إنَّ أهميَّة الأسرة لا تخفى، فقد أولاها الإسلامُ العناية الفائقة، ووضع لها التَّشريعات المحكمة، وبيَّن ما لكلِّ فردٍ فيها من حقوقٍ وما عليه من واجبات، وأخبر أنَّ من صفات المتَّقين أنَّهم يجتهدون في بناء أُسَرٍ صالحة، ويسألون ربَّهم أن يحقِّق لهم هذا المطلب العظيم، قال تعالى: {والذين يقولون ربَّنا هَبْ لنا من أزواجنا وذرِّيَّاتنا قرَّة أعين} أي:
ارزقنا أسرةً صالحةً تقرُّ بها أعيننا في الدنيا والآخرة، وقال سبحانه في بيان العاقبة الأخرويَّة الحميدة للأُسَر الصالحة: {جنَّاتُ عدنٍ يدخلونها ومن صَلَح من آبائهم وأزواجهم وذرِّيَّاتهم}، فالأسرةَ هي اللبنةُ الأولى للمجتمع، وبصلاحها ينصلح ويستقيم، ولذلك جاء في دستور الدولة: "الأسرة أساس المجتمع، قوامُها: الدِّينُ والأخلاقُ وحبُّ الوطن".
وإنَّ من أهم ركائز الأسرة الصَّالحة: استقامتَها في العقيدة والفكر والثقافة والسلوك، لتكون قادرةً على إخراجِ جيلٍ معتدلٍ واعٍ مستنيرٍ، يحقِّق الخير لأسرته ومجتمعه ووطنه، ومن الوصايا في هذا الباب:
الوصية الأولى: التربيةُ الإيمانيَّةُ وتقويةُ الوازعِ الدينيِّ في نفوس الأولاد وغرسُ الفضيلة والقيم النَّبيلة فيهم، فهذا من أعظم أسباب الوقاية من الانحراف في الفكر أو السُّلوك. ومن الأحاديث المشهورة في هذا الباب:
حديثُ عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه قال: كنتُ خلفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: «يا غلام، إنِّي أعلِّمك كلمات: احفظِ اللهَ يحفظك، احفظِ اللهَ تجدْهُ تُجاهَك» الحديث، فانظر كيف اعتنى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بابن عبَّاسٍ وهو غلامٌ صغيرٌ وربَّاه على خشية الله ومراقبته، وكذلك ما جاء في وصايا لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه، ومنها قول لقمان لابنه: {يا بُنَيَّ إنَّها إنْ تَكُ مثقالَ حبَّةٍ من خردلٍ فتكُنْ في صخرةٍ أو في السَّماوات أو في الأرض يأتِ بها الله إنَّ الله لطيفٌ خبير}.
الوصية الثانية: التربيةُ العاطفيَّة والنفسيَّة السويَّة، وذلك بالرحمة بالأولاد، وتوفير العطف والحنان لهم، والعدل بينهم، وتحبيب بعضهم في بعض، وتربيتهم على التآخي والتراحم والصفح والعفو، فكم تسبَّبت القسوة والظُّلم في تطبُّع الأولاد بسلوكيات عدوانية؟ وكم سبَّب الجفاء والحرمان من مشكلات نفسية وسلوكية؟ وكم أدَّى تفريقُ الإخوةِ بتفضيل هذا واحتقار هذا، إلى زرع مشاعر الكراهية والحقد والانتقام؟
الوصية الثالثة: التربيةُ العقلية السليمة للأولاد، ومن مظاهرها: (1) تعويد عقولهم على النظر والتفكُّر وعدم التبعية العمياء لأيِّ ناعقٍ أو مُغرِّر. (2) تعويدهم على مراعاة النافع وترك الضار والتفكُّر في المصالح والتأمُّل في العواقب. (3) تربيتهم على ضبط النفس والتروِّي والأناة وعدم الاستعجال. (4) تنظيمُ أوقاتهم وملؤُها بالبرامج العلمية والترفيهية النافعة. (5) توفير مكتبة منزلية صالحة لهم وتشجيعهم على القراءة والاطلاع. (6) حسن التحاور معهم بالأسلوب الأمثل لعلاج أي فكر سلبي يطرأ عليهم. (7) حضهم على الالتفاف حول العلماء الربانيين.
الوصية الرابعة: التربية الوطنية، بتعزيز روح الانتماء للوطن في نفوس الأولاد، وترسيخ محبة واحترام القيادة في وجدانهم، وتنمية حب المشاركة في أبواب الخير والأعمال التطوعية فيهم، وتربيتهم على ردِّ الجميل، ومحبَّة الخير للآخرين، والتحلي بالإيثار والصدق والوفاء وسائر الأخلاق الكريمة والعادات والتقاليد الأصيلة.
الوصية الخامسة: التربيةُ بالقدوة، وذلك بأن يتحلَّى الوالدان بالفكر السوي والسلوكيات الحميدة والعلاقات الطيبة التي توفِّر للأولاد البيئة الأسريَّة الهانئة المستقرة، فما أسرع تأثُّر الأولاد بما يجدونه من والديهم. ومن أهمِّ ما يتأكُّد هنا: تجنيب الأولاد المشكلات الزوجية، وسرعةُ معالجتِها واحتوائِها مراعاةً للمصالح الأسرية العامة وإبقاءً للتلاحم الأسري..
والحذر كلَّ الحذر من الانسياق وراء الغضب وما يجرُّه من مشكلات، فضلاً عن الوقوع في العنف الأسري الذي له نتائجُ وخيمةٌ وخطيرةٌ على الأولاد، وليستحضر الزوجان قول الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَّةً ورحمة}.
الوصية السادسة: التربيةُ الوقائيَّة من كلِّ مهدِّد، ومن مظاهرها: (1) ترشيد استخدام التقنيات الحديثة (2) اجتناب القنوات والمواد الإعلامية ذات الطابع التحريضي والثوري (3) حسن اختيار الرفقة الصالحة واجتناب رفقاء السوء (4) عدم تغييب الدور الأسري بترك الأولاد للخادمات، إلى غير ذلك من المظاهر الوقائيَّة المتنوِّعة التي لا يتَّسع لها المقام.
وأخيراً، فإنَّ على الزَّوجين أن يستشعرا عظم المسؤولية، وأنْ يوقنا بأنَّ الأولاد أمانةٌ في أعناقهما، وأن يستحضرا على الدَّوام قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيته»، ثمَّ قال عليه الصلاة والسَّلام: «والرَّجلُ راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأةُ راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها».