أسباب الانحراف عن الوسطية الشرعية


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد؛

 فإنّ أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار؛

 إخواني المستمعين كما نعلم جميعا أن من محاسن دين الإسلام الوسطية والاعتدال، فهذه سمة الشريعة بنص كتاب ربنا سبحانه وتعالى، شريعتنا متسمة بأنها شريعة سماحة ورفع للحرج، قال الله عز وجل: ﵟوَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖﵞ ﵝالحَج : ﵘﵗﵜ ، وقال تعالى: ﵟمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵖﵜ ، وقال سبحانه مبينا وسطية هذه الأمة: ﵟوَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵓﵔﵑﵜ، ووسطية هذه الأمة ظاهرة في جميع جوانب الشريعة في العقيدة والفقه والأخلاق والتعاملات حتى في التعاملات مع غير المسلمين، فإن أحكام هذه الشريعة وسطية عدل لا تقوم على التشدد والجفاء، ولا على التفريط وعدم الاعتزاز بالشخصية الإسلامية، بل تقوم على الاعتدال، كذلك يرى المنصف هذه السمة متجلية في جميع جوانب الفقه الإسلامي وكيف أن الإسلام جاء بوسطية راعى فيها الجانب الروحي والجانب المادي للعبد، فلم تأت الأوامر من الله سبحانه وتعالى بما يشق على العباد فعله، بل جاءت بما فيه مصلحتهم ومصلحة المجتمع ومن حولهم، تدفع عنهم المفاسد وتجلب لهم المصالح، والقاعدة الكبرى في التشريع: جلب المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها، وهذا لأن التشريع من لدن حكيم خبير عالم بحال البشر وما يصلحهم ويصلح لهم وليس من وضع البشر أنفسهم، ولأجل ذا كانت شريعة خالدة إلى قيام الساعة صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان، ولا يفقه هذا ولا يدركه إلا من نظر في مجمل التشريع، وأحاط بالمقاصد الكلية والمقاصد الصغرى، ونظر في العلل والأحكام، وأما من لم تكن له هذه النظرة وتأثر بفكر غربي مستورد أو بهوى وتعصب فإنه ربما تجرأ على اتهام الشريعة الإسلامية بالقصور والنقص والرجعية والتخلف للأسف الشديد، كما نراه عند بعض المتأثرين بالأفكار الغربية وأفكار الفلاسفة وأهل الإلحاد الذين يطعنون في الشريعة الإسلامية بحجة عدم صلاحيتها لهذا الزمان، وذلك ناتج عن قصور نظرهم وفهمهم وإدراكهم لمقاصدها وحكمها وعللها، وإلا فإن العبد لا يمكن له أن يزيغ عن هذه المقاصد وهذه العلل والأحكام، فيحكم عليها بالبطلان أو بالضعف وهي علل واضحة جلية لكن لمن نظر بعقل وتدبر وتفهم وتأمل، وإلا فإن هذه الشريعة شريعة الوسطية والاعتدال، جاءت نصوص الشريعة في النهي عن التشدد والغلو واضحة جلية في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فعل الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، لكن هناك أسباب أدت إلى انحراف البعض عن الوسطية والاعتدال إلى أحد طرفيها إما إلى التشدد والغلو، وإما إلى التفريط والتساهل وإلا فإن الشريعة الإسلامية وسطية عدلة في أحكامها لا تميل إلى التشدد والإفراط ولا إلى التساهل وتضييع الأحكام، بل تعطي كل ذي حق حقه، فلو سأل سائل ما هي الأسباب التي أدت إلى انحراف البعض عن الوسطية التي أرادها الله وأرادها النبي الله عليه وسلم؟

 فأقول عدد من الأسباب لعل من أولها، وربما كان هو السبب الإجمالي وما بعده أسباب تفصيلية وقد تكلمت عليه في محاضرة سابقة، وهو عدم ضبط مصادر التلقي الشرعي الصحيحة لما نتكلم عن الوسطية أو عن أي مصطلح شرعي فلابد أن يعلم أن المصطلحات الشرعية تؤخذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي يتكلم عليها أهل العلم ويصفونها بأنها الحقيقة الشرعية، ومصادر التلقي التي تبين طريقة التعامل في أحكام الشريعة هي القرآن والسنة والإجماع الصحيح والقياس الصحيح وأقوال الصحابة وفهم العلماء، فبناء الأحكام على غير المصادر الصحيحة يؤدي ولابد إلى الانحراف عن الوسطية والاعتدال، إما إلى تشدد وغلو ظاهر أو إلى تفريط وتساهل غير مراد، أو مخالف لأحكام التشريع الإسلامي، ومن أراد أن يستقصي حكم مسألة أو أن يبحث في حكم مسألة فلابد أن ينظر في أدلتها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقرآن والسنة وحي مصدرهما واحد فيأتي القرآن مجملا لحكم قد فصلته السنة كأحكام العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج ونحو ذلك، وتأتي الأحكام في القرآن مطلقة فتقيدها السنة، وتأتي الأحكام عامة فتقيدها السنة، كذلك الإجماع يبين ويفسر النص الشرعي في بعض الأحيان، بل قد يكون هناك اتفاق على حكم ما، فجاءت في الشريعة بإلزام الناس بهذا الحكم، كما قال تعالى: ﵟوَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵕﵑﵑﵜ فقوله: ﵟوَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﵞ يخالف إجماعهم، وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أمتي لا تجتمع على ضلالة» ([1]) ، والقياس الصحيح القائم على النظر في العلل والحكم ونقلها إلى الأحكام المشابهة بالشروط والضوابط التي وضعها أهل العلم والنظر كذلك أقوال الصحابة والتابعين دون إغفال لفهم العلماء رحمهم الله تعالى للنص الشرعي، فإن النظر في نص الكتاب والسنة يحتاج إلى أسس وفهم صحيح، ولا يكون ذلك إلا للعالم المتخصص الذين أمر الله عز وجل بالأخذ عنهم فقال: ﵟفَسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ﵞ ﵝالنَّحۡل : ﵓﵔﵜ، والخوارج لما خرجت متشددة متعنتة وقد وضعت الآصار على هذه الأمة، وسفكت الدماء إنما خرجت لجهلها بمصادر التلقي الصحيح، فتراهم يستدلون بآيات نزلت في الكفار كما قال ابن عمر رضي الله عنهما فجعلوها في المسلمين، ولم يعترفوا بإجماع ولا قياس صحيح، وكفّروا الصحابة، ولذلك الذي ينظر في أدلتهم أو في خطبهم يراهم يستدلون بكتاب الله ومن نظر في مناظرة ابن عباس رضي الله عنه  للخوارج قبل معركة النهروان في عهد علي بن أبي طالب رآهم يستدلون بأحكام شرعية، ويلزمونه بأحكام شرعية ففندها وبينها وكشف الشبه التي يقومون عليها، وذلك لما ضبط لهم مصدر التلقي الصحيح، كذلك السنة، السنة منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف، فلابد أن يقوم الحكم على حديث صحيح وضبط طريقة الاستدلال، فقد يكون النص الشرعي صحيحا وثابتا ولكن طريقة الاستدلال غير صحيحة، فإذا لم يضبط المسلم طريقة الاستدلال ضل وانحرف، وبعض من يتجه للاستدلال بالكتاب والسنة على بعض الضلالات تجده غير ضابط للاستدلال الصحيح، بل ربما لم يكن عالما حتى بقراءة النص الشرعي، من فترة يسيرة أقرأ أو أستمع لبعضهم وهو يتكلم على تقرير مسألة تخالف اعتقاد أهل السنة والجماعة، بل تخالف عقيدة المسلمين وما عليه إجماعهم واتفاقهم، وهي عقيدة موروثة عن بعض الملل الشركية وهي ما يسمونها اليوم بعقيدة الكارما المتعلقة بالتناسخ تناسخ الأرواح، وهي عقيدة فاسدة تخالف ما عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم في باب الروح، فهم يعتقدون أن الروح في هذه الملة الوثنية تخرج من الإنسان ثم تدخل في إنسان آخر بعدما يموت أو في حشرة أو في حيوان وتتنعم أو تعذب على حسب ما كان يفعل هذا الإنسان في حياته تسمى بعقيدة الكارما، فهذا الجاهل يسعى إلى إثبات هذه العقيدة مستدلا بكتاب الله سبحانه وتعالى، وإذا به يستدل بقوله تعالى: ﵟمَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵖﵐﵑﵜ ، فيقول هذا قال الله: ﵟمَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ ﵞ هذا التناسخ، وهذا من الجهل على عقول المستمعين، فإن ما استدل به آية صحيحة لكن استدلاله يضحك منه المجانين كما يقال، وإلا فإن النسخ المذكور في هذه الآية لا يتعلق بحكم تناسخ الأرواح كما يدعي هو وأمثاله ممن لا علم لهم بالتشريع بل كان يخطئ في قراءة الآية، كذلك لما ننظر في طريقة الخوارج في الاستدلال في تكفيرهم في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله فإن الله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: ﵟوَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٤٤ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵔﵔﵜ ، وقال: ﵟوَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٥ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵕﵔﵜ ، وقال: ﵟوَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٤٧ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵗﵔﵜ، فأخذوا بقوله تعالى: ﵟوَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٤٤ﵞ وجعلوها هي الأصل الذي انطلقوا منه في تكفير أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون أن ينظروا إلى الضوابط الموجودة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عليه إجماعهم إجماع أهل الإسلام، وطريقة الاستدلال الصحيح لهذه الآية ولهذا الحكم، فتشددوا وانحرفوا عن الصراط المستقيم، وفي المقابل يأتي من يريد التساهل فيفسر القرآن الكريم على غير الطريقة الصحيحة التي وضعت له ويراد منه، فيقول أحدهم نظرت في كتاب الله فلم أجد نصا يدل على تحريم الخمر، ويقول آخر نظرت في كتاب الله فلم أجد نصا يدل على تحريم الزنا لأن الله قال: ﵟوَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵒﵓﵜ وما ذكر تحريم الزنا، وهذا ناتج عن جهله بطرق الاستدلال الصحيح وبكلام العرب والأمثلة في هذا كثيرة جدا، فأول سبب من أسباب الانحراف عن الوسطية والاعتدال التي أرادها الله سبحانه وتعالى: عدم ضبط مصادر التلقي.

 السبب الثاني: الجهل بالعقيدة الصحيحة والجهل بطرق الاستنباط الصحيح، النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف الخوارج قال: «يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم» ([2])  أي: أنهم يقرؤون القرآن دون علم ولا فقه صحيح، فيفسرونه بتفسيرات باطلة يبنون عليها تكفير المسلمين واستحلال دماء المعصومين ومفارقة جماعة المسلمين كما في صحيح البخاري([3]): أن ابن عمر كان يراهم شرار الخلق وأنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه([4]) عن محمد ابن أبي أيوب قال: « حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَقِيرُ، قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ، فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ، ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ: فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ-الجهنميون من هم؟ هم الذين يخرجون من النار بعد الشفاعة وبعد رحمة الله سبحانه وتعالى إلى الجنة- ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ، مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ- يعترض عليه- ؟ وَاللهُ يَقُولُ: "إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ" [آل عمران: 192] وَ"كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا" [السجدة: 20]، فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ؟ -وهذا يرجع إلى السبب الأول الإجمالي وهو عدم ضبط مصادر التلقي أدى بهم إلى وقوعهم في المشتبهات التي لم يردوها إلى المحكمات- قَالَ: فَقَالَ: «أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ فِيهِ -؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ»، قَالَ: ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ، وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ، قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا، قَالَ: فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ، قَالَ: «فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ»، فَرَجَعْنَا قُلْنَا: وَيْحَكُمْ أَتُرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَرَجَعْنَا فَلَا وَاللهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ»، فتأمل كيف أن ضبط العقيدة الصحيحة يؤدي إلى ترك التشدد والرجوع إلى الوسطية والاعتدال التي أرادها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم له لكن الجهل بالعقيدة مصيبة، ولذلك قال معاوية رضي الله عنه كما نقل عنه : « إِنَّهُ قَدِمَ عَلَيَّ أَقْوَامٌ لَيْسَتْ لَهُمْ عُقُولٌ وَلا أَدْيَانٌ، أَثْقَلَهُمُ الإِسْلامُ، وَأَضْجَرَهُمُ الْعَدْلُ، لا يُرِيدُونَ اللَّهَ بِشَيْءٍ، وَلا يَتَكَلَّمُونَ بِحُجَّةٍ، إِنَّمَا هَمَّهُمُ الْفِتْنَةُ وَأَمْوَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاللَّهُ مُبْتَلِيهِمْ وَمُخْتَبِرُهُمْ، ثُمَّ فَاضِحُهُمْ وَمُخْزِيهِمْ» ([5])، مثلا بعضهم يستدل على منع شرب الخمر وقت الصلاة فقط بقوله تعالى: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵓﵔﵜ ، فيقول يدل على أنه يجوز شربها بعد صلاة العشاء، وهذا الشخص جاهل بطرق الاستنباط الصحيح من الأحكام الشرعية لأن هذه الآية كانت في بداية أمر المنع من تناول الخمر، ثم جاء النص مانعا من الخمر في جميع الأوقات والأحيان، قال تعالى: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ﵞ ﵝالمَائـِدَة : ﵐﵙﵜ ، فلا يكفي للاستدلال بالنص كونه ثابتا وصحيحا بل لا بد أن يكون معناه منطبقا على محل الاستدلال، والغاية من تفسير النص الشرعي تفسيرا صحيحا هو صحة الاعتقاد والعمل، ولابد من التفريق بين من يحفظ النص الشرعي أو لديه القدرة على الاطلاع عليه وتحمله وبين من لديه القدرة على تفسيره وفهمه وبيانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا ، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» ([6])  ، والله سبحانه وتعالى يا إخواني الأفاضل أرشدنا خصوصا في مسائل النوازل والأمور المستجدة أن نرجع إلى أهل الاستنباط وأهل الفهم، قال الله عز وجل: ﵟوَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا ٨٣ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵓﵘﵜ، فمن أسباب الانحراف عن العدل والوسطية التي جاءت بها الشريعة الجهل بالعقيدة، والجهل بطرق الاستنباط الصحيح، ومن نظر عند بعض من تأثر بالملاحدة في مسألة معضلة الشر، ولماذا يوجد شر مع وجود إله، فإن هذا ناتج عن عدم معرفته وعن جهله بعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر وجهله بالغاية التي خلقه الله عز وجل لأجلها، وأنه في هذه الدنيا في دار ابتلاء وأن الحياة التي لا شر فيها ولا فتنة هي في الآخرة، ولا تصل إليها إلا بعد التمحيص والابتلاء في هذه الدنيا، فلما جهل هذا دخل في التشدد والغلو والخروج عن الوسطية والاعتدال بأن أنكر وجود الله سبحانه وتعالى، كذلك نرى في هذا الوقت انحراف بعض المسلمين ممن يدعو إلى ما يسمى بالعلاج بالطاقة الريكي وقانون الجذب وقانون السر وما يتفرع عنه من علوم وفروع كاذبة كلها دجل، فإنهم أوتوا من جهلهم بعقيدة الإسلام وتأثرهم بالعقائد الوثنية، فإن هذه العلوم مضادة لعقيدة الإسلام في أصولها، وإنما وقعوا في هذا الانحراف الخطير نتيجة جهلهم بأحكام العقيدة الإسلامية الصحيحة.

 ثالثا من أسباب الانحراف عن الوسطية والاعتدال: الكبر واتباع هوى ورد الحق، قال الله عز وجل: ﵟوَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ٧١ﵞ ﵝالمُؤۡمِنُون : ﵑﵗﵜ و الكبر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، «الكِبْرُ:  غَمطُ النَّاسِ، وبَطَرُ الحَقِّ» ([7])  وما سمي الهوى هوى إلا لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه أن الحكم بالهوى يؤدي إلى الانحراف عن الحق، قال الله عز وجل: ﵟيَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٢٦ﵞ ﵝص : ﵖﵒﵜ ، ومن أسباب دخول الجنة كما أخبر الله عز وجل مخالفة الهوى، قال تعالى: ﵟوَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ ٤٠ فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ ٤١ﵞ ﵝالنَّازِعَات : ﵐﵔ - ﵑﵔﵜ ، فالإنسان المسلم الصادق يكون هدفه شريعة الله سبحانه وتعالى ونصرة الحق واتباع الحق ولو خالف هذا الحق ما عليه من عرف أو عادة أو خالف جماعته التي ينتسب إليها، أو حزبه الذي ينتسب إليه أو ما عليه هو من رأي وتعصب ونحو ذلك، فالحق هو الواجب الاتباع وغيره يرد، ورد الحق من أسباب الانحراف عن الوسطية والاعتدال كما وقع ذلك عند الخوارج.

 تأملوا لما ذهب ابن عباس لمناظرتهم وبين لهم ستة آلاف رجع ألفان وبقي الباقي، يقول الآجري رحمه الله (ت360) في وصف الخوارج: «ويظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس ذلك بنافع لهم؛ لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون، ويموهون على المسلمين، وقد حذرنا الله تعالى منهم» ([8]) .

 رابعا من أسباب الانحراف عن الوسطية والاعتدال: ترك فهم السلف للنص، يقول ابن تيمية رحمه الله: «الذي يجب على الإنسان اعتقاده في ذلك وغيره ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفق عليه سلف المؤمنين الذين أثنى الله تعالى عليهم وعلى من اتبعهم وذم من اتبع غير سبيلهم» ([9]) ، فإن قال قائل ما سبب اعتبار فهم السلف للنصوص الشرعية فهمها والعمل بها؟ نقول أمور:

 أولا: ثناء الله والنبي صلى الله عليه وسلم عليهم، قال الله عز وجل: ﵟوَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٠٠ﵞ ﵝالتَّوۡبَة : ﵐﵐﵑﵜ دلت الآية على الثناء على من اتبع الصحابة رضوان الله عليهم والاتباع يشمل اتباعهم في الاعتقاد والفهم والعمل، فهذا الثناء يلزم منه صحة ما كانوا عليه من ذلك، وقال الله عز وجل: ﵟوَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵕﵑﵑﵜ، وقد شهد الله سبحانه وتعالى للصحابة بالإيمان فعلم قطعا أنهم داخلون في الآية، فمخالفة طريقهم سبب لمشاقة الرسول واستحقاق الوعيد، وقال صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»([10]) .، قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين:  «فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن خير القرون قرنه مطلقا، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير» ([11]) .

ثانيا: سلامة مصادرهم في التلقي، فقد تلقوا النص الشرعي بتجرد وتسليم تام دون أن يشوب هذا التلقي أي شبهة.

ثالثا: هم أعلم الناس بلغة القرآن الكريم فكانوا أفهم له من غيرهم، يقول الشاطبي رحمه الله في الموافقات: «ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين -يعني الصحابة والتابعين- أحدهما معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده من هذه الجهة.

 والثاني مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة، فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب» ([12])، ولذلك نقول يقع الخطأ والانحراف في تفسير النص الشرعي إذا أهمل جانب فهم السلف رحمهم الله تعالى للنص الشرعي، كما هو الحال عند الخوارج الذين فهموا نصوص الحكم وغيرها بناء على أهوائهم هم، وليس بناء على ما ورد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبالطريقة التي فهمها الصحابة والتابعون، يقول ابن تيمية رحمه الله: «ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا» ([13]) ، أعطيكم مثالا: عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت إليه»([14])، فانظر إلى سعة علمهم وهذا واحد من الصحابة فكيف باتفاقهم أو اتفاق أغلبهم.

 ابن عباس رضي الله عنه لما ناظر الخوارج استدل عليهم بهذا الفهم فقال: «جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله» ([15]) ، هذا يدلك على اعتبار فهم الصحابة والتابعين لنصوص الكتاب والسنة، وأن في اتباعهم اتباع للوسطية والاعتدال.

 كذلك من أسباب الانحراف عن الوسطية والاعتدال: التسرع في التكفير كما هي صفة أهل الخوارج، والتكفير شأنه عظيم، وقد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وبين شره وأثره على العباد وأن من أطلق لسانه في الناس بالتكفير رجع عليه وباء بذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج الذين تسرعوا في تكفير الناس قال: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ» ([16])  ، فيرون المسلمين مرتدين، ووصل بهم الأمر إلى تكفير الصحابة فقتلوا عثمان رضي الله عنه، واستحلوا المدينة وقتلوا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، والذي قتله حافظ لكتاب الله الذي قتل علي ابن أبي طالب رجل حافظ لكتاب الله حتى أنه قتله وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه يوقظ الناس لصلاة الفجر كان في طاعة وفي عمل خير، وكان هذا القاتل الخارجي يقرأ قول الله تعالى: ﵟوَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵗﵐﵒﵜ، ويقول شاعر الخوارج في مدح هذا الخارجي القاتل:

يا ضربة من تقيٍّ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

  وهم شر الخلق والخليقة، التسرع في التكفير من أسباب الانحراف عن الوسطية والاعتدال، والأصل إثبات الإسلام للمسلم وما ثبت بيقين لا يزول بشك، والتكفير له ضوابطه وأصوله التي يرجع فيها إلى العلماء الكبار، وليست وليس إلى أفراد الناس.;.;.

 كذلك من أسباب الانحراف عن الوسطية والاعتدال: تمجيد أهل البدع والانحراف، أهل البدع أهل زيغ حذرنا منهم الله سبحانه وتعالى، وحذرنا منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الأئمة المضلون الذين يضلون الناس عن اتباع الحق ويدعونهم إلى اتباع الباطل والشر، قال صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون»([17]) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»([18]) ، فينبغي الحذر من أصحاب البدع والانحراف ولو أظهروا التعبد وأظهروا الزهد، فالاجتهاد في العبادة لا يلزم منه صحة المعتقد ولا صحة المنهج ولا صحة الديانة ولا حتى حسن العاقبة يوم القيامة، الخوارج وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعبادة العظيمة، ومع ذلك أخبر أنهم يمرقون من الدين وأنه لو أدركهم لقتلهم ولم يبق منهم أحدا، وأنهم شر الخلق والخليقة وأنهم كلاب النار في الآخرة والعياذ بالله، ومع ذلك قال عنهم: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»([19])  ، فأساس الاستقامة وأصلها التزام عقيدة السلف الصالح؛ لأنها الفهم الصحيح لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 وهنا أنا أقول: تزكية بعض المنحرفين عن الوسطية والاعتدال خطأ فادح وغش للمسلمين، بعض الناس قد يزكي بعض أهل الانحراف لجهل فيه، نقول له إذا كنت جاهلا بأحوال هؤلاء الدعاة فلا تتصدى لتزكيتهم واترك الأمر لمن يعلم وأحل على من يعلم، أما تمجيدك لبعض أهل البدع والانحراف ونصح الناس بالحضور لهم والاستماع لهم فهذا غش، كمن ينصح بكتب سيد قطب أو الاطلاع على كتاب الظلال سواء كان للمتخصصين أو لغير المتخصصين، فإنه كتاب الأصل أن يحرق لأنه كتاب شبهات، وكذلك تمجيد والثناء على بعض من يصاحب أهل التكفير ويكون غير واضح في منهجه وسلوكه بل مصاحبا لأهل البدع والمنحرفين عن الاعتدال والوسطية، فأمثال هؤلاء لا يثنى عليهم يخرج في القنوات مع التكفيريين وأصحاب الثورات، ثم أنت تثني عليه خيرا لأنه كان من تلاميذ الشيخ الفلاني والشيخ العلاني هذا منهج خاطئ، فمن أسباب الانحراف عن الوسطية والاعتدال تمجيد أهل البدع والانحراف.

 كذلك من أسباب الانحراف عن الاعتدال والوسطية: الطعن في العلماء واتهامهم بالمداهنة، العلماء أقصد علماء أهل السنة والجماعة الذين يبينون الأحكام الشرعية والطعن فيهم طعن في علمهم، وطعن في طريقتهم، وذلك تجد الخوارج طعنوا في الصحابة رضوان الله عليهم، وأهل الانحراف اليوم من الأئمة المضلين يطعنون في العلماء يطعنون في الشافعي في أحمد في مالك في أبي حنيفة، يطعنون في علماء هذه الأمة في هذا الزمان، ويتهمونهم بالتناقض وبالمداهنة وبأنهم علماء السلاطين وعلماء الحيض والنفاس، فهذا كله يؤدي للانحراف عن الاعتدال والوسطية.

 كذلك من أسباب الانحراف عن الوسطية والاعتدال: البدع والإحداث في الدين، ولذلك حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة»([20]) ، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه لما وقف على أصحاب تلكم الحلق يسبحون مئة ويكبرون مئة ويهللون مئة قال: والله ما أراكم إلا من أولئك القوم -الذين هم الخوارج-، يقول الراوي: فرأينا عامة أولئك القوم يطاعنون يوم النهروان مع الخوارج([21]) .

 كذلك من أسباب الانحراف عن الوسطية والاعتدال: الغلو والتعصب وتضييع الأولويات وغير ذلك من هذه الأسباب.

 أخيرا أختم بقول تيمية رحمه الله قال: « ثم من طريقة أهل السنة والجماعة: اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"، ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة» ([22]) .

 أكتفي بهذا القدر، وفقني الله وإياكم لكل خير وإلى لقاء قريب بإذن الله.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


 

([1]) رواه ابن ماجه (3950).

([2]) رواه البخاري (3344)، ومسلم (1064).

([3]) باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم.

([4]) رقم (191).

([5]) الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/514).

([6]) رواه الترمذي (2656)، وأبو داود (3660)، وابن ماجه (230).

([7]) رواه مسلم (147).

([8]) الشريعة (1/325).

([9]) مجموع الفتاوى (12/235).

([10]) رواه البخاري (2651)، ومسلم (2535).

([11]) إعلام الموقعين (4/104).

([12]) الموافقات (3/338).

([13]) مجموع الفتاوى (13/362).

([14]) رواه البخاري (5002)، ومسلم (2463).

([15]) جامع بيان العلم وفضله (1834).

([16]) رواه البخاري (3344)، ومسلم (1064).

([17]) رواه أحمد (27485).

([18]) رواه البخاري (7084)، ومسلم (1847).

([19]) رواه البخاري (5058)، ومسلم (1064).

([20]) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676).

([21]) الأثر في سنن الدارمي (210).

([22]) مجموع الفتاوى (3/157).