هدي النبي ﷺ في التداوي من الأمراض ( الجزء ٣ )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛
فإننا نحمد الله عز وجل على نعمة الإسلام، وعلى نعمة الصحة والأمان، وكتابة اليوم بعنوان: " هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التداوي والوقاية من الأمراض ".
وهي الكتابة الثالثة من سلسلة محاضرات بهذا العنوان، وبقيت محاضرتان إن شاء الله، الرابعة بعنوان: "هديه صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج من الأمراض بالرقية والأذكار الشرعية" والكتابة الخامسة والأخيرة بعدها "هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الأمراض بالأدوية والأغذية الطبيعية".
وسبق أن ذكرنا أن هذه المحاضرات الخمس أصلها ومادتها أغلبها من كتاب الطب النبوي للإمام ابن القيم رحمه الله، تكلمنا في المحاضرتين السابقتين بنفس العنوان عن حجية العلاج بالهدي النبوي، وذكرنا الأدلة على أن الطب النبوي صادر عن الوحي، ولذلك جاءت الأحاديث الكثيرة التي تأمر بالتداوي عامة، والوقاية من الأمراض والتداوي من كثير من الأمراض التي تصيب البدن، كذلك جاءت أحاديث كثيرة تصف الأدوية، وأحاديث تأمر بالوقاية من بعض الأمراض، مر معنا بعضها ويأتي أيضا بعضها في المحاضرات اللاحقة.
ذكرنا سابقا أن الإسلام وضع قواعد طب الأبدان وهي ثلاثة: حفظ الصحة، الحمية عن المؤذي، استفراغ المواد الفاسدة من البدن، وذكرنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج من بعض الأمراض كالحمى واستطلاق البطن والطاعون وعلاج الاستسقاء وهو انتفاخ البطن وعلاج الجروح، وهديه صلى الله عليه وسلم في العلاج بشرب العسل، وكذلك في الحجامة والكي، وذكرنا هديه صلى الله عليه وسلم في قطع العروق والكي، ونكمل بإذن الله عز وجل من خلال هذه الكتابة الثالثة الحديث عن هديه صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج من الأمراض.
ونذكر في أول محاضرتنا هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع، في الصحيحين([1]) من حديث عطاء بن أبي رباح، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، فقال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك» ، فقالت: أصبر. قالت فإني أتكشف، فادع الله ألا أتكشف، فدعا لها، يقول ابن القيم رحمه الله([2]) : «قلت: الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه».
ثم أثبت رحمه الله صرع الأرواح، وأن الشياطين تصرع ابن آدم لعدة أسباب وتكلم في هذا، وما يهمنا هو النوع الثاني من الصرع لأن كلامنا في صحة الأبدان من الوقاية وعلاج الأمراض، والنوع الثاني قال: صرع من الأخلاط الرديئة، ثم بعد ذلك بعد أن تكلم عن صرع الأرواح الخبيثة الأرضية وما هو العلاج في صفحات كثيرة قال([3]):«وأما صرع الأخلاط، فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعا غير تام، وسببه خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدة غير تامة، فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذا تاما من غير انقطاع بالكلية، وقد تكون لأسباب أخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، أو كيفية لاذعة، فينقبض الدماغ لدفع المؤذي، فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء، ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصبا، بل يسقط، ويظهر فيه الزبد غالبا، وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة، وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها، وعسر برئها، لا سيما أن تجاوز في السن خمسا وعشرين سنة، وهذه العلة في دماغه، وخاصة في جوهره، فإن صرع هؤلاء يكون لازما»، ثم قال بعد ذلك: «إذا عرف هذا، فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتتكشف، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع، فوعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها على هذا المرض، ودعا لها ألا تتكشف، وخيرها بين الصبر والجنة، وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان، فاختارت الصبر والجنة، وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي، وأن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء، وأن تأثيره وفعله، وتأثر الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية، وانفعال الطبيعة عنها، وقد جربنا هذا مرارا نحن وغيرنا، وعقلاء الأطباء معترفون بأن لفعل القوى النفسية، وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب»، ثم قال: « والظاهر أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع، ويجوز أن يكون من جهة الأرواح، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيرها بين الصبر على ذلك مع الجنة، وبين الدعاء لها بالشفاء، فاختارت الصبر والستر، والله أعلم».
أيضا من هديه صلى الله عليه وسلم بالوقاية والعلاج من الأمراض هديه صلى الله عليه وسلم في علاج عرق النسا، عرق النسا هو العصب الوركي، وهو عصب يمتد من الورك إلى الكعب، و هو مرض يصيب النساء والرجال على السواء، آلامه مفرطة تبتدئ غالبا في أسفل العمود الفقري، يمتد الألم إلى إحدى الأليتين ثم إلى الجزء الخلفي من الفخذ، وأحيانا حتى يصل الكعب، وينتج غالبا هذا المرض -عرق النسا- ينتج غالبا من انفصال غضروفي بأسفل العمود الفقري أو التهاب روماتيزمي بالعصب الإنسي، وعلاجه الأساسي الراحة التامة على الظهر لمدة خمسة عشر يوما كما يقول الأطباء على الأقل، مع إعطاء مهدئات للألم مثل الأسبرين وغيرها والحجامات الجافة والكي أحيانا يساعدان على علاج هذا المرض، هذه فائدة نقلناها من بعض كتب الأطباء، يقول ابن القيم رحمه الله([4]) : «قيل وسمي بذلك لأن ألمه ينسي ما سواه، وهذا العرق ممتد من مفصل الورك، وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب، من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر»، قال: «فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم، -يعني العلاج الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر في أول هذا الفصل الإمام ابن القيم حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء»([5]) ، إذاً هو حديث ثابت، يقول صلى الله عليه وسلم: «دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء» تشرب في ثلاثة أيام على الريق هذا العلاج النبوي من الطب النبوي، يقول ابن القيم رحمه الله: «فإن هذا العلاج من أنفع العلاج لهم، فإن هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال والألية فيها الخاصيتان الإنضاج، والتليين، ففيها الإنضاج، والإخراج، وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين، وفي تعيين الشاة الأعرابية لقلة فضولها، وصغر مقدارها، ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيح، والقيصوم، ونحوهما، وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان، صار في لحمه من طبعها بعد أن يلطفها تغذيه بها،-تغذي بدن الآكل منها- ويكسبها مزاجا ألطف منها، ولا سيما الألية، وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم ولكن الخاصية التي في الإلية من الإنضاج والتليين لا توجد في اللبن وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية المفردة». وهذا أيضا من العلاج النبوي لهذا المرض عرق النسا.
أيضا من هديه صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج من الأمراض: هديه صلى الله عليه وسلم في علاج يبس الطبع واحتياجه إلى ما يمشيه ويلينه، وذكر ابن القيم رحمه الله تحت هذا الفصل حديث أسماء بنت عميس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بماذا كنت تستمشين» ؟ قالت: بالشبرم، قال «حار جار» ، قالت: ثم استمشيت بالسّنا، فقال: «لو كان شيء يشفي من الموت لكان السنا»([6]) أيضا ذكر ابن القيم حديثا آخر أيضا، عن عبد الله ابن أم حرام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام» ، قيل: يا رسول الله! وما السام؟ قال: «الموت»([7]) .
قال ابن القيم رحمه الله([8]) : قوله: «بماذا كنت تستمشين» ؟ أي تلينين الطبع حتى يمشي، ولا يصير بمنزلة الواقف، فيؤذي باحتباس النجو-النجو ما يخرج من البطن من ريح وغائط-، ولهذا سمي الدواء المسهل مشيا على وزن فعيل وقيل: لأن المسهول يكثر المشي والاختلاف للحاجة وقد روي: «بماذا تستشفين» ؟ فقالت: بالشبرم، وهو من جملة الأدوية اليتوعية-يعني النباتية التي لها لبن، بعض النباتات تدر لبنا، يخرج منها لبن أبيض إذا قطفت الثمار كالتين وغيرها- وهو قشر عرق شجرة، وهو حار يابس في الدرجة الرابعة، -هكذا قال ابن القيم رحمه الله يصف هذا- وأما السنا، ففيه لغتان المد والقصر، وهو نبت حجازي أفضله المكي، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الاعتدال، حار يابس في الدرجة الأولى، -وذكر ابن القيم رحمه الله خصائص هذا السنا فقال-: وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي، ومن الشقاق العارض في البدن، ويفتح العضل وينفع من انتشار الشعر، ومن القمل والصداع العتيق، والجرب، والبثور، والحكة، والصرع، وشرب مائه مطبوخا أصلح من شربه مدقوقا، ومقدار الشربة منه ثلاثة دراهم -وهكذا ذكر بعض خصائص السنا ثم قال-: وأما السنوت، ففيه ثمانية أقوال؛ أحدها: أنه العسل، والثاني: أنه رب عكة السمن يخرج خططا سوداء على السمن، الثالث: أنه حب يشبه الكمون، ومنهم من قال أنه الكمون ومنهم قال شبت، ومنهم قال التمر -وهكذا ثم قال ابن القيم-: إنه العسل الذي يكون في زقاق السمن، قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى، وأقرب إلى الصواب،أي: يخلط السناء -السنا الحبة تشبه الكمون معروفة- مدقوقا بالعسل المخالط للسمن، ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردا لما في العسل والسمن من إصلاح السنا، وإعانته له على الإسهال، والله أعلم.
إذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لو كان شيء يشفي من الموت لكان السنا» وفي الحديث الآخر: «عليكم بالسنا والسنّوت » هذا كله علاج ليبس الطبع الإمساك وما أشبهه والله أعلم، هذا ما نقلناه عن الإمام القيم رحمه الله في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في علاج يابس الطبع.
أيضا يذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الطب النبوي([9]) : فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حكة الجسم وما يولد القمل: في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في لبس الحرير لحكّة كانت بهما وفي رواية: أن عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما، شكوا القمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة لهما، فرخص لهما في قمص الحرير، ورأيته عليهما .
قال ابن القيم: هذا الحديث فيه أمران: أمر فقهي، - وذكر جواز لبس الحرير عند الحاجة للعلاج من المرض كمسألة فقهية، ثم قال الأمر الثاني: الطبي هذا الذي يعنينا في هذه الكتابة- قال ابن القيم بعد ذلك([10]) : وأما الأمر الطبي: فهو أن الحرير من الأدوية المتخذة من الحيوان، ولذلك يعد في الأدوية الحيوانية، لأن مخرجه من الحيوان، وهو كثير المنافع، جليل الموقع، ومن خاصيته تقوية القلب، وتفريحه، والنفع من كثير من أمراضه، ومن غلبة المرة السوداء، والأدواء الحادثة عنها؛ -قال عن الحرير-: وهو مقو للبصر إذا اكتحل به، والخام منه- وهو المستعمل في صناعة الطب- حار يابس في الدرجة الأولى -ذكر بعض خصائص الحرير وفوائده، ثم قال بعد ذلك-: والملابس ثلاثة أقسام: قسم يسخن البدن ويدفئه، وقسم يدفئه ولا يسخنه، وقسم لا يسخنه ولا يدفئه، وليس هناك ما يسخنه ولا يدفئه، -ذكر عن أنواع اللباس وأيضا خصائص الملابس التي يلبسها الناس فائدة قيمة قال بعد ذلك-: ولما كانت ثياب الحرير كذلك، وليس فيها شيء من اليبس والخشونة الكائنين في غيرها، صارت نافعة من الحكة، إذ الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، فلذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لباس الحرير لمداواة الحكة، وثياب الحرير أبعد عن تولد القمل فيها، إذ كان مزاجها مخالفا لمزاج ما يتولد منه القمل. إلى آخر كلامه رحمه الله وفي هذا كفاية في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الحكة، وأن من علاجها لبس الحرير للحاجة بالنسبة للرجال، أما النساء فيجوز لهن لبس الحرير.
أيضا من هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصداع والشقيقة، قال ابن القيم: والصداع: ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه في أحد شقي الرأس لازما يسمى شقيقة، وإن كان شاملا لجميعه لازما، يسمى بيضة وخودة تشبيها ببيضة السلاح التي تشتمل على الرأس كله، وربما كان في مؤخر الرأس أو في مقدمه، وأنواعه كثيرة، وأسبابه مختلفة، وحقيقة الصدع سخونة الرأس، واحتماؤه لما دار فيه من البخار الذي يطلب النفوذ من الرأس، فلا يجد منفذا، فيصدعه كما يصدع الوعي إذا حمي ما فيه وطلب النفوذ، فكل شيء رطب إذا حمي، طلب مكانا أوسع من مكانه الذي كان فيه، -يصف كيف يتكون الصداع قال: والصداع يكون عن أسباب عديدة: ذكر منها: ما يكون من قروح تكون في المعدة فيألم الرأس لذلك الورم لاتصال العصب المنحدر من الرأس بالمعدة، وذكر أيضا من أسباب الصداع ريح غليظة تكون في المعدة فتصعد إلى الرأس، وذكر أيضا من أسباب الصداع قال: من ورم في عروق المعدة فيألم الرأس بألم المعدة للاتصال الذي بينهما، وذكر من الأسباب أيضا صداع يحصل على امتلاء المعدة من الطعام ثم ينحدر ويبقى بعضه نيئا فيصدع الرأس ويثقله، ذكر عشرين سببا من أسباب الصداع، منها صداع يحصل بعد القيء، صداع يعرض بعد الجماع لتخلخل الجسم، صداع يعرض عن شدة الحر وسخونة الهواء، صداع قد يعرض عن شدة البرد وما يحدث من السهر وعدم النوم، ما يحدث من ضغط الرأس وحمل شيء عليه، ما يحدث من كثرة الكلام فتضعف قوة الدماغ لأجله، ما يحدث من كثرة الحركة والرياضة المفرطة، ما يحدث من الأعراض النفسانية، ما يحدث من شدة الجوع وهكذا ذكر أسبابا ما يحدث بسبب الحمى لاشتعال حرارتها فيه فيتألم، ذكر عشرين سنة من أسباب الصداع ثم قال([11]) : وسبب صداع الشقيقة مادة في شرايين الرأس وحدها حاصلة فيها، أو مرتقية إليها، فيقبلها الجانب الأضعف من جانبيه... وفي «الصحيح»([12]) ، أنه قال في مرض موته: «وارأساه»، وكان يعصب رأسه في مرضه، وعصب الرأس ينفع في وجع الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس -ثم يقول-: وعلاجه –الصداع- يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه، فمنه ما علاجه بالاستفراغ -يعني بالحجامة وبالقيء وبغيرها- ، ومنه ما علاجه بتناول الغذاء، ومنه ما علاجه بالسكون والدعة، ومنه ما علاجه بالضمادات، ومنه ما علاجه بالتبريد، ومنه ما علاجه بالتسخين، ومنه ما علاجه بأن يجتنب سماع الأصوات والحركات -ذكر علاجات كثيرة حسب أنواع الصداع قال-: وقد روى البخاري في تاريخه وأبو داود في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكى إليه أحد وجعا في رأسه إلا قال له: «احتجم» ، ولا شكى إليه وجعا في رجليه إلا قال له: «اختضب بالحناء»([13])، ثم بعد أن ذكر ابن القيم رحمه الله هذا العلاج من الطب النبوي للصداع وهو الحجامة، هذا من الطب النبوي إذا كان الصداع في الرأس، وإذا كان هذا الصداع في الرجلين أمر بالاختضاب بالحناء – الحنة معروفة- قال([14]) : وفي الترمذي([15]) : عن سلمى أم رافع خادمة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان لا يصيب النبي صلى الله عليه وسلم قرحة ولا شوكة إلا وضع عليها الحناء -ثم قال ابن القيم عن الحناء وخصائص شجرة الحناء في أغصانها ومن منافع الحناء ذكر بعضا من منافع الحناء ومن خواصه قال-: ومن خواصه أنه إذا بدأ الجدري يخرج بصبي، فخضبت أسافل رجليه بحناء، فإنه يؤمن على عينيه أن يخرج فيها شيء منه، وهذا صحيح مجرب لا شك فيه -ثم قال في آخر هذا الفصل([16]) -: والحناء إذا ألزمت به الأظفار معجونا حسنها ونفعها، وإذا عجن بالسمن وضمد به بقايا الأورام الحارة التي تشرح ماء أصفر، نفعها ونفع من الجرب المتقرح المزمن منفعة بليغة، وهو ينبت الشعر ويقويه، ويحسنه، ويقوي الرأس، وينفع من النفاطات، والبثور العارضة في الساقين والرجلين، وسائر البدن. -ذكر بعضا من فوائد الحناء التي جاءت في هذا الفصل، وفي بيان هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصداع كما أشرنا-.
أيضا من هديه صلى الله عليه وسلم أيضا: هديه صلى الله عليه وسلم في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه من الطعام والشراب وأنهم لا يكرهون على تناولها، جاء بدليل على هذا الكلام قال([17]) : عن عقبة ابن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم»([18]) وهنا فائدة لابد من الإشارة إليها ذكرها بعض الأطباء: قالوا معظم الأمراض يصحبها عدم رغبة المريض للطعام، وإطعام المريض قصدا في هذه الحالة يعود عليه بالضرر لعدم قيام الجهاز الهضمي بعمله كما يجب مما يتعبه عسر هضم وسوء حالة المريض، وكل مريض له غذاء معين له، وغالبا ما يكون غذاء قليلا سهل الهضم ومن دلائل شفاء المريض عودته إلى سابق رغبته في الطعام، فلا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن القيم رحمه الله([19]) : قال بعض فضلاء الأطباء: ما أغزر فوائد هذه الكلمة النبوية المشتملة على حكم إلهية، لا سيما للأطباء، ولمن يعالج المرضى، وذلك أن المريض إذا عاف الطعام أو الشراب، فذلك لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض، أو لسقوط شهوته، أو نقصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها، وكيفما كان، فلا يجوز حينئذ إعطاء الغذاء في هذه الحالة. قال ابن القيم بعد ذلك: واعلم أنه قد يحتاج في الندرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب، وذلك في الأمراض التي يكون معها اختلاط العقل، وعلى هذا فيكون الحديث من العام المخصوص، أو من المطلق الذي قد دل على تقييده دليل، ومعنى الحديث: أن المريض قد يعيش بلا غذاء أياما لا يعيش الصحيح في مثلها. -ثم قال-: فالمريض له مدد من الله تعالى يغذيه به زائدا على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم، وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه عز وجل، فيحصل له من ذلك ما يوجب له قربا من ربه، فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر قلبه، ورحمة ربه عندئذ قريبة منه، فإن كان وليا له، حصل له من الأغذية القلبية ما تقوي به قوى طبيعته، وتنتعش به قواه أعظم من قوتها، وانتعاشها بالأغذية البدنية، وكلما قوي إيمانه وحبه لربه، وأنسه به، وفرحه به، وقوي يقينه بربه، واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه، وجد في نفسه من هذه القوة ما لا يعبر عنه، ولا يدركه وصف طبيب، ولا يناله علمه- ثم ذكر دليلا على كلامه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يواصل في الصيام في الأيام ذوات العدد وينهى أصحابه عن الوصال، ويقول: «لست كهيئتكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني»([20]) ثم قال-: ومعلوم أن هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذي يأكله الإنسان بفمه، وإلا لم يكن مواصلا ولم يتحقق الفرق، بل لم يكن صائما، فإنه قال: «أظل يطعمني ربي ويسقيني» -ثم قال بعد ذلك رحمه الله([21]) -: وإنما فهم هذا من الحديث من قلّ نصيبه من غذاء الأرواح والقلوب، وتأثيره في القوة وإنعاشها، واغتذائها به فوق تأثير الغذاء الجسماني، والله الموفق.
بعد ذلك أيضا من هديه صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج من الأمراض: هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العذرة وفي العلاج بالسعوط، قال ابن القيم([22]) : ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: «خير ما تداويتم به الحجامة، والقسط البحري، ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة»، قال أبو عبيد عن أبي عبيدة: العذرة تهيج في الحلق من الدم، فإذا عولج منه، قيل: قد عذر به، فهو معذور -والآن يسمى التهاب اللوزتين، وقديما كانوا يعالجونه عند كبار السن بالغمز يغمزون الصبي إذا أصابه هذا المرض - وقيل العذرة: قرحة تخرج فيما بين الأذن والحلق، وتعرض للصبيان غالبا، وأما نفع السعوط منها بالقسط المحكوك -القسط البحري وهو نوعان: قسط هندي وقسط صيني وهو من الأدوية القديمة التي لا تزال تستعمل في حالات الصداع والزكام وبعض حالات الربو بطريقة السعوط يعني توضع في الأنف والفم يقول ابن القيم رحمه الله: وأما نفع السعوط منها بالقسط المحكوك، فلأن العذرة مادتها دم يغلب عليه البلغم، لكن تولده في أبدان الصبيان أكثر، وفي القسط تجفيف يشد اللهاة ويرفعها إلى مكانها، وقد يكون نفعه في هذا الداء بالخاصية، وقد ينفع في الأدواء الحارة، والأدوية الحارة بالذات تارة وبالعرض أخرى وقد ذكر صاحب القانون في معالجة سقوط اللهاة: القسط مع الشب اليماني، وبذر المر -إذًا العذرة هو التهاب في اللهاة التي في الحلق قريبة من اللوزتين وتؤثر على اللوزتين، قال ابن القيم-: والقسط البحري المذكور في الحديث: هو العود الهندي، وهو الأبيض منه، وهو حلو، وفيه منافع عديدة.
ذكر الأطباء منافع كثيرة للقسط البحري قالوا: هو مدر الطمث والبول، ينفع من ضعف الكبد والمعدة ينفع من الكزاز، ينفع من وجع الجنين، يقتل حب القرع، ينفع من حمى الورد ينشف البلغم، ويقطع الزكام يدفع السموم يذهب الكلف، يحرك شهوة الجماع، ينفع من النزلات الباردة، يسكن آلام العضل والمفاصل يفتت الحصاة المتولدة في الكلى، هذه فوائد ذكرها العلماء للقسط البحري وخاصة القسط الهندي المعروف الأبيض، هذه فوائده جاء ذكرها من الطب النبوي في هذا الحديث الذي معنا قوله صلى الله عليه وسلم: «خير ما تداويتم به الحجامة، والقسط البحري، ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة».
وذكر ابن القيم رحمه الله فوائد القسط البحري ذكر بعضها ثم قال: والسعوط: ما يصب في الأنف، وقد يكون بأدوية مفردة ومركبة تدق وتنخل وتعجن وتجفف، ثم تحل عند الحاجة، ويسعط بها في أنف الإنسان، وهو مستلق على ظهره، وبين كتفيه ما يرفعهما لينخفض رأسه، فيتمكن السعوط من الوصول إلى دماغه، ويستخرج ما فيه من الداء بالعطاس، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم التداوي بالسعوط فيما يحتاج إليه فيه، وذكر أبو داود في سننه([23]) أن النبي صلى الله عليه وسلم استعط -يعني استخدم السعوط-.
أيضا من هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج والوقاية من الأمراض هديه صلى الله عليه وسلم في دفع ضرر الأغذية والفاكهة وإصلاحها بما يدفع ضررها ويقوي نفعها، فبعض الأغذية إذا استخدمت لوحدها تضر، فإذا استخدم معها غذاء آخر كان سببا لعدم ضررها، قال ابن القيم([24]) : ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن جعفر، قال: رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثاء، والرطب حار رطب في الثانية، يقوي المعدة الباردة، -ذكر بعض الفوائد للرطب وذكر انه إذا زاد عن حده وأسرف في أكله صار ضارا- وبالجملة فهذا حار وهذا بارد، الرطب والقثاء نبات قريب من الخيار لكنه أطول، والآن يسمونه الفقوس، الفقوس هو القثاء رطب، الثاني إذا الرطب حار رطب والقثاء بارد رطب، يقول ابن القيم: فهذا حار، وهذا بارد، وفي كل منهما صلاح الآخر، وإزالة لأكثر ضرره، ومقاومة كل كيفية بضدها، ودفع سورتها بالأخرى، وهذا أصل العلاج كله، وهو أصل في حفظ الصحة، بل علم الطب كله يستفاد من هذا، وفي استعمال ذلك وأمثاله في الأغذية والأدوية إصلاح لها وتعديل، ودفع لما فيها من الكيفيات المضرة -ثم قال ابن القيم-: وبالجملة: فدفع ضرر البارد بالحار، والحار بالبارد، والرطب باليابس، واليابس بالرطب، وتعديل أحدهما بالآخر من أبلغ أنواع العلاجات، وحفظ الصحة، ونظير هذا ما تقدم من أمره بالسنا والسنوات، وهو العسل الذي فيه شيء من السمن يصلح به السنا، ويعدله، فصلوات الله وسلامه على من بعث بعمارة القلوب والأبدان، وبمصالح الدنيا والآخرة.
أيضا هناك فوائد كثيرة في هذا الكتاب في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج والوقاية من الأمراض، من هديه صلى الله عليه وسلم أيضا هديه في الحمية، الحمية كما هو معروف عند الأطباء التدبير الغذائي الخاص بالمريض من إلزامه منهاجا معينا من التغذية لا يتعداه، أو منعه عن بعض الأنواع من الأغذية والأشربة التي أضحت بسبب مرضه مؤذية له لأنها تزيد في شدة المرض أو تؤخر برؤه، أو تساعده في حدوث الاختلاطات لديه أو تتنافر مع الأدوية الموصوفة أو تزيد آثارها الجانبية الضارة، ولذا فإن الحمية تختلف باختلاف الأمراض التي تحتاج إلى حمية وباختلاف الحالة الصحية العامة لأجهزة الجسم عند المرضى، وباختلاف أنواع الأدوية المستعملة وآثارها الجانبية المحتملة الوقوع، إذًا الحمية جزء من المعالجة في كثير من الحالات، ثم ذكر ابن القيم رحمه الله قال([25]) : والأصل-الدليل من الشرع على الحمية- في الحمية قوله تعالى: ﵟوَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا ﵞ ﵝالنِّسَاء : ﵓﵔﵜ ، فحمى المريض من استعمال الماء، لأنه يضره. -هذا دليل على الحمية من القرآن ثم ذكر أيضا من السنة دليلا على الحمية قال-: عن أم المنذر بنت قيس الأنصارية، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي، وعلي ناقه من مرض، ولنا دوالي معلقة- عذق الرطب معلق-، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها، وقام علي يأكل منها، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي «إنك ناقه»-يعني فيه مرض يضره أكل الرطب يعني: لا تأكل الرطب - حتى كف، قالت: وصنعت شعيرا وسلقا، فجئت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «من هذا أصب، فإنه أنفع لك» وفي لفظ فقال: «من هذا فأصب، فإنه أوفق لك»([26]) ، إذا هذان دليلان ذكرهما ابن القيم رحمه الله وأشار إلى حديث أيضا مشتهر على ألسنة الناس وهو ليس بحديث نبوي: الحمية رأس دواء والمعدة بيت الداء، قال: هذا الحديث إنما هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم،.- فالحديث لا أصل له كما ذكر العلماء: الحمية رأس الدواء والمعدة بيت الداء، هذا ليس حديثا، قال ابن القيم رحمه الله-: الحمية حميتان: حمية عما يجلب المرض، وحمية عما يزيده، فيقف على حاله، فالأول:حمية الأصحاء والثانية: حمية المرضى، فإن المريض إذا احتمى، وقف مرضه عن التزايد، وأخذت القوى في دفعه -هكذا قال ابن القيم رحمه الله ثم قال-: واعلم أن في منع النبي صلى الله عليه وسلم لعلي من الأكل من الدوالي، وهو ناقه أحسن التدبير، فإن الدوالي أقناء من الرطب تعلق في البيت للأكل بمنزلة عناقيد العنب، والفاكهة تضر بالناقه من المرض لسرعة استحالتها، وضعف الطبيعة عن دفعها، فإنها لم تتمكن بعد من قوتها، وهي مشغولة بدفع آثار العلة، وإزالتها من البدن، -ثم قال-: وبالجملة: فالحمية من أنفع الأدوية قبل الداء، فتمنع حصوله، وإذا حصل، فتمنع تزايده وانتشاره. إذا هذه الحمية أيضا من العلاج النبوي.
أيضا من هديه صلى الله عليه وسلم: هديه صلى الله عليه وسلم في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذباب وإرشاده إلى دفع مضرات السموم بأضدادها، وذكر ابن القيم حديث أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء»([27]) امقلوه يعني: اغمسوه، اغمسوا الذباب بكامله فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ، قال ابن القيم رحمه الله([28]) : قال أبو عبيد: معنى امقلوه: اغمسوه ليخرج الشفاء بضمها منه، كما خرج الداء، يقال للرجلين: هما يتماقلان، إذا تغاطا في الماء.
ثم قال ابن القيم: واعلم أن في الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم، والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه، اتقاه بسلاحه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء، فيغمس كله في الماء والطعام، فيقابل المادة السمية المادة النافعة، فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج، ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية.
وبقيت عندنا أيضا مسألتان قبل نهاية هذه الكتابة.
المسألة الأولى: هديه صلى الله عليه وسلم في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها، هذا فصل جيد يذكره ابن القيم رحمه الله في هذا كتاب الطب النبوي، وهو الفصل قبل الأخير في كتابة اليوم في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج من الأمراض، قال تحت هذا الفصل([29]) : هديه صلى الله عليه وسلم في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها عن جابر بن عبد الله، أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع فقد بايعناك»([30]) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فر من المجذوم كما تفر من الأسد»([31]) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يوردن ممرض على مصح»([32]) ، قال ابن القيم: الجذام: علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها، وربما فسد في آخره اتصالها حتى تتأكل الأعضاء وتسقط ويسمى داء الأسد -وذكر سبب التسمية قال-: وهذه العلة عند الأطباء من العلل المعدية المتوارثة-يعني مرض الجذام- ، ومقارب المجذوم، وصاحب السل يسقم برائحته، فالنبي صلى الله عليه وسلم لكمال شفقته على الأمة، ونصحه لهم نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول العيب والفساد إلى أجسامهم وقلوبهم، ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامن لقبول هذا الداء، وقد تكون الطبيعة سريعة الانفعال قابلة للاكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه، فإنها نقالة، وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها من أكبر أسباب إصابة تلك العلة لها، فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع، وقد تصل رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه، وهذا معاين في بعض الأمراض، والرائحة أحد أسباب العدوى، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء.
آخر فصل في هذه الكتابة في بيان هديه صلى الله عليه وسلم من التداوي في المنع بالمحرمات، قال ابن القيم رحمه الله: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بالمحرم»([33]) ، وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث([34]) وذكر ابن القيم أيضا بعض الأحاديث قال: وفي سنن النسائي ([35]) أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن قتلها،
إذا هذه بعض الأحاديث ذكرها ابن القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العلاج بهذه الأشياء من الخبائث وفيما حرم على هذه الأمة، قال ابن القيم رحمه الله بعد ذلك في ختام هذه الكتابة ننقل لكم ما قاله في آخر هذا الفصل قال([36]) : المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلا وشرعا، أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها، وأما العقل، فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبا عقوبة لها، كما حرمه على بني إسرائيل ... وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه، وتحريمه له حمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثر في إزالتها، لكنه يعقب سقما أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب. وأيضا فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع،وأيضا فإنه داء -هذا يبين فيه الحكمة من العلاج مما حرم الله عز وجل من المحرمات - كما نص عليه صاحب الشريعة، فلا يجوز أن يتخذ دواء. وأيضا فإنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث، لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالا بينا، فإذا كانت كيفيته خبيثة، اكتسبت الطبيعة منه خبثا فكيف إذا كان خبيثا في ذاته، ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة، لما تكسب النفس من هيئة الخبث وصفته. وأيضا فإن في إباحة التداوي به، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها جالب لشفائها، فهذا أحب شيء إليها، والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله، وفتح الذريعة إلى تناوله تناقضا وتعارضا.
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله في بيان الحكمة من تحريم التداوي والعلاج بالمحرمات، فكل محرم ضار لا يتداوى به ولا يجوز التداوي بالمحرمات، هذا آخر ما أردنا أن نذكره في كتابة اليوم من بيان هديه صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج من الأمراض وهذه الكتابة الثالثة من هذه السلسلة، وبقيت كتابتان، الرابعة بعنوان: هديه صلى الله عليه وسلم في الوقاية والعلاج من الأمراض بالرقية والأذكار الشرعية، والكتابة الخامسة بعنوان: هديه صلى الله عليه وسلم في علاج بالأدوية والأغذية الطبيعية.
فنسأل الله عز وجل أن يفقهنا وإياكم في ديننا، كما نسأله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، نسأله عز وجل أن يوفق ولاة أمورنا لما يحبه ويرضاه، نسأله عز وجل أن يرزقهم البطانة الصالحة، كما نسأله عز وجل أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وفتنة.
اللهم إنا نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا ودعاء مستجابا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) البخاري (5652)، ومسلم (2576).
([2]) (ص51).
([3]) (ص54).
([4]) (ص55).
([5]) رواه ابن ماجه والحاكم، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وكذلك الألباني في السلسلة الصحيحة (1899).
([6]) رواه الترمذي وابن ماجه و أحمد في المسند والحاكم، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (4/408).
([7]) رواه ابن ماجه والحاكم، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (4/1798).
([8]) (ص56-57).
([9]) (ص59).
([10]) (ص60).
([11]) (ص66).
([12]) رواه البخاري (5666).
([13]) رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2059).
([14]) (ص77).
([15]) رواه الترمذي (2054).
([16]) (ص68).
([17]) (ص68).
([18]) رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (727).
([19]) (ص70).
([20]) رواه البخاري ( 7299)، ومسلم (1103).
([21]) (ص71).
([22]) (ص71).
([23]) صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3867).
([24]) (ص77).
([25]) (ص77).
([26]) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (59).
([27]) رواه البخاري (5782).
([28]) (ص84).
([29]) (ص109).
([30]) رواه مسلم (2231).
([31]) رواه البخاري معلقا وهو موصول، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (783).
([32]) رواه البخاري (5771)، ومسلم (2221).
([33]) سنن أبي داود (3874)، وهو حديث حسن.
([34]) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (4539).
([35]) رواه النسائي وأحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير(6971).
([36]) (ص116).