حجية السنة (ج 2)


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، أما بعد

فلا نزال نذكر الأدلة من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع علماء الإسلام على حجية السنة ووجوب العمل بما صح منها، مع الرد على أشهر الشبه التي أثارها أعداء الإسلام ومن سار على دربهم من مدعي تحكيم العقل.

وقد سبق ذكر الدليل الأول من كتاب الله سبحانه وتعالى وهو قوله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" [النساء:95]

وأوجه الدلالة منه على حجية السنة ووجوب العمل بها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.

أما الدليل الثاني الدال على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم بفعل أمره واجتناب نهيه وتصديق خبره فهو جميع الآيات التي أمر الله فيها عباده المؤمنين بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم هديه، ومنها :

قول الله سبحانه : " قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ" [آل عمران:32]

قول الله سبحانه: " وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" [ المائدة:92 ]

قول الله سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ" [الأنفال :20]

قول الله سبحانه : " قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" [النور:54]

قول الله سبحانه: " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [النور:56]

قول الله سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ" [محمد:33]

قول الله سبحانه: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [الحشر:7 ]

قول الله سبحانه: " وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" [التغابن:12]

ولبيان وجه الاستدلال من هذه الآيات نقول :

أولا: هذه آيات من كتاب الله سبحانه وتعالى، يأمر الله فيها عباده بطاعته أولا، وبطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ثانياً، للدلالة على وجوب الطاعة ولزومها، فكما أن طاعة الله سبحانه وتعالى واجبة لازمة على كل عبد مكلف، فكذلك طاعة النبي صلى الله عليه وسلم لازمة لكل عبد مكلف، والأمر الوارد في كتاب الله سبحانه وتعالى يفيد الوجوب والإلزام، ومن خالفه استحق العقوبة والإيلام.

بل ورد الدليل من كتاب الله سبحانه وتعالى صريحاً واضحاً دالاً بظاهره على أن طاعة العبد للنبي صلى الله عليه وسلم من طاعته لربه سبحانه وتعالى، قال الله سبحانه وتعالى: " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا " [النساء:80]

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه شرعه ودينه، فما أخبر به من أمر أو نهي أو خبر فإنه مرده وأساسه الوحي من الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله عز وجل: " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم:3-4] وقال عز وجل : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ " [المائدة:67].

فما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم به أو نهى عنه، أو أخبر عنه وهو ليس في القرآن نصاً، "فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديماً.. على كتاب الله، بل امتثالٌ لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به." ( [1] )

وفي قول الله عز وجل: " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا " [النساء:80] دلالة على أنّ من عصى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأتمر بأمره وينتهي عن نهيه ولم يصدق خبره فهو عاص لله سبحانه وتعالى معرض نفسه للعقوبة.

ثانياً : ما ذكرناه سابقاً من أنّ خطاب الله تعالى للمؤمنين في القرآن الأصل فيه العموم، فإذا أمر الله بأمر أو نهى عن نهي فإنه يشمل جميع المكلفين، ذكوراً كانوا أو إناثاً، وعلى امتداد العصور والأمكنة، ما لم يخص بدليل.

فأمرُ الله سبحانه وتعالى بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم ليس مختصاً بزمن النبوة وعهد الصحابة رضوان الله عليهم، بل يعم جميع المكلفين من الإنس والجن إلى قيام الساعة.

وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفاه الله، فتعين أن تكون طاعته منحصرة فيما صح من سنته وهديه، وإلا كان الأمر من الله سبحانه وتعالى لعباده بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم من التكليف بما لا يطاق، وبما يعجز عنه المكلف، وهذا منفي عن الله سبحانه وتعالى وهو القائل: " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا " [البقرة: 286] والقائل : " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" [الحج :78] وقوله تعالى: " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة:185].

ثالثاً : أَمرُ الله عبادَهُ بطاعةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس على سبيل الاختيار، بل على وجهِ الإلزام والحتم، ولذلك وردت الآيات تحذر من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم طاعته، متوعدة فاعل ذلك بالعقاب الأليم، ومن ذلك :

قول الله سبحانه وتعالى: " وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ" [النساء:14 ]. وقوله سبحانه : " وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا " [الأحزاب:36 ].وقوله سبحانه: " وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا " [الجن:23 ].

وحذر الله من مخالفة أمر النبي وهديه صلى الله عليه وسلم فقال : " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور:63 ]

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية : " أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً أو ظاهراً {أن تصيبهم فتنة} أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة، {أو يصيبهم عذاب أليم} أي: في الدنيا، بقتل، أو حد، أو حبس، أو نحو ذلك. " ( [2] )

فمن قال بعدم حجة السنة وعدم لزوم طاعة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يلزمه أن يقول بأن جميع الآيات التي تحتوي الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والآيات المتوعدة بعقوبة المخالف للنبي صلى الله عليه وسلم منسوخة أو مخصصة بزمن النبوة وعهد الصحابة، فلا يجوز للمسلم أن يعمل بها، وهذا لم يقل به أحد من العالمين الذين يفقهون معنى الخطاب الشرعي، على اختلاف الأزمان والفرق.

رابعاً: بيَّن الله في القرآن أنَّ طاعة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- سبب لحصول الهداية، قال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور:54] والله -سبحانه وتعالى- طلب منَّا أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم في كل ركعة من ركعات الصلاة في قوله عز وجل: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6] ، وبيَّن سبحانه أنَّ اتباع النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- سببٌ للهداية إلى الصراط: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى:52-53].

نرجع لتطبيق القواعد السابقة: الخطاب في قول تعالى ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾مُوجَّه لمن؟

الجواب: لعموم المُكلَّفين من هذه الأُمَّة، لا يُخَص به طائفة دون أخرى لعدم الدليل على التخصيص.

ثانيًا: هل كلَّفنا الله بما نعجز عنه؟

الجواب: لا، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ممكنة بالرجوع إلى ما صح من سنته.

فلو كانت طاعة الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- غير لازمة وغير ممكنة بعد موته كما يقول المشككون في السُّنَّة، فإنَّ هذه الآيات لا محل لها من التطبيق والعمل، كما قد تم إغلاق طريقٍ موصِلٍ للهداية، والله أمرنا أن نطيع مَن ليس بموجود ولا يستطيع العباد الوصول إليه، وأمرنا أن نسلك صراط من لا يمكننا طاعته ومتابعته.

أليس هذا تكليفٌ بما لا نطيقه؟! وهذا مستحيلٌ في الشرع؛ لأن الله رفع الحرج عن أُمَّة محمدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأخبر أنَّه لم يكلفهم بما لا يطيقون، ومستحيل عقلاً كذلك، لأننا علمنا أنّ الله حكيم خبير لا يأمر بشيء وإلا وله حكمة ومقصد، ولا يأمر بعبث وبما لا فائدة منه.

خامسا: في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم تحقيق للمقصد من الرسالة، فالله عز وجل ما أرسل الرسل إلى أقوامهم إلا ليُطاعوا، كما قال تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء:64].

قال المفسر عبد الرحمن السعدي رحمه الله : "يخبر تعالى خبراً في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له. وأنّ الغايةَ من إرسال الرسلِ أن يكونوا مطاعين ينقادُ لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، وأن يكونوا مُعَظمين تعظيم المُطيع للمُطاع.

وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقاً." ( [3] )

ولذلك أمرت الرسل أقوامهم بطاعتهم، كما قال تعالى عن نوح عليه السلام : "قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ" [نوح:2-3]، وقال عيسى عليه السلام لقومه: "وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ" [آل عمران:50]، وقال هود عليه السلام لقومه : " إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)" [الشعراء:124-126] وكذلك بقية الرسل أمروا أقوامهم بطاعتهم.

ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، فلا نبي ولا رسول بعده، ولا شريعة بعد شريعته، وهذا يقتضي استمرار طاعة أمته له ولو بعد موته، وإلا لم يتحقق المقصد من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

سادسا : طاعة النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور المتعلقة بالعقيدة والإيمان وتطبيق أحكام الشرع، ورغم ورود الآيات في كتاب الله آمره بها لم يذكر الله سبحانه ولو في آية واحدة أنّ طاعته صلى الله عليه وسلم مقتصرة على زمنه وفي حياته، فدلّ ذلك على مشروعية طاعة النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسلم مكلف على اختلاف الأزمان والأماكن .

سابعا: لزوم طاعة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وحجية سنته هو ما عمل به الصحابة والتابعون، وجرى عليه عمل العلماء .

فهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه يؤكد على ذلك قائلاً: " لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ، فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ. " رواه البخاري

وروى البخاري ومسلم أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكٍ وَمَا بَقِىَ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ " لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ - -صلى الله عليه وسلم- - فِي هَذَا الْمَالِ ». وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ شَيْئًا."

فطبق أبوبكر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم على أخص الناس قرابة به وهي ابنته فاطمة رضي الله عنها، مما يدلنا على لزوم سنته صلى الله عليه وسلم ولو بعد موته.

وكذلك العلماء والفقهاء الذي احتجوا بالسنة ممصدر من مصادر التشريع، بل صرح الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بأن أقوالهم وآراءهم تعرض على السنة، فإن خالفت السنة قدمت السنة على أقوالهم.

ومن ذلك ما نقل عن الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال: " ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي." ( [4] )

كما أن أشهر طلاب هؤلاء العلماء خالفوا إمام المذهب في كثير من المسائل والأحكام لظهور دليل من السنة يخالف قول الإمام.

وفي ذلك أبلغ الدلالة على إجماع العلماء على اعتبار السنة والاحتجاج بها، وأن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم حتم لازم.

وإذا نظرنا إلى الذين ينادون بعدم حجية السنة، أو التشكيك فيها نجدهم إما من المستشرقين أعداء الإسلام الذين يسعون للطعن في الإسلام ومصادره، أو من أهل البدع المنحرفين عقدياً وفكرياً، وأمثال هؤلاء لا تقارن أفكارهم الشاذة وشبهاتهم المتهافتة مع ما دلت عليه نصوص الشريعة القطعية في ثبوتها ودلالاتها، ومع أقوال العلماء الأثبات.

هذه بعض الأوجه التي تبين وجوب طاعة الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد موته، وهذا يلزم منه حجية ما صحة من سنته، ومشروعية العمل بها واعتقاد ما فيها.

قال ابن تيمية رحمه الله : " فطاعة الله ورسوله، وتحليل ما أحله الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله، وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله واجب على جميع الثقلين الإنس والجن واجب على كل أحد في كل حال سرا وعلانية" ( [5] )

سأذكر بإذن الله في الحلقات المقبلة بقية الأدلة على حجية السنة ولزوم العمل بها.

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه .

 

 


([1] )- ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 220)

([2] ) - تفسير ابن كثير (6/ 90)

([3] )- تيسير الكريم الرحمن (ص: 184)

([4] ) - تاريخ دمشق (51/ 389)

([5] ) - الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 97)