الأخذ بالأسباب، والاعتبار بالسنن الإلهية حتى جرهم ذلك إلى ما لا تحمد عقباه.
أيضا من أنواع الناس في التوكل: منهم من عرف الطريق فلزمه، عرف الله فوثق بنصره، عرف ما يجب عليه من الحق فصدع به قياما بالواجب والتماسا لمرضاة الله وابتغاء ما عنده، نالهم من جراء ذلك ما جرت به سنة الله: ﵟأَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ﵞ ﵝالعَنكَبُوت : ﵒ - ﵓﵜ، نسأل الله تعالى للجميع الثبات على الحق.
مقدمة لابد منها فنذكر من خلال هذه الكتابة: تعريف التوكل على الله عز وجل، وبعض الأدلة من الكتاب والسنة، نتكلم عن بعض الأحكام والفوائد المتعلقة بالتوكل على الله عز وجل، وحقيقة التوكل ،أقسام التوكل على الله عز وجل، أقسام التوكل على غير الله، ثم نذكر درجات التوكل على الله عز وجل، ونختم بمسألة علاقة الأسباب بالتوكل.
تعريف التوكل على الله عز وجل:
التوكل على الله تعالى لغة: قال ابن الأثير رحمه الله: «توكل بالأمر، إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان: أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلان فلانا، إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته، أو عجز عن القيام بأمر نفسه» ([3])، وهكذا يقول في المصباح المنير: «وكلت الأمر إليه وكلا من باب وعد ووكولا، فوضته إليه واكتفيت به وتوكل على الله اعتمد عليه ووثق به واتكل عليه في أمره كذلك» ([4])، وهكذا يقول صاحب مختار الصحاح: «التوكل إظهار العجز والاعتماد على غيرك، والاسم التكلان» ([5])، هذا في لغة العرب .
أما في الشرع: فيقول ابن جرير الطبري رحمه الله: «والصواب فى حد التوكل الثقة بالله تعالى والاعتماد في الأمور عليه، وتفويض كل ذلك إليه بعد استفراغ الوسع في السعي فيما بالعبد الحاجة إليه من أمر دينه ودنياه على ما أمر به من السعي فيه» ([6])، إذًا الأخذ بالأسباب، ويقول الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم : «وحقيقة التوكّل: هو صدقُ اعتماد القلب على الله - عز وجل - في استجلاب المصالح، ودفعِ المضارِّ من أمور الدنيا والآخرة كُلِّها، وكِلَةُ الأمور كلّها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يُعطي ولا يمنعُ ولا يَضرُّ ولا ينفع سواه عز وجل»([7])، وهكذا عرفه أيضا في مكان آخر في جامع العلوم والحكم([8]) الحافظ ابن رجب يقول: التوكل هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين كما قال الإمام أحمد واستدل عليه بقول إبراهيم عليه السلام لما عرض له جبرائيل في الهواء وقال: ألك حاجة فقال: أما إليك فلا، ويذكر الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم([9]) أثرا عن الحسن البصري رحمه الله قال: «توكلَ العبد على ربِّه أنْ يعلمَ أن الله هو ثقته»، هكذا ابن القيم رحمه الله أيضا ذكر تعريف التوكل قال: «التوكل عمل القلب وعبوديته اعتمادا على الله وثقة به والتجاء إليه وتفويضا إليه، ورضاه بما يقضيه لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها واجتهاده في تحصيلها»([10]) ، وهكذا أشار إلى هذا الكلام في كتابه زاد المعاد([11]) ، هكذا يقول الشيخ أيضا عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال: « التوكل إسناد العبد أمره إلى الله وحده لا شريك له في جميع أموره الدينية والدنيوية» ([12]) ، ويقول الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله عن التوكل: «صدق الاعتماد على عز وجل في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب التي أمر الله بها» ([13]) .
هذه أقوال العلماء في تعريف وحد التوكل لغة وشرعا.
الأدلة كثيرة في الكتاب والسنة تدل على وجوب التوكل على الله عز وجل، فالله عز وجل قال: ﵟوَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٣ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵓﵒﵜ ويقول الله عز وجل: ﵟوَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١٣ﵞ ﵝالتَّغَابُن : ﵓﵑﵜ ويقول الله عز وجل: ﵟوَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦﵞ ﵝالطَّلَاق : ﵓﵜ آيات كثيرة، وهكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: ﵟإِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ ١٧٣ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵓﵗﵑﵜ» ([14]) ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا»([15])، كذلك أيضا من السنة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ»([16]) .
هنا نذكر من أحكام وفوائد تتعلق التوكل على الله عز وجل:
صلة التوكل بالعبادة والإيمان، الله عز وجل قال: ﵟوَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٣ﵞ الصلة وثيقة بين التوكل والإيمان، يقول ابن القيم رحمه الله: «جعل التوكل شرطا في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل وفي الآية الأخرى: ﵟفَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ ٨٤ﵞ ﵝيُونُس : ﵔﵘﵜ فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وقال تعالى: ﵟوَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١٣ﵞ ذكر اسم الإيمان ها هنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل»، ثم يقول: «وإن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل وإذا كان التوكل ضعيفا فهو دليل على ضعف الإيمان ولابد، والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والإسلام وبين التوكل والتقوى وبين التوكل والهداية فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن كذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته و أعماله إلا على ساق التوكل» ([17])، إذًا التوكل من أعمال القلوب كالمحبة والإنابة والخوف والرجاء والمراقبة هذه أعمال القلوب، قال السعدي رحمه الله: «التوكل على الله من أعظم واجبات التوحيد والإيمان، وبحسب قوة توكل العبد على الله يقوى إيمانه، ويتم توحيده، والعبد يضطر إلى التوكل على الله والاستعانة به في كل ما يريد فعله أو تركه من أمور دينه أو دنياه»، كلام قيم من هذا الإمام العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله([18])، ويقول ابن القاسم رحمه الله عن التوكل: «هو عبادة من أجل العبادات بل هو أجل أنواع العبادات وأعلى مقامات التوحيد» ([19]) .
حقيقة التوكل:
قال ابن رجب رحمه الله: «حقيقة التوكل تفويض الأمور إلى من هي بيده فمن توكل على الله في هدايته وحراسته ورزقه وغير ذلك من مصالح دينه ودنياه تولى الله مصالحه كلها، وهذا حقيقة الوثوق بالله وبرحمته كما في هذا الدعاء: ولا أثق إلا برحمته فمن وثق برحمته فقد حقق التوكل به في توفيقه وتسديده» ([20]) ، هكذا يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عن حقيقة التوكل: «وحقيقة التوكل على الله: أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه هو النافع الضار المعطي المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فبعد هذا العلم يعتمد بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه، وفي دفع المضار، ويثق غاية الوثوق بربه في حصول مطلوبه، وهو مع هذا باذل جهده في فعل الأسباب النافعة، فمتى استدام العبد هذا العلم وهذا الاعتماد والثقة فهو المتوكل على الله حقيقة، وليبشر بكفاية الله له ووعده للمتوكلين، ومتى علق ذلك بغير الله فهو شرك، ومن توكل على غير الله، وتعلق به، وكل إليه وخاب أمله» ([21]) .
نتكلم في مسألة أيضا مهمة في هذه الكتابة عن التوكل على الله وهي: أقسام التوكل على الله، قال ابن القيم رحمه الله: «التوكل على الله نوعان: أحدهما توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية الثاني -يعني من أقسام التوكل- التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله، فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية، ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضا لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه، فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل» ([22])، كلام قيم جدّا فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل، هذا قسمان من أقسام التوكل على الله، التوكل عليه سبحانه وتعالى في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية، التوكل الثاني في حصول ما يحبه الله عز وجل ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما أقسام الناس في التوكل على غير الله فهذه مقامات، فمن الناس متوكل على ماله ومتوكل على نفسه ومتوكل على لسانه ومتوكل على سيفه ومتوكل على سلطنته ومتوكل على الله عز وجل، فأما التوكل على الله فقد وجد الاسترواح، نوه الله عز وجل ورفع قدره وقال: ﵟوَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَيِّ ٱلَّذِي لَا يَمُوتُﵞ ﵝالفُرۡقَان : ﵘﵕﵜ، وأما من كان مستروحا إلى غير الله يوشك أن ينقطع به فيشقى، الاسترواح في التوكل على الله عز وجل وحده لا شريك له، فمن توكل على الله عز وجل رفع الله عز وجل قدره، وأما من توكل على غيره فيوشك أن ينقطع به فيشقى،
ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «القلب لا يتوكل إلا على من يرجوه فمن رجا قوته أو عمله أو علمه أو حاله أو صديقه أو قرابته أو شيخه أو ملكه أو ماله غير ناظر إلى الله كان فيه نوع توكل على ذلك السبب، وما رجا أحد مخلوقا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه فإنه مشرك: قال الله عز وجل:"ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق"» ([23]) ،
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: « لكن التوكل على غير الله قسمان:أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة، فهذا شرك أكبر فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى.
الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكل على أمير أو سلطان، فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك، فهذا نوع شرك خفي، والوكالة الجائزة هي توكل الإنسان في فعل مقدور عليه، ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله، بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه كما قرره شيخ الإسلام» ([24])،
يقول الشيخ العثيمين رحمه الله: « التوكل على الغير فيما يتصرف فيه المتوكل بحيث ينيب غيره في أمر تجوز فيه النيابة فهذا لا بأس به بدلالة الكتاب، والسنة والإجماع، فقد قال يعقوب لبنيه: "يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ"، ووكل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على الصدقة عمالا وحفاظا، ووكل في إثبات الحدود وإقامتها، ووكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هديه في حجة الوداع أن يتصدق بجلودها وجلالها، وأن ينحر ما بقي من المائة بعد أن نحر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده ثلاثا وستين. وأما الإجماع على جواز ذلك فمعلوم من حيث الجملة» ([25]) ،
ثم يقول العثيمين رحمه الله أيضا في موضع آخر: «ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة ينبغي للإنسان أن لا يعلّق نفسه بالسبب بل يعلقها بالله، فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقا كاملا مع الغفلة عن المسبب وهو الله فهذا نوع من الشرك، أما إذا اعتقد أن المرتب سبب والمسبب هو الله - سبحانه وتعالى - فهذا لا ينافي التوكل، والرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب وهو الله - عز وجل -» ([26]).
هنا نأتي لمسألة أيضا مهمة وهي درجات التوكل على الله، لا تتم حقيقة التوكل إلا بهذه الدرجات، فكيف يستكمل مقام التوكل بمعرفة هذه الدرجات:
الدرجة الأولى من درجات التوكل على الله: معرفة بالرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته واليقين بكفاية وكيله وكمال قيامه بما وكله إليه وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك. هذا كلام ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين([27]) ، ثم يقول بعد أن ذكر هذه الدرجة الأولى قال: «وهذه المعرفة أول درجات يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل»، ونقل عن شيخ الإسلام قوله: «ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات».كلامه في مدارج السالكين في منزلة التوكل ([28]) .
هذه إذًا الدرجة الأولى من درجات التوكل معرفة بالرب سبحانه وتعالى وبصفاته من قدرته وكفايته وانتهاء الأمور إلى علمه سبحانه وتعالى وصدورها عن مشيئته وكمال قيامه بما وكله إليه وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك هذه أول درجات التوكل كما ذكرها ابن القيم رحمه الله.
الدرجة الثانية: إثبات الأسباب ورعايتها والأخذ بها، أسباب الرزق أسباب الهداية وهكذا، الأسباب لكل فعل من الأفعال.
الدرجة الثالثة من درجات التوكل: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل، فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده، وحقيقة التوكل توحيد القلب فما دامت في هذا القلب علائق الشرك فتوكله على الله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل أشار إلى هذا المعنى ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين.
الدرجة الرابعة من درجات التوكل على الله: اعتماد القلب على الله، استناده إليه، سكونه إليه، طمأنينته به، الثقة بتدبيره سبحانه وتعالى.
الدرجة الخامسة: حسن الظن بالله عز وجل، قال ابن القيم: «والتحقيق: أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه. إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به، ولا التوكل على من لا ترجوه. والله أعلم» ([29]) .
الدرجة السادسة من درجات التوكل: إستسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعته.
الدرجة السابعة: تفويض الأمر لله وجل، قال الله عز وجل: ﵟ فَسَتَذۡكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمۡۚ وَأُفَوِّضُ أَمۡرِيٓ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٤٤ﵞ ﵝغَافِر : ﵔﵔﵜ، قال ابن القيم رحمه الله: «وهو روح التوكل ولبه وحقيقته، وهو إلقاء أموره كلها إلى الله، وإنزالها به طلبا واختيارا، لا كرها واضطرارا» ([30]) .
الدرجة الثامنة من درجات التوكل: الرضا، قال ابن القيم رحمه الله: وهي ثمرة التوكل ومن العلماء فسره بها قالوا التوكل هو الرضا قال: «فإنما فسره بأجل ثمراته، وأعظم فوائده، فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله» ([31]) ، ثم قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر هذه الدرجات الثمان من درجات التوكل: « فباستكمال هذه الدرجات الثماني يستكمل العبد مقام التوكل، وتثبت قدمه فيه» ([32]) .
نأتي لمسألة مهمة أيضا جدا: علاقة الأسباب بالتوكل، كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اتخاذ الأسباب، كانوا أكمل الخلق توكلا بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس الدروع يوم أحد، استأجر دليلا مشركا على دين قومه ليدله على طريق يوم الهجرة كما في حديث عائشة في صحيح البخاري، كان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حملت الزاد والمزاد وجميع أصحابه أيضا معه، وقد أخبر الله عز وجل في كتابه عن مريم عليها السلام: ﵟ وَهُزِّيٓ إِلَيۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَٰقِطۡ عَلَيۡكِ رُطَبٗا جَنِيّٗا ٢٥ﵞ ﵝمَرۡيَم : ﵕﵒﵜ ، هذا دليل على أن الله عز وجل يأمر باتخاذ الأسباب كما دل على ذلك ﵟ وَهُزِّيٓ ﵞ هذا أخذ بالأسباب حتى يتساقط الرطب، يقول ابن الجوزي رحمه الله: «وقد تشبث القاعدون عَنْ التكسب بتعللات قبيحة منا أنهم قالوا لا بد من أن يصل إلينا رزقنا وهذا فِي غاية القبح فَإِن الإنسان لو ترك الطاعة وقال لا أقدر بطاعتي أن أغير مَا قضى اللَّه علي فَإِن كنت من أهل الْجَنَّة فأنا إِلَى الْجَنَّة أَوْ من أهل النار فأنا من أهل النار قلنا لَهُ هَذَا يرد الأوامر كلها... ومعلوم أننا مطالبون بالأمر لا بالقدر»([33])، إذًا الإنسان مع أخذه بالأسباب وإثباتها لا يعتمد عليها بل ينظر إلى مسببها وهو الله عز وجل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا قال طائفة من العلماء الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع» ([34])، فيشير رحمه الله إلى أن الالتفات إلى الأسباب دون النظر إلى الله عز وجل وأنه الرازق سبحانه وتعالى هذا شرك في التوحيد، الالتفات إلى الأسباب دون التوكل على الله هذا شرك في التوحيد ، ومحو الأسباب هذا نقص في العقل يعني يتوكل على الله ولا يأخذ بالأسباب هذا نقص في العقل الإعراض عن الأسباب بالكلية هذا قدح في الشرع؛ لأنه مأمور بأوامر لا بد أن ينفذ هذه الأوامر قال: والتوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع، فمقتضى التوحيد التوكل على الله عز وجل ومقتضى العقل الأخذ بالأسباب، ومقتضى الشرع العمل بالمأمورات هذا معنى كلامه رحمه الله.
نختم هذه الكتابة في موضوع التوكل أيضا ما ذكره ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين كلام قيم في خلاصة حقيقة التوكل على الله عز وجل يقول: « حقيقة التوكل القيام بالأسباب والاعتماد بالقلب على المسبب -الله عز وجل- واعتقاد أن الأمر بيده فإن شاء قام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه، فالموحد المتوكل لا يلتفت إليها بمعنى أنه لا يسقطها ولا يهملها ويلغيها، بل يكون قائما بها -يعني بالأسباب- ملتفتا إليها ناظرا إلى مسببها سبحانه ومجريها، فإذا جمعت بين هذا التوحيد وبين إثبات الأسباب: استقام قلبك على السير إلى الله، ووضح لك الطريق الأعظم الذي مضى عليه جميع رسل الله وأنبيائه وأتباعهم، وهو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وبالله التوفيق»([35]) .
هذا ما أردنا أن نذكره من خلال هذه الكتابة فيها تذكير لنا ولكم من خلال هذا الموضوع الذي يزيد الإيمان بفضل الله عز وجل لنعرف حقيقة التوكل وأنه لابد أيضا من الأخذ بالأسباب، وأن التوكل على الله عز وجل هو الاعتماد عليه سبحانه وتعالى وأنه لا يجوز أن يتوكل على المخلوق، التوكل على الله عز وجل، وهكذا يقول الله عز وجل: ﵟوَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١٣ﵞ ﵝالتَّغَابُن : ﵓﵑﵜ ،ﵟوَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٣ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵓﵒﵜ ، فالتوكل لا يكون إلا على الله عز وجل، والاعتماد لا يكون إلا على الله عز وجل فيسلم العبد أمره لله عز وجل، ويثق بالله عز وجل يعتمد عليه في جميع الأمور، يفوض أمره إلى الله عز وجل بعد استفراغ الوسع والأخذ بالأسباب يفوض أمره لله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها.
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يفقهنا وإياكم في ديننا، كما نسأله عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل شر وفتنة، ونسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمور المسلمين لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقهم البطانة الصالحة.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) مجموع الفتاوى (7/187).
([2]) ينظر: جامع العلوم والحكم (3/1266).
([3]) النهاية في غريب الحديث والأثر (5/221).
([4]) المصباح المنير (2/670).
([5]) مختار الصحاح (ص344).
([6]) ذكره ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري (9/408).
([7]) جامع العلوم والحكم (ص409).
([8]) ينظر جامع العلوم والحكم (2/505).
([9]) (ص409).
([10]) الروح (ص343).
([11]) ينظر: زاد المعاد (4/15).
([12]) الكلمات النافعة (ص333).
([13]) المجموع الثمين (1/66).
([14]) رواه البخاري (4563).
([15]) رواه أحمد (205)، والترمذي (2344)، والنسائي (11805)، وابن ماجه (4164).
([16]) رواه مسلم (2717).
([17]) طريق الهجرتين (ص255 وما بعدها).
([18]) كلامه في كتابه القول السديد (ص101).
([19]) حاشية ثلاثة الأصول (ص38).
([20]) منهج الحافظ ابن رجب في العقيدة (ص372).
([21]) القول السديد (ص101).
([22]) الفوائد (ص86).
([23]) مجموع الفتاوى (10/207).
([24]) تيسير العزيز الحميد (ص497).
([25]) شرح ثلاثة الأصول ضمن مجموع فتاوى العثيمين (6/555).
([26]) مجموع فتاوى ابن عثيمين (1/104).
([27]) (ص239).
([28]) مدارج السالكين (2/118).
([29]) مدارج السالكين (2/121).
([30]) مدارج السالكين (2/122).
([31]) المصدر نفسه (2/122).
([32]) يراجع هذه الدرجات في كتاب ابن القيم مدارج السالكين (2/117-122).
([33]) تلبيس إبليس (ص254).
([34]) مجموع الفتاوى (10/35).
([35]) مدارج السالكين (3/463).