النظام الاقتصادي في الإسلام


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله لا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، أما بعد.

فإن دين الإسلام دينٌ شامل لجميع أمور حياة الناس، ففي دين الإسلام نظامٌ ومنهجٌ لعقيدة المسلم ولعبادته ومعاملاته وأخلاقه وآدابه وسلوكه، وفي شأنه كله، فلتوحيد والإيمان منزلة سامية في الإسلام، ومنهج واضح، كما أن للعبادة والمعاملة منزلة في الإسلام للأخلاق والسياسة والمجتمع نظام في الإسلام.

كما أن في الإسلام نظام اقتصادي له مفهومه ومصادره وأهدافه وخصائصه وأسسه، نذكر من خلال هذه الكلمات مفهوم النظام الاقتصادي في الإسلام، مصادر هذا النظام، أهداف النظام الاقتصادي في الإسلام، ما هي خصائصه ومميزاته التي تُميزه عن غيره من أنظمة الاقتصاد في العالم؟ ما هي أسس هذا النظام الاقتصادي؟

الاقتصاد في لسان العرب: أصل هذه الكلمة مادة (قصد)، قصد يقصد قصدًا، والقصد يُطلق على معانٍ منها: العدل، استقامة الطريق، القرب، الاعتدال، التوسط، السهولة، جاءت هذه المعاني في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الاقتصاد قريب من القصد، فمن معانيه التوسط في الأشياء، الاعتدال فيها هذا هو مضمون علم الاقتصاد، وهذا الذي نصت عليه الآيات القرآنية في العديد من المواضع كما في قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ ‌لَمۡ ‌يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} [الفرقان: 67]، وهكذا قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ ‌وَلَا ‌تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} [الأعراف: 31].

كما أن هذا المعنى هو الذي استعمله العلماء في تعريفهم لمصطلح الاقتصاد، حيث أرادوا به التوسط والاعتدال بين الإسراف والتقتير، هذا في اللغة، في لسان العرب.

أما تعريف النظام الاقتصادي في الإسلام؛ فهو مجموعة الأحكام والسياسات الشرعية التي يقوم عليها المال وتصرف الإنسان فِيهِ؛ الأحكام الشرعية، مجموعة الأحكام الشرعية التي جاءت في الكتاب والسنة من الحلال والحرام والمكروه والمستحب والمباح.

والسياسات الشرعية؛ أي ما يفعله السلطان ولي الأمر، أو تسنه الدولة من نظم وتشريعات يُقصد بها تنظيم أحوال المجتمع وتعاملهم فِيهِ، وتكون غير معارضة لأحكام الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

إذًا النظام الاقتصادي في الإسلام: مجموعة الأحكام والسياسات الشرعية التي يقوم عليها المال، المال الذي له منفعة مقصودة مباحة، له قيمة مادية بين الناس، التي يقوم عليها المال وتصرف الإنسان فِيهِ؛ تصرف الإنسان في المال كإنفاقه أو بيعه، ونحو ذلك من التصرفات المالية، هذا هو تعريف النظام الاقتصادي في الإسلام: "مجموعة الاحكام والسياسات الشرعية التي يقوم عليها المال وتصرف الإنسان فيه، في هذا المال".

أما مصادر النظام الاقتصادي الإسلامي؛ فهي مصادر الدين الإسلامي، يستمد النظام الاقتصادي الإسلامي قواعده من مصادر الدين الإسلامي؛ وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع؛ اتفاق المجتهدين من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بعد عصر النبوة على حكم شرعي، والرابع من مصادر النظام الاقتصادي الإسلامي القياس: إلحاق فرع بأصل في الحكم لجامع بينهما.

ومن أمثلة قياس الأوراق النقدية المتداولة الآن: كالدراهم والريالات والجنيهات والدولارات على العملة النقدية الموجودة في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وهي الدينار الذهبي، والدرهم الفضي بجامع أن العلة واحدة، وهي التنمية.

أيضًا من مصادر النظام الاقتصادي الإسلامي بعد القرآن والسنة والإجماع والقياس: قاعدة أصلٌ: (سد الذرائع)، منع الوسائل المباحة التي تؤدي إلى مفاسد.

كذلك مِنْ مصادر النظام الاقتصادي الإسلامي: العرف والقوانين والتشريعات، كل ما تعارف عليه الناس وألفوه حتى أصبح شائعًا، في حياتهم، فإذا كان هذا العرف شائعًا بين أهله ولم يُخالف نصًا شرعيًا، فإنه يكون معتبرًا إلا إذا صرح المتعاقدان على خلافه بالشروط.

ومن الأمثلة على الأخذ بالعرف في الجانب الاقتصادي: نفقة الزوج على زوجته وأبناء، حيث يرجع في تحديد مقدار النفقة إلى العرف، الله عَزَّ وَجَلَّ قال: {وَعَلَى ‌ٱلۡمَوۡلُودِ ‌لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ} [البقرة: 233]؛ كم النفقة؟ يُحددها العرف، النفقة على الزوجة وعلى الأولاد، فالأخذ بالعرف في الجانب الاقتصادي، إذًا العرف من مصادر النظام الاقتصادي الإسلامي.

فنأخذ اقتصادنا الإسلامي: من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وسد الذرائع، والعرف؛ التشريعات وقوانين التي لا تُخالف الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

هناك أصول اعتقادية للاقتصاد الإسلامي، لكل نظام اقتصادي في العالم أصوله، وقواعده الفكرية التي يؤمن بها، إذا كان النظامان الرأسمالي والاشتراكي ينطلقان من قاعدة اعتقادية واحدة هي المادية، أو تقديس المال، فإن النظام الاقتصادي الإسلامي يختلف عنهما: حيث يقيم أصوله الفكرية على قاعدة أعظم وأهم، بل هي الأصل لكل جوانب الحياة، ألا وهي: قاعدة الإيمان.

الإيمان الركيزة الأولى لكل جوانب الاقتصاد الإسلامي ومجالاته، فهو في حقيقته وجوهره هذا الاقتصاد الإسلامي فرع من فروع عقيدة الإيمان، مهمته أن يحمي هذه العقيدة، ويُعمق شعورها، ويُعمق جذورها، وينشر نورها، ويُحقق أهدافها في واقع الحياة، هذا أمر مهم.

حقيقة الاقتصاد الإسلامي أن يحمي عقيدة الإيمان عند المسلم، أن يعمق جذورها، يضع الصورة العملية التي تُعبر عنها، تحقق أهدافها في حياة الناس؛ لذلك نجد الله عَزَّ وَجَلَّ يُوجه الخطاب إلى الذين آمنوا في سائر الأحكام الشرعية، ومنها أحكام المعاملات والاقتصاد، فالله عَزَّ وَجَلَّ يقول في آيات الربا يقول: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ ‌مَا ‌بَقِيَ ‌مِنَ ‌ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} [البقرة: 278]، فوجه الخطاب إلى عباده المؤمنين طالبًا منهم تقواه، وذلك بتركهم الربا إن كانوا مؤمنين حقًا.

وفي آخر هذه آيات الربا أعاد الأمر بتقواه، والتحذير من عقوبته في الدار الآخرة، قال: {وَٱتَّقُواْ ‌يَوۡمٗا ‌تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} [البقرة: 281]، في أواخر آيات الربا، فعقيدة الإيمان هو الركيزة الأولى لكل جوانب الاقتصاد الإسلامي، مما يعني أن الالتزام بهذا النظام الاقتصادي في أساسه هو التزام عقدي إيماني.

المسلم حين يلتزم بهذه الأوامر والنواهي من إيتاء الزكاة، وبذل الصدقات، وترك الربا، والغش، والرشوة إلى آخره، فإن المسلم إنما يلتزم بها؛ لأنها من عند الله عَزَّ وَجَلَّ، هو يُدرك في قرارة نفسه أنها خير له في عاجل أمره وآجله، ارتباط الاقتصاد الإسلامي بالعقيدة يظهر في علاقته المباشرة بأركان الإيمان؛ خاصة الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالقدر خيره وشره؛ لأن المسلم يُؤمن بأن الله مطلع عليه في كل ما يأتي، وما يذر، يؤمن بأن الدنيا مزرعة الآخرة، وأنه مجازى في الآخرة على كل عمل.

يؤمن بأنه لن يأتيه من الرزق إلا ما قدره الله له، ومن هنا ترى المؤمن يأخذ بالأسباب المشروعة يبذل جهده في تحصيل الرزق راضيًا بما قسم الله له، غير متسخط ولا جازع مما يُصيبه من خسارة بعد فعل الأسباب؛ لأنه يرضى بما قسمه الله له، فسعيه في أخذ الأسباب في الاقتصاد ينبع من إيمانه بالله عَزَّ وَجَلَّ، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.

الاقتصاد الإسلامي له أهداف كلها تصب في سعادة البشرية في الدنيا والآخرة، فمن أهداف الاقتصاد الإسلامي: تحقيق حد الكفاية المعيشية لكل فرد من أفراد المجتمع، الإسلام يهدف في نظامه الاقتصادي إلى توفير مستوى ملائم من المعيشة لكل فرد، لكل إنسان، لهذا فقد فرض الإسلام أمورًا معينة كالزكاة لتُسهم في تحقيق المعيشة للذين لا يقدرون على كفاية أنفسهم.

ليست الزكاة هي الوسيلة الوحيدة المسئولة عن ضمان حد الكفاية في الاقتصاد الإسلامي، بل يُعد من ذلك تدخل ولي الأمر في سوق العمل لإيجاد فرص العمل والكسب للعاطلين، وإقرار الأجر العادل الذي يُحقق الكفاية المعيشية للأجير، توجيه الموارد الاقتصادية وفقًا لاحتياجات المجتمع الحقيقي، كل ذلك يعد من الوسائل التي تُسهم في تحقيق حد الكفاية في الاقتصاد الإسلامي.

إذًا من أهداف الاقتصاد الإسلامي إذا عمل به المجتمع؛ تحقيق حد الكفاية المعيشية، أيضًا من أهدافه: الاستثمار الأمثل لكل الموارد الاقتصادية، التوظيف الأمثل للموارد الاقتصادية من الأهداف الرئيسية للنظام الاقتصادي الإسلامي، يتحقق توظيف هذه الموارد واستثمار هذه الموارد في الاقتصاد الإسلامي من خلال عدة طرق منها:

- توظيف الموارد الاقتصادية في إنتاج الطيبات من الرزق، والبعد عن انتاج السلع أو الخدمات الضارة والمحرمة شرعًا.

- العناية بإنتاج الضروريات والحاجات التي تُسهم في حماية مقاصد الشريعة.

- إبعاد الاقتصادية عن إنتاج السلع والخدمات التي تتطلب إنفاقًا ذا طبيعة إسرافية، الإسراف، النهي عن الإسراف، البعد عن الإسراف، حتى يتحقق أهداف الاقتصاد الإسلامي لَابُدَّ من هذه الطرق.

أيضًا من أهداف الاقتصاد الإسلامي: تخفيف الفروق الكبيرة في توزيع الثروة والدخل، الإسلام يُنكر التفاوت الكبير في توزيع الدخل والثروة، استئثاره فئة من المجتمع بالجزء الأكبر من هذا الدخل يُؤدي إلى الإضرار بالأغلبية الساحقة التي لا تستطيع ضمان تغطية حاجاتها الأساسية، لهذا الإسلام لا يُقر الغنى المطغي، لا يقر تسلط الأقلية على مقدرات الجماعة، كما هو حاصل في النظم الاقتصادية الوضعية.

كذلك الإسلام لا يُقرر الفقر المعدم، لا يقر حرمان أحد من وسائل المعيشة، ليس في نظام الاقتصاد الإسلامي أن يكون الظلم الاجتماعي، أو إهمال حق الفقراء أو الضعفاء، أو تكديس الثروة هو الغاية التي يسعى إليها عنصر المال أو التوزيع في الإسلام، بل العكس هو الصحيح؛ إذ أن تخفيف التفاوت، تقريب الفقراء من الأغنياء، منع تراكم الثروات المفرطة التي تُؤدي إلى الاستبداد المضر بالأخلاق، كل ذلك هدف من أهداف الإسلام في مجال الاقتصاد.

لهذا فالإسلام ينبذ اكتناز الأموال والاحتكار والربا والقمار والرشوة والغش، كل صور الاستغلال والأنانية ينبذها الإسلام، يحرمها الإسلام، وفي المقابل أيضًا الإسلام بنظامه الاقتصادي يفرض الزكاة والنفقات الواجبة، يحث على الوصايا والأوقاف والصدقات التطوعية، فيما يحقق في النهاية توزيعًا عادلًا للدخل والثروة في المجتمع، يرتقي بحال الفقير، يسد حاجة الفقير، يُحقق حد الكفاية المعيشية له.

أيضًا من أهداف الاقتصاد الإسلامي: تحقيق القوة المادية والدفاعية لأمة الإسلام، لدولة الإسلام، إذا كان النظام الاقتصادي كما ذكرنا يهدف إلى تحقيق حد الكفاية، فإن أهدافه لا تتوقف عند ذلك، إنما تتجاوزه إلى هدف أكبر تتمثل في تحقيق القوة المادية والدفاعية لأمة الإسلام، لدولة الإسلام، بما يكفل لها الأمن والحماية، يدرأ عنها العدو، لذلك الله عَزَّ وَجَلَّ قال: {وَأَعِدُّواْ ‌لَهُم ‌مَّا ‌ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ} [الأنفال: 60] إلى آخر الآيات.

كما قال: {‌وَمَا ‌تُنفِقُواْ ‌مِن ‌شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} [الأنفال: 60]، إذًا النظام الاقتصادي في الإسلام يهدف إلى تحقيق القوة المادية والدفاعية لدولة الإسلام، هذا من أهداف الاقتصاد الإسلامي.

أما خصائص ومميزات الاقتصاد الإسلامي: فمن أهم خصائص الاقتصاد الإسلامي: أنه يقوم على أساس الاعتراف بالملكية المزدوجة العامة، بما فيها الملكية الجماعية، وملكية الدولة، وبيت مال المسلمين، والملكية الخاصة أيضًا.

فيقوم على أساس الاعتراف بالملكية العامة، والملكية الخاصة، يمتاز بنظرته الخاصة للمال، يقوم النشاط الاقتصادي في الإسلام على أساس الحرية الاقتصادية المقيدة؛ مقيدة بضوابط الشرع، مقيدة بالحلال والحرام.

من خصائص الاقتصاد الإسلامي أيضًا: أنه يرتكز على أساس التكافل بين أفراد الأمة الإسلامية عامة، الاقتصاد الإسلامي جزء من الشريعة الإسلامية، جزء من نظام الإسلام الشامل، كما أن أيضًا للنشاط الاقتصادي في الإسلام طابع تعبدي، فيه عبادة قربة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.

أيضًا من خصائص الاقتصاد الإسلامي: أن له هدف عظيم يجمع بين الدنيا والآخرة؛ الرقابة على ممارسة النشاط الاقتصادي في الإسلام رقابة ذاتية، الاقتصاد الإسلامي يُحقق توازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، هذه بعض خصائص الاقتصاد الإسلامي.


 

 

أما أسس و أصول وأركان الاقتصاد الإسلامي:

أولًا: المال والملكية الاقتصادية، قضية المال والملكية من مميزات هذا النظام الاقتصادي عن غيره، محور النشاط الاقتصادي في كل مجتمع قضية المال والملكية أقر الإسلام الملكية الفردية بكل صورها، التصرف الملكية، طرق تنمية الملكية، حرية الانتفاع بها، الإسلام يُراعي غريزة التملك وحب الاستئثار بالشيء، لذلك جاءت الشريعة الإسلامية بإقرار التملك الفردي للإنسان، حقه في التصرف ما دام أنه في الإطار الشرعي، رعاية للمصالح، استجابة للغريزة التي أودعها الله فِيهِ.

من أسس الاقتصاد الإسلامي أيضًا: الحرية الاقتصادية المقيدة تعني إعطاء الفرد للحرية في الاكتساب، التمتع بالطيبات، القيام بجميع أوجه النشاط الاقتصادي ضمن دائرة الحلال والقيم والأخلاق الإسلامية، وضع الإسلام قيودًا على الحرية الاقتصادية، تعود أثارها الطيبة على الأفراد والمجتمع، فمن هذه القيود أن يكون النشاط الاقتصادي الذي يمارسه الأفراد مشروعًا نافعًا ولمجتمعاتهم.

ومن هذه القيود: تحريم إنتاج واستهلاك السلع والخدمات الخبيثة المضرة بالإنسان كما في قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُحِلُّ ‌لَهُمُ ‌ٱلطَّيِّبَٰتِ ‌وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ} [الأعراف: 157]، حرية الإنتاج والاستهلاك تقع داخل دائرة الحلال، أما السلع المحرمة والخدمات الخبيثة فهي ممنوعة، كالخمر والربا والمخدرات وغيرها.

أيضًا من القيود التي وضعها الإسلام على الحرية الاقتصادية: تحريم طرق الكسب غير المشروع، كالرشوة والغرر والغش بجميع صوره، والتزوير والربا، وغير ذلك من طرق كسب المال غير المشروعة، هذه قيود وضعها الشارع مما يدل على أن من أسس الاقتصاد الإسلامي الحرية الاقتصادية المقيدة بقواعد الشرع، أن تكون داخل دائرة الحلال، أما السلع المحرمة، فحرمها الشَرع؛ لأنها مضرة بالاقتصاد الإسلامي.

الأساس الثالث من أسس الاقتصاد الإسلامي: التكافل اجتماعي، ما التكافل الاجتماعي؟ أن يتساند المجتمع أفراده وجماعته، بحيث لا تطغى مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة، لا تذوب مصلحة الفرد في مصلحة الجماعة، يبقى للفرد كيانه مميزاته، تبقى للجماعة هيئتها سيطرتها، يعيش الأفراد في كفالة الجماعة، جماعة أهل السنة، جماعة المسلمين مع ولي أمر يحكمهم.

كما تكون هذه الجماعة متلاقية في مصالح الأفراد دفع الضرر عنهم، ولذلك الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ ‌أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يقول: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالبُنْيَانِ المَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»([1]) شبك بين أصابعه كما في الحديث المتفق عليه.

ويحث الإسلام على هذا التكافل الاجتماعي يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: «لَا يُؤْمِن أَحدُكُمْ حَتَّى يُحُبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»([2]) متفق عليه، هذه أسس الاقتصاد الإسلامي: المال والملكية الاقتصادية، الحرية الاقتصادية المقيدة بالشرع، التكافل الاجتماعي هذه أسس وأركان وأصول الاقتصاد الإسلامي.

لحماية هذا الاقتصاد الإسلامي حرم الإسلام كثيرًا مِنْ المعاملات التي تُؤثر على هذه الأصول والأركان، تُؤثر على التكافل الاجتماعي، تُؤثر على الحرية الاقتصادية للأفراد، نذكر مثالين على ما حرمه الإسلام، ولهما تأثير سيء على الاقتصاد الإسلامي:

* المثال الأول: الربا، زيادة في أشياء ونسأهم في أشياء، جاء الشرع بتحريمها، والربا نوعان:

ربا النسيئة، وله صور، النسيئة المؤجل له صور: زيادة في الدين مقابل الزيادة في الأجل، هذا ربا الجاهلية، يطلب المدين من الدائن تمديد أجل الدين بعد حلوله، فيقبل الدائن ذلك بشرط الزيادة في مقدار الدين، هذا هو ربا الجاهلية.

هناك أيضًا من أنواع ربا النسيئة أيضًا: الزيادة المشروطة، يُحدد الدائن للمدين موعدًا معينًا لسداد الدين، يشترط عليه في العقد زيادة معينة.

نوع ثاني من أنواع الربا: ربا الفضل، بيع ربوي بمثله متفاضلًا حالًا أو مؤجلًا، وربا الفضل يقع في الأصناف الستة التي ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في حديث عبادة بن الصامت الذي رواه مسلمٌ في صحيحه، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: «الذَهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ مِثلًا بِمثْل، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، فإن اخْتَلَفَت الأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُم إِذَا كَانَ يَدًا بِيَد»([3]).

وجمهور العلماء قاسوا على هذه الأشياء المذكورة، ما يشترك معها في علة الربا، هنا هذا ربا الفضل، بيع ربوي بمثله متفاضلًا، فيه زيادة أو نقص، الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، نفس الوزن، سواءً بسواء، يدًا بيد؛ تقابل في المجلس، فمن زاد أو استزاد، طلب الزيادة فقد أربى وقع في الربا، فإذا اختلفت الأصناف تمر بشعير مثلًا، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد، ممكن التفاضل إذا اختلفت الأصناف، لكن لَابُدَّ أن يكون يدًا بيد، هذا مثال فقط على الربا، هذا شيء عن الربا.

إذًا التعامل بالأجناس الربوية لا يخلو من حالتين:

- بيع جنس ربوي بمثله كبيع ذهب بذهب مثلًا يُشترط لجواز التعامل في هذه الحالة تماثل في القدر بين الجنسين، التقابض في مجلس العقد.

- الحالة الثانية: بيع جنس ربوي بجنس ربوي آخر، كبيع بر بتمر مثلًا، يشترط لجواز التعامل في هذه الحالة التقابض في مجلس العقد، تجوز الزيادة بينهما، كما جاء في الحديث: «فَإنْ اخْتَلَفَت الأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُم إِذَا كَانَ يَدًا بِيَد».

أدلة تحريم الربا معلومة عند كل مسلم في الكتاب والسنة، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {‌ٱلَّذِينَ ‌يَأۡكُلُونَ ‌ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ} [البقرة: 275] إلى آخر الآيات، ويقول الله عَزَّ وَجَلَّ في الآية الأخرى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ ‌مَا ‌بَقِيَ ‌مِنَ ‌ٱلرِّبَوٰٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} [البقرة: 278].

أما في السنة يقول جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «لَعَنَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقالَ: هُمْ سَوَاءٌ»([4])، رواه مسلم في صحيحه، كذلك الإجماع دل على تحريم الربا.

الحكمة من تحريم الربا؛ لأنه يُؤثر في الاقتصاد الإسلامي، الحكمة من تحريم الربا، ما هي المساوئ؛ مساوئ الربا على الفرد والمجتمع؟ من الحكم من تحريم الربا الابتعاد عن الظلم، الابتعاد عن أكل أموال الناس بالباطل، من مساوئ الربا على الفرد والمجتمع: أن الربا طريقٌ للكسل والبطالة، النفس البشرية تميل إلى كثرة المال مع الراحة والدعة، الربا من أقوى العوامل المؤدية إلى الكسل والخمول، ترك البحث عن الرزق والاكتساب وبذل الجهد في ذَلِكَ.

مِنْ مساوئ الربا في المجتمع أَنَّهُ يُربي الإنسان عَلَى الجشع والطمع، يهدم الأخلاق الفاضلة في المجتمع، لماذا؟ لأن المراد يستغل حاجات أفراد المجتمع، بتطويق أعناقهم بالديون، مما يجعل المدين في موقف صعب عليه، يصعب عليه التخلص من هذا الدين، يسد بالتالي أبواب الخير والتعاون على البر والتقوى، التعامل بالربا، يُغلق باب القرض الحسن، كما يحمل صاحبه على الشح والبخل المنهي عنه.

الربا إذًا يقضي على عوامل التكافل والتعاون التي هي من أسس الاقتصاد الإسلامي، التي أشرنا إليها سابقًا، التكافل الاجتماعي، الأصل الثالث من أصول وأركان الاقتصاد الإسلامي، فالربا يقضي على عوامل التكافل والتعاون، أيضًا من مساوئ الربا على الفرد والمجتمع أن الربا طريقٌ إلى الجريمة، طريق إلى توجيه الأموال نحو الاستثمار الضار، لماذا؟ لأن المدين مطالب بتسديد ما عليه من مستحقات لصاحب المال، وهي تتضاعف بسبب الربا، فهذا المدين يلجأ إلى طريق سريع تُخلصه من هذه الأعباء التي أحاطت به، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، لذلك غالبًا ما يلجأ المدين إلى الحصول على المال بأي طريق كان إما بالسرقة أو بالرشوة.

فتضطرب أحوال الناس، ويتزعزع الأمن في البلاد، لا يأمن الناس على أموالهم فيترتب عليها إفساد المجتمع لأفراده وجماعته؛ لهذا جاءت هذه الشريعة المباركة بهذا النظام الاقتصادي الذي يُحرم الربا، ويحذر منه حفاظًا على المجتمع، حفاظًا على أمن المجتمع، للربا آثار نفسية وصحية مدمرة، لماذا؟ لأن المُرابي يستعبده المال، يسعى للوصول إلى المال، دون مبالاة باعتداء على المحرمات أو تجاوز للحدود، يصاب بمرض نفسي، فآثار الربا وخيمة على المجتمع، وعلى النظام الاقتصادي في الإسلام.

* المثال الثاني أيضًا من المعاملات التي حرمها الشرع ولها تأثير سيء على الاقتصاد الإسلامي: الاحتكار؛ حبس الطعام أو غيره مما يحتاج إليه الناس، حبسه بقصد إغلائه عليهم، بقصد رفع السعر على الناس، هذا يُعرف بالاقتصاد الوضعي بالسيطرة على عرض أو طلب السلعة، بقصد تحقيق أقصى ربح ممكن، التحكم بهذه السلعة لغرض غير إنساني، هذا تعريف الاحتكار في الاقتصاد الوضعي.

الإسلام حرم الاحتكار؛ لأنه يضر بالنظام الاقتصادي في الإسلام؛ لأن له مساوئ كثيرة على المجتمع المسلم، وعلى الاقتصاد الإسلامي، الاحتكار من مساوئه: ارتفاع أثمان السلع والخدمات، ارتفاع الأسعار، فيؤثر ذلك على معيشة الناس، من مساوئ الاحتكار: التحكم ولو بقدر يسير في أسعار المواد الخام والسلع المصنوعة؛ كالسيارات والمركبات والالكترونيات وغير ذَلِكَ، فاحتكار سلعة من السلع يُؤدي إلى التحكم في أسعار هذه السلع، فلذلك ترتفع الأسعار والخدمات في المجتمعات التي يسود فيها الاحتكار، وهذا يُؤثر على الاقتصاد الإسلامي الذي من أهدافه التكافل الاجتماعي، وتيسير سبل المعيشة للناس، ورفع الضيق والحرج عنهم.

من مساوئ الاحتكار: تحديد الإنتاج، نقص كمياته في كثير من الأحيان، لا يُشبع حاجات الأفراد بالقدر الكافي، ومن مساوئ الاحتكار أيضًا: العمل على إذلال الشعوب، السيطرة عليهم بشتى الوسائل، حتى أن بعض المحتكرين تحقيقًا لأهداف الاحتكار يلجئون إلى إتلاف فائض الإنتاج للإبقاء على الأسعار على المستوى المطلوب، أو تخزينها رغم ما يتحملونه من تكاليف باهظة للتخزين للتحكم بأقوات الشعوب في عصر يسمى عصر العولمة.

نظرًا لكثرة مساوئ الاحتكار، ولضرره على المجتمع المسلم، ولتأثيره على الاقتصاد الإسلامي، حرم الإسلام الاحتكار، ودلت الأحاديث النبوية على بيان حرمة الاحتكار، ومن ذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: «لَا يَحْتَكِرُ إَلَّا خَاطِئْ»، وفي رواية: «مِنْ احْتَكَرَ فَهُو خَاطِئ»([5])، قال الشوكاني رَحِمَهُ اللهُ: "لا شك أن الأحاديث تنهض بمجموعها للاستدلال على عدم جواز الاحتكار، والتصريح بأن المحتكر خاطئ كافي لإفادة عدم الجواز؛ لأن الخاطئ المذنب العاصي"[6]، فالإسلام حرم الاحتكار لضرره ومفاسده، ولأثاره الوخيمة على الاقتصاد الإسلامي.

** هناك نوع من الاحتكار لَابُدَّ من التنبيه عليه؛ احتكار مباح: يعد من الاحتكار المباح ما يدخره الإنسان لقوته وقوت عياله، إلا في أوقات الأزمات حيث يُغالي الناس في خزن المواد الضرورية مما يُؤدي إلى اعتباره احتكارًا، إذًا ما يدخره الإنسان لقوته وقوت عياله من الطعام والشراب يدخره في بيته لسنة أو سنتين لقوته وقوت عياله هذا احتكار مباح.

كذلك أيضًا ما يُخزن من قبل الدولة، ويُستهلك في وقت لاحق؛ لأن إنتاجه ربما يكون موسميًا، فلابد من تخزينه؛ لأن استهلاكه يستمر طيلة أيام السنة مثل الحبوب أو التمر، فهذا احتكار جائز من قبل الدولة، هكذا أيضًا ما يدخل ضمن احتياطيات الدولة لمواجهة الطوارئ لحماية المنتجين والمستهلكين، الاحتياطي الإستراتيجي من الوقود والحبوب وغيرها، هذا أيضًا من الاحتكار المباح.

أما الاحتكار وحبس الطعام بقصد إغلاءه على الناس، بقصد رفع الأسعار على الناس فهو المحرم؛ لأنه يُؤثر على الاقتصاد الإسلامي، هذا ما أردنا أن نذكره بشيء من الإيجاز عن مفهوم الاقتصاد الإسلامي، وأن دين الإسلام دينٌ شامل ومن شموليته أن له نظامًا اقتصاديًا محكمًا فيه خير البشرية، خير المجتمع خير الفرد في الدنيا والآخرة.

نسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يُفقهنا وإياكم في ديننا، كما نسأله عَزَّ وَجَلَّ أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وفتنة، نسأله عَزَّ وَجَلَّ أن يوفق ولاة أمورنا ويرضاه، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 


 

([1]) أخرجه البخاري (6026)، ومسلم (2585)

([2]) أخرجه البخاري (13) واللفظ له، ومسلم (45)

([3]) أخرجه ابن أبي شيبة (22501)، وعبد ابن حميد في ((المنتخب)) (6)، والبزار (45 ) و أخرجه البخاري (2176)، ومسلم (1584) بلفظ مقارب.

([4]) أخرجه مسلم (1598).

([5]) أخرجه مسلم: (1605).

([6]) نيل الأوطار: (5/221).