التوبة حكمها وأحكامها
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أما بعد:
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ١}[النساء: 1].
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ٧١} [الأحزاب: 70- 71].
* أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
نحمد الله عز وجل على نعمة الإِسْلَامِ ونسأل الله عز وجل أن يرزق الجميع الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل ذلك في موازين أعمالنا يوم القيامة.
* محاضرة اليوم بعنوان: (التَّوْبَةُ حكمها وأحكامها)، إن من أسماء الله عز وجل الحُسْنَّىٰ "التواب" فالله عز وجل يقول: {فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ٣٧} [البقرة: 37]، وهو عز وجل التواب الرحيم الذي يسرَّ أسباب التَّوْبَةُ لعباده مرة بعد أخرى بما يظهر لهم من آياته، ويسوق إليهم من تنبيهاته حتى إذا اطلعوا وعرفوا غوائل الْذُّنُوبِ، استشعروا الخوف بتخويفه، فرجعوا إلى التَّوْبَةُ، فرجع إليهم فضل الله عز وجل التواب بالقبول، فالعبد تائبٌ والله توابٌ، وإذا تاب الله على الْعَبْدُ، وفّقه للتوبة، فتاب العبد، ثم قبل الله توبته وغفر ذنبه: {فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ٣٧} [البقرة: 37].
وهو سبحانه وتعالى التواب الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين سمى الله عز وجل نفسه توابًّا؛ لأنه خالق التَّوْبَةُ في قلوب عباده الذي يسرَّ لهم أسبابها، ولمّا كانت المعاصي متكررةً من العِبَادِ، جاء بصيغة المبالغة تواب ليقابل الخطايا الْكَثِيرَةِ، والذنوب العظيمة بالتوبة الواسعة الدائمة، ووصف تبارك وتعالى نفسه بالتوَّاب مبالغةً لكثرة من يتوب إليه من العباد في مشارق الأرض ومغاربها، ولتكرره ذلك في الشخص الواحد تنوّع الذنوب واختلافها: {وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10].
وهو سبحانه التواب الذي تفرّد بقبول توبة التائبين من عباده لا يشركه في ذلك أحدٌ من خلقه لا يغفر الذنوب والخطايا إلا هُوَ، ليس لأحدٍ غير الله عز وجل قدرةٌ على خلق التَّوْبَةُ في قلب أحدٍ من الناس، فكم تاب عز وجل على التائبين، وكم غفر من ذنوب المستغفرين؛ فهو سبحانه وتعالى التواب الرحيم، التَّوْبَةُ واجبةٌ على كل عبدٍ من جميع الْذُّنُوبِ، وهي ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرّط مِنْهُ، والعزم على ترك العود إليه وتدارك ما فاته من الأعمال بالإعادة وردُّ المظالم والحقوق لأهلها أفضل الناس أحسنهم قياماً بالتوبة وبتكرارها والإكثار مِنْهَا.
فإذا تخلَّ العبد عنها صار ظالمًا لنفسه؛ فالناس رجلان "تائبٌ وظالمٌ لا ثالث لَهُمَا": {وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ١١} [الحجرات: 11]، والله عز وجل أمرنا بالتوبة علّق بها الفلاح، فقال سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٣١}[النور: 31].
التَّوْبَةُ لا يستغني عنها أحدٌ من الخلق؛ لأنها ليست نقصًا، بل هي من الكمال الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به سبحانه وتعالى فالله عز وجل يبتلي عبده المؤمن بما يتوق منه ليحصل له بذلك تكميل العبودية والتضرع والخشوع لله والإنابة إليه، فلا يكمل أحدٌ، ويحصل له كمال القرب من الله، ويزول عنه ما يكره إلا بالتوبة والله يحب التوابين كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة: 222].
ومن هنا تأتي أهمية هذا الْمَوضُوعْ؛ وهو عنوان المحاضرة الكلام عن التَّوْبَةُ، وعن حكم التَّوْبَةُ، وعن بعض آداب، وأحكام ومسائل التَّوْبَةُ، نتكلم بعد هذه المقدمة عن تعريف التَّوْبَةُ لغةً وشرعاً، ومن أي شيء تكون التَّوْبَةُ، ونعلم يقينًا بالأدلة بأنّ باب التَّوْبَةُ مفتوحٌ بفضل الله عز وجل ورحمته نذكر بعض فضائل التَّوْبَةُ، وبعض أسرارها من خلال هذه الْمُحَاضَرَّةِ، فنسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم لما نسمع من كلام ربنا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نذكره من كلام أهل العلم .
* التَّوْبَةُ في لسان العرب تدور حول عدة معاني مِنْهَا: (الرجوع، العودة، الإنابة، الندم)، التَّوْبَةُ تكون من الله على الْعَبْدُ، وتكون من العبد إلى الله؛ فإذا كانت من الله عُدّيت بحرف الجر "على"، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} [النساء: 17]، التَّوْبَةُ تكون من الله على العبد، فإذا كانت من الله عُدّيت بحرف الجر "على"، كما في الآيَةِ، وإذا كانت من العبد إلى الله عُدّيت بحرف الجر إلى كما قال عز وجل: {وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٣١}[النور: 31].
وقال عز وجل: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَإِنَّهُۥ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتَابٗا٧١} [الفرقان: 71]، فهذه التَّوْبَةُ من العبد إلى الله عز وجل أما التَّوْبَةُ في الشَّرْع، فيمكن أن تعرَّف بتعريفٍ إجمالي أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين)، وذكره أيضًا الحافظ ابن حجر في فتح الباري المجلد الحادي عشر يمكن أن تعرّف التَّوْبَةُ بأنها "ترك الذنب علمًا بقبحه، وندمًا على فعله، وعزمًا على أن لا يعود إليه إذا قدر، وتداركًا لما يمكن تداركه من الْأَعْمَالِ، وأداءً لَمَّا ضُيّع من الفرائض إخلاصاً لله ورجاءً لثوابه وخوفاً من عقابه"، هذا تعريفٌ شاملٌ للتوبة، وتكون التَّوْبَةُ قبل الغرغرة حَشْرَجَة الروح في الصدر حال الاحتضار، وبداية سياق الموت إلى هنا تُقبل التَّوْبَةُ.
فإذا حصلت الغرغرة لا تُقبل التَّوْبَةُ بعد ذلك، وقبل طلوع الشمس من مغربها كما هو معلومٌ في آخر الْزَّمَانِ، ومن علامات الساعة الْكُبْرَىٰ، هناك تَعْرِيْفٌ ذكره ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين تعريفٌ للتوبة يجمع شروط التَّوْبَةُ، نعلم من خلال هذا التعريف شروط التَّوْبَةُ قال ابن القيم رحمه الله: "حقيقة التَّوْبَةُ هي الندم على ما سلف منه في الماضي والإقلاع عنه في الحال، والعزم عن أن لا يعاوده في المستقبل"، وعرّفها أيضًا ابن القيم في موضع آخر من مدارس السالكين في المجلد اَلْأَوَلُ، قال: "حقيقة التَّوْبَةُ الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يجب وترك ما يُكره؛ فهي رجوعٌ من مكروه إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزء مسمّاها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر"، هكذا ذكر.
* فخلاصة كلام أهل العلم في تعريف التَّوْبَةُ هي الندم على ما سلف من الْذُّنُوبِ، والإقلاع عنها في الحال، والعزم عن أن لا يعود إِلَيْهَا المستقبل إلى المَعَاصِيَ، مسألة مُهِمَة من أي شيءٍ تكون التَّوْبَةُ؟ التَّوْبَةُ: تكون من الْذُّنُوبِ صغيرها وكبيرها، لابد للتائب من معرفة ما يُتاب مِنْهُ، ولو على سبيل الإجمال.
فذكر أهل العلم استنباطًا من أدلة الشرع بعض الذنوب والمعاصي والأفعال تكون التَّوْبَةُ منها وابن القيم رحمه الله عقد فصلًا في كتابه مدارج السالكين قال: "فصلٌ في أجناس ما يُتاب منه"، ثم قال: "ولا يستحق العبد اسمَ التائب حتى يتخلص منها"، قال: "وهي اثنا عشر جنسًا مذكورةٌ في كتاب الله عز وجل هي أجناسٌ محرّمات: الكفر، والشرك، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والإثم، والعدوان، والفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول على الله بغير علم، وإتباع غير سبيل المؤمنين".
هذا جنس ما يُتاب مِنْهُ، جمعها في هذا المكان في كتابه مدارج السالكين اثنا عشر عليها، قال: "فهذه لاثنا عشر عليها مدار كل ما حرّم الله، وإليها انتهاء العالم بأسرهم إلا أتباع الرسل صَلَوَاتُ الله وَسَلَامُهُ عليهم، وقد يكون في الرجل أكثرها وأقلها، هذه الأجناس الاثنا عشر، قال: وقد يكون في الرجل أكثرها وأقلها أو واحدة منها، وقد يعلم ذلك، وقد لا يعلم".
فالتوبة النصوح يقول: "هي بالتخلص منها، والتحصن من مواقعتها، وإنما يمكن التخلص منها لمن عرفها"، انتهى كلامه في مدارج السالكين في المجلد الأول ثلاثمائة وأربع وأربعون.
إذًا نعيدها قال: من أي شيء تكون التَّوْبَةُ؟ قال: اثنا عشر جنسا مذكورة في كتاب الله هي أجناسٌ محرّمات : الكفر بنوعيه، والشرك بأنواعه، والنفاق بنوعيه، والفسوق، والعصيان، والإثم، والعدوان، والفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول على الله بغير علم، وإتباع غير سبيل المؤمنين، سبيل المؤمنين هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، هذا هو سبيل المؤمنين في فهم الإسلام، فإتباع غير هذا السبيل معصيةٌ تجب التَّوْبَةُ مِنْهَا، وهي من أجناس المَعَاصِيَ، أجناس المحرمات التي ذكرها ابن القيم رحمه الله هنا، إتباع غير سبيل المُؤْمِنِيْنَ؛ فمن لم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في فَهُمْ الإِسْلَامِ، في منهج الصحابة رضي الله عنهم في فَهُمْ الإسلام، فقد خالف سبيل المؤمنين .
* نذكر أيضا مسألةً مُهِمَة، ونبيّن بالأدلة أن باب التَّوْبَةُ مفتوح، فتح الله عز وجل باب التَّوْبَةُ حيث أمر بها، وحضَّ عليها، ووعد بقبولها سواءً كانت هذه التَّوْبَةُ من الكفار أو المشركين أو المنافقين أو المرتدين أو الملاحدة أو الظالمين أو العصاة المقصرين، باب التَّوْبَةُ مفتوحٌ لهم بأمر الله عز وجل وبفضله ورحمته.
* ومن الأدلة على أن باب التَّوْبَةُ مفتوحٌ لِلْجَمِيْع، أولًا: أنّ الله عز وجل أمر بالتوبة فقال عز وجل:
{وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَأَسۡلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلۡعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ٥٤} [الزمر: 54]، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الرابعة والخمسين من سورة الزمر، قال: "أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب، ثم لا تُنصرون أي بادروا بالتوبة، والعمل الصالح قبل حلول النقمة"، هذا كلام ابن كثير رحمه الله.
* من الأدلة على أن باب التَّوْبَةُ مفتوح أنّ الله عز وجل وعد بقبول التَّوْبَةُ مهما عظمت الذنوب فقال عز وجل: {وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ ٢٥} [الشورى: 25]، ويقول عز وجل: {وَمَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا أَوۡ يَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ يَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ١١٠} [النساء: 110]، ثم قال عز وجل محرضًا للناس على التَّوْبَةُ: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسۡتَغۡفِرُونَهُۥۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٧٤} [المائدة: 74]، وقال عز وجل في حق أصحاب الأخدود الذين خدّوا الأخاديد لتعذيب المُؤْمِنِيْنَ، وتحريقهم بالنار، قال عز وجل: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَتُوبُواْ فَلَهُمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمۡ عَذَابُ ٱلۡحَرِيقِ ١٠} [البروج: 10].
قال الحسن البصري رحمه الله: "انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أوليائه، وهو يدعوهم إلى التَّوْبَةُ والمغفرة"، ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية من سورة البروج الآية العاشرة كذلك من الأدلة عل أن باب التَّوْبَةُ مفتوحٌ للجميع أنّ الله عز وجل حذّر من القنوط من رحمته فقال عز وجل: {قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٥٣}[الزمر: 53].
يقول ابن تيمية رحمه الله في هذه الآية المقصود بِهَا: "النهي عن القنوط من رحمة الله، وإن عظمت الذنوب وكثرت، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يقنط من رحمة الله ولا أن يقنّط الناس من رحمته"، لذا قال بعض السَّلَف: "وإنّ الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرأهم على معاصي الله"، والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له هكذا يقول ابن تيميه يقول: "والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له، إما لكونه إذا تاب لا يقبل توبته، ويغفر ذنوبه، وأما بأن يقول نفسه لا تطاوعه على التَّوْبَةُ، بل هو مغلوبٌ مَعَهَا، والشيطان قد استحوذ عَلَيْهِ؛ فهو ييأس من توبة نفسه، وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له وهذا يغري كثيرًا من الناس"، انتهى كلامه كما في كتاب الاستقامة لابن تيميه في المجلد الثاني مائة وتسعون .
ومن الأدلة أيضًا على أن باب التَّوْبَةُ مفتوح للجميع أنّ الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار كما يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَبِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»([1])، والحديث رواه مسلم في صحيحه ألفان وثمانمائة وتسعة وخمسون، وكذلك أيضًا من الأدلة على أن باب التَّوْبَةُ مفتوح أن الله عز وجل رتَّبَ الثواب الجزيل على التَّوْبَةُ، ووعد من تاب بالخير الكثير.
وهذا نتكلم عنه في هذه المسألة فضائل التَّوْبَةُ وأسرارها، للتوبة فضائل جمّة، وفوائد متعددة؛ فإذا عَلم العبد المؤمن هذه الفضائل، وهذه الفوائد أقبل على التَّوْبَةُ مخلصًا لله عز وجل ليتوب الله عز وجل عليه، فمن فضائل وفوائد التَّوْبَةُ، أولًا: أنّ التَّوْبَةُ سببٌ للفلاح، قال عز وجل: {وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٣١}[النور: 31]، قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره لهذه الآيَةِ الْوَاحِدِ والثلاثين من سُورَة النور، "لعلكم تفلحون قال: تفوزون بذلك بسعادة الدارين".
إذاً من فضائل وفوائد التَّوْبَةُ أنّ بالتوبة تُكفّر السيئات، فإذا تاب العبد توبة نصوحًا كفّر الله به جميع ذنوبه وخطاياه، مهما فعل، قال عز وجل: {قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٥٣}[الزمر: 53]، فبالتوبة تُكفّر السيئات جميعًا، والله عز وجل يقول: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ}[التحريم: 8] .
إذا من فضائل وفوائد التَّوْبَةُ: أنها تكفّر السيئات، أيضًا ثالثًا من فضائل التَّوْبَةُ: بالتوبة تُبدّل السيئات حسنات، فإذا حسُنت التَّوْبَةُ بدّل الله سيئات صاحبها حسنات؛ وذلك فضل من الله وتكرم نسأل الله عز وجل من فضله وكرمه، قال الله عز وجل: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٧٠} [الفرقان: 70]، تبديل السيئات حسنات من فضائل وفوائد التَّوْبَةُ.
يقول ابن القيم رحمه الله في هذه الآيَةِ، الآيَةِ السبعون من سُورَة الفرقان: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٧٠} [الفرقان: 70]، قال ابن القيم رحمه الله في هذه الآية: وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اختارنا بتوبتهم إيمانٌ وعملٌ صَّالِحْ؛ وهو حقيقة التَّوْبَةُ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أُنزلت وفرحوا بنزول: {إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١ لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1، 2]"، انتهى كلام ابن القيم رحمه الله كما في مدارج السالكين في المجلد الأول ثلاثمائة وعشرة.
أيضًا من فضائل وثمرات التَّوْبَةُ أنّ الله عز وجل يحب التَّوْبَةُ والتوابين وعبودية التَّوْبَةُ من أحبُّ العبوديات إلى الله عز وجل وأكرمها؛ فإنه سبحانه وتعالى يحب التوابين، كما قال عز وجل: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، كذلك من فضائل التَّوْبَةُ أن الله عز وجل يفرح بتوبة التائبين، فللتوبة عنده عز وجل منزلةٌ ليس لغيرها من الطاعات، ولهذا يفرح سبحانه وتعالى بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرحٍ يُقدّر كما مثله النبي صلى الله عليه وسلم بفرح الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعدما فقدها، وآيِس أسباب الْحَيَاةِ.
فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفقٍ عليه: «لَلَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وبِهِ مَهْلَكَةٌ، ومعهُ راحِلَتُهُ، عليها طَعامُهُ وشَرابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنامَ نَوْمَةً، فاسْتَيْقَظَ وقدْ ذَهَبَتْ راحِلَتُهُ، حتَّى إذا اشْتَدَّ عليه الحَرُّ والعَطَشُ أوْ ما شاءَ اللَّهُ، قالَ: أرْجِعُ إلى مَكانِي، فَرَجَعَ فَنامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فإذا راحِلَتُهُ عِنْدَهُ»([2])، فالله عز وجل أفرح بتوبة العبد من هذا الرجل.
قال ابن القيم رحمه الله تعليقًا على هذا الحديث: "ولم يجيء هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التَّوْبَةُ، ومعلومٌ أنّ لهذا الفرح تأثيرًا عظيمًا في حال التائب وقلبه ومزيده لا يُعبّر عَنْهُ، وهو من أسرار تقدير الذنوب على العِبَادِ؛ فإن العبد ينال بالتوبة درجة المحبوبية، فيصير حبيباً لله؛ فإن الله يحب التوابين، ويحب العبد التواب"، انتهى كلام ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين المجلد الأول صفحة ثلاثمائة وستة.
هذا ما أردنا أن نذكره من خلال هذه الْمُحَاضَرَّةِ، والكلام عن التَّوْبَةُ يطول ويطول، ويكفي ما علمنا بأن من أسماء الله عز وجل الحسنى التواب سبحانه وتعالى فهو عز وجل التواب الرحيم سبحانه وتعالى هو الذي تفرّد بقبول توبة التائبين من عباده لا يشركه في ذلك أحدٌ من خلقه ولا يغفر الذنوب والخطايا إلا هو سبحانه وتعالى، وليس لأحدٍ غير الله سبحانه وتعالى قدرةً على خلق التَّوْبَةُ في قلبِ أحدٍ من الناس؛ فهو التواب الرحيم سبحانه وتعالى وهو سبحانه الوهَّابُ لعباده إنابة إلى طاعته عز وجلالذي أمرنا بالتوبة، وعلّق بها الفلاح فقال عز وجل: {وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٣١}[النور: 31].
الله عز وجل يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه ليحصل له بذلك تكميل العبودية، والتضرع والخشوع والإنابة، فلا يكمل أحدٌ ويحصل له كمال القرب من الله ويزول عنه ما يكره إلا بالتوبة إلى اللهعز وجل والله عز وجل يحب التوابين.
علمنا من خلال هذه المحاضرة تعريف التَّوْبَةُ، ومن أي شيء تكون التَّوْبَةُ، وذكرنا الأدلة على أن باب التَّوْبَةُ مفتوح، وذكرنا شيئاً من فضائل وأسرار وثمرات التَّوْبَة، نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا وعليكم، نسأله عز وجل أن يجعلنا من التوابين الذين يحبهم سبحانه وتعالى كما نسأله عز وجل أن يفقهنا وإياكم في دِيْنَنَا، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوءٍ وفتنه، أسأله عز وجل أن يوفّق ولاة أمورنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقهم البطانة الْصَّالِحَة، اللهم رَبَّنَا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النَّار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .