محاسبة النفس هي السبيل لصلاح القلب
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على خاتم النبيبن والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد ..
إنّ لكلِّ واحدٍ منّا موقفًا سيقفه بين يديّ ربّه جلّ و علا، و هو موقف عظيم في يوم عظيم، يعرضون على ربهم حفاة عراة غرلا غير مختونين الرجال والنساء سواء، قد شغلهم عظم الموقف عن النظر إلى بعضهم، قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم – " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِىَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ " متفق عليه.
في ذلكم اليوم تدنو الشمس من الخلائق قدر ميل، فيلجمهم العرق إلجامًا، قال صلى الله عليه وسلم: "يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ " رواه البخاري.
جميعهم يقفون في صعيد واحد، في أرض المحشر، حتى الحيوانات والدواب تشاركهم ذلكم الموقف.
و النّاس في ذلك الوقت سينقسمون إلى فريقين: منهم من يُحاسَبُ حسابًا يسيرًا، و منهم من يُحاسَبُ حسابًا عسيرًا، و من عُسّر عليه الحساب؛ فقد خاب و خَسِر، و من يُسّر عليه؛ فقد فاز و سُرِر.
فلك أن تتصور -أخي الموفق – شدة ذلك اليوم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:" يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِقْدَارَ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يُهَوِّنُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَتَدَلِّي الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ إِلَى أَنْ تغرب " رواه ابن حبان
فهل تساءلتَ أخي المسلم عن الأسباب التي تجعل حسابَك في ذلك اليوم يسيرًا ؟
الأسباب كثيرةٌ و عظيمة، و لكن مِن أهمّها و أعظمها؛ محاسبة النفس في الدنيا، فهي من آكد الواجبات على العبد، قال بن القيم -رحمه الله-: ( قد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ القرآن وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [الحشر:18] يقول تعالى: لينظرْ أحدكم ما قدّم ليوم القيامة من الأعمال : أمِنَ الصالحات التي تنجّيه، أم مِن السيئات التي توبقه ؟
قال قتادة: "ما زال ربكم يقرّب الساعة حتى جعلها كغد"، والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها)أهـ.(1).
فعليك أخي المسلم أن تكون في محاسبتك لنفسك؛ كمحاسبة الشريك لشريكه، قال ميمون بن مهران –رحمه الله- : (لا يكون العبد تقيًا حتى يكون لنفسه أشدّ من الشريك لشريكه، و لهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان ، إن لم تحاسبه ذهب بمالك) (2) ، فعليك أن تكون هكذا مع نفسك ، فتسأل نفسك عن رأس مالك في دينك ماذا فعلت فيه ؟
ورأس مالك هو الفرائض .
و عن ربحك ؟
و هي النوافل و الفضائل.
و عن خسارتك؟
وهي تعدّيك وتضييعك لحدود الله جلا و علا.
و كيف كنت تحافظ على موسم التجارة ؟
وهو الليل و النهار .
فتنظر هل كنت من الرابحين الفائزين أم من الخاسرين المضيّعين؟
واعلم أن الربح في هذ التجارة عظيم، و هو أعظم ما تنافس فيه المتنافسون، و أغلى ربحٍ تسابق إليه المتسابقون، ألا و هو الفوز برضى ربّ العالمين، فهل هناك ربحٌ و سعادةٌ أعظم من أن يكون العبدُ من أولياء الله المتقين ؟
فمحبةُ الله وولايته لا تُنالُ بالتسويف و الأماني، و إنما تُنالُ بأداء الفرائض، و الإكثار من النوافل، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم و التمسك بها، يقول الله سبحانه في الحديث القدسي: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " (3)
وها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحث المسلمين على لزوم محاسبة النفس فيقول : " حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتُزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] " رواه ابن أبي شيبة في المصنف.
وكان رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد، ومن المبشرين بالجنة يحاسب نفسه فيقول : (عمر بن الخطاب أميرُ المؤمنين بخٍ بخٍ، و الله لتتّقينَّ الله ابن الخطاب أو ليعذبنَّك)(4) ، فكيف بغيره ؟ .
واحذر من حسن الظن بنفسك قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/ 189) : " وَأَمَّا سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ فَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ التَّفْتِيشِ وَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ، فَيَرَى الْمَسَاوِئَ مَحَاسِنَ، وَالْعُيُوبَ كَمَالًا، فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَرَى مَسَاوِئَ مَحْبُوبِهِ وَعُيُوبَهُ كَذَلِكَ....
وَلَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا، وَمَنْ أَحْسَنَ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ"
فهلّا خلوتَ بنفْسكَ، و ندِمتَ على ما كُتِبَ في صحيفتك، و نظرتَ في باطن نفسكَ قبل ظاهرها و حاسبتها، و هل سعيتَ في جهادها، فإن داومتَ على ذلك صَلُحَ قلبُك بإذن الله تعالى، قال تعالى : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " [العنكبوت:69]
----------------------------------
(1) اغاثة اللهفان (84/1)
(2) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص15
(3) أخرجه البخاري (6502)
(4) الزهد لأحمد (597)