القوامة الزوجية تكليف للزوج، وتشريف للزوجة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد .
الأسرة في الإسلام لها شأن عظيم، لذلك ذكر الله سبحانه وتعالى الكثير من أحكامها في القرآن الكريم وفصلها تفصيلا، وما ذلك إلا لأن تحقيق الاستقرار الأسري يؤدي ولا بد إلى تحقيق الاستقرار في المجتمع وبين الأفراد، فيتفرغ العباد لتحقيق المقصود من وجودهم في هذا العالم من إعمار الأرض والسير في مناكبها، وتحقيق العبودية لله تعالى.
ومن جملة ما بينه الله في كتابه من الأسس التي تضبط شأن الأسرة وتصحح مسارها، وتبين العلاقة بين الزوجين على الوجه الصحيح بيان الواجبات المنوطة بكل واحد منهما تجاه الآخر.
وقد ورد هذا البيان بصورة بلاغية عظيمة إذ قال الله سبحانه : " وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ " [البقرة:228]، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/ 609) : " أَيْ: وَلَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ مَا لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ، فلْيؤد كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ " ا.هـ
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقوق في مواقف كثيرة ومنها خطبة يوم عرفة، قال صلى الله عليه وسلم : " فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" رواه مسلم
وهذه الحقوق والواجبات سيسأل عنها العبد يوم القيامة، روى ابن حبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته. " وقال صلى الله عليه وسلم : " كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، ... وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا" متفق عليه .
والخلل والتقصير في هذه الواجبات المنوطة بكل من الزوجين تجاه الآخر وتجاه الأسرة سبب للخلل في الحياة الزوجية ولابد، فما من خلاف زوجي إلا ومن أهم أسبابه تضييع شيء من الواجبات والحقوق.
ولتحقيق هذه الواجبات على الوجه الأكمل لا بد من الاعتراف بمسؤولية كل فرد في الأسرة حسب ما كلفه الله بها، ومتى ما تخلى الفرد عن مسؤوليته في الأسرة وأوكلها إلى غيره اختل استقرار الأسرة .
ومن ذلك مسؤولية الزوج وقوامته في الأسرة، فالفطرة السليمة تقتضي أن يكون الرجل بما آتاه الله من مقومات قائداً للأسرة، ولذلك قال تعالى : " الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ" [النساء:43]، وهذه القوامة التي أعطيت الزوج مسؤولية تكليف سيحاسب عليها يوم القيامة، لأن مأمور بقوله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" [التحريم:7 ]
وقال صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " رواه مسلم .
وتقتضي قوامة الزوج على الأسرة قيامه بواجب الإشراف على شؤون الأسرة من الزوجة والأبناء، وما يحتاجونه من التربية والرعاية، وتوفير مقومات الحياة السعيدة لهم، والسعي لتحقيق مصالحهم ودفع المفاسد والشرور عنهم.
قوامة الزوج على الأسرة لا تعني إلغاء شخصية الزوجة لا في المنزل ولا في مجتمعها ودولتها، بل تبقى محتفظة بجميع حقوقها وحرياتها التي كفلها لها لإسلام ولكن بما يتناسب مع دورها العظيم في الأسرة، وطبيعة تكوينها وخلقتها الفطرية التي جبلها الله عليه.
ولكنن – وللأسف- ظهر فكر غريب شاذ عن مجتمعنا وعن الثوابت والأسس التي نشأنها عليها وهي مستمدة من قواعد ديننا الإسلامي، هذا الفكر يعتبر قوامة الزوج على الأسرة فيه انتقاص لشأن الزوجة، وأن الزوجة في هذا الزمان مثل الزوج في عملها ومشاركتها في الحياة الزوجية، وأطلقوا على القوامة مصطلح ( السلطة الذكورية – والاستبداد الذكري – والوصاية الذكورية) وذلك للتنفير منها .
وللجواب عن هذه الفكرة نقول :
أولا : تكليف الرجال بالقوامة تكليف من قبل الخالق، الخبير بخلقه وما يحتاجونه وما يصلح لهم وما يُصلحهم، وقد قال تعالى مقرراً هذا الحكم " الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ" [النساء:34]
فبين أن هذا التكليف مبني على أمرين :
الأول : تفضيل الله جنس الرجال على جنس النساء.
الثاني: وجوب نفقة الزوجة على الزوج .
وأما الأول : فإن الله يخلق ما يشاء ويفاضل بين خلقه كيفما شاء، مع اعتقادنا أنه ما فاضل إلا لحكمة، وليس من باب التشهي والعبث، فإن من أسماء الله الحكيم، وهو الذي يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، ولذلك قال تعالى : " وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا " [النساء:32]
فكما أن الله فاضل وغاير بين الرجل والمرأة في الخلقة فإنه غاير في المسؤولية الملقاة على كل منهما وفي الأحكام المكلف بها كل منهما ، قال تعالى " وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى " [مريم:36] .
ثانيا : لما جعل الله سبحانه وتعالى القوامة للزوج في الأسرة، شرع من الأحكام ما يتوافق مع هذه القوامة ويتناسب معها.
فجاءت الشريعة بجملة من الأحكام لتؤكد هذه القوامة منها :
أ ) وجوب طاعة الزوجة زوجها بالمعروف، قال تعالى : " وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا " [النساء:34] ، فدلت الآية على وجوب طاعة الزوجة زوجها، فإن نشزن وعصت استحقت التأديب .
ب ) ومن هذه الطاعة استجابة الزوجة لأمر زوجها إذا ما طلبها لحقه في الفراش الزوجي، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلاَّ كَانَ الَّذِى فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا » رواه مسلم.
ب ) ومن قوامة الزوج على زوجته أن لا تصوم التطوع إلا بإذنه، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ، وَلاَ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
ثالثا : من جهة العقل فالحياة الأسرية متعددة الأفراد، ومع طبيعة الاختلاف البشري فلا بد من قائد يقود أفراد هذه المؤسسة لما يصلح حالهم، ويجنبهم شر الاختلاف.
فليس معنى القوامة الاستبداد والدكتاتورية والعبودية للزوج، بل هي تكامل في الأدوار بين الزوج وزوجته لقيادة الأسرة وحمايتها، فتأملوا حال نبينا صلى الله عليه وسلم في قوامته لزوجاته، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ أَيُّ شَيءٍ كَانَ النّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَصْنَعُ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ قَامَ فَصَلَّى . رواه البخاري ، وفي رواية " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَعْمَلُ فِى بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ. " رواه أحمد .
فإن اعترض بسوء استعمال بعض الأزواج لهذه القوامة في الأسرة فيقال :
لا تلغى الأحكام الشرعية ولا القوانين المنظمة للأعمال بسبب إساءة استعمال الأفراد لها، فالأصل صلاحية الأحكام للتطبيق، ولا يحكم على الشرع المنزل من حكيم خبير من سوء تصرفات من يطبقه، إذ يوجد من الناس من طبق هذا الحكم ووجد أثره الحسن على نفسه وأسرته ومجتمعه.
رابعا : أحكام القوامة في الإسلام تعطي الزوجة والأسرة قوة وتشريفاً، وهذا ما تفقده التشريعات العالمية.
فالزوج مطالب شرعاً بالإنفاق على الزوجة والأبناء، ولا يطلب ذلك من الزوجة.
والزوج مطالب بأن يحقق الأمن الأسري في الأسرة، والحماية لجميع أفرادها
خامسا : فإن اعترض بأن القوامة تتعارض مع حرية المرأة ، فالجواب :
أولا : ماذا تقصدون بالحرية؟
فإن كان القصد هو التحرر من جميع الالتزامات والقوانين، فهذا لا يقره عاقل.
فمن دخل مدرسة أو جامعة أو جهة عمل فإنه سيتقيد بأنظمتهم وقوانينهم، وإلا فإنه سيعرض نفسه للعقوبة أو الطرد، ولا يعتبر ذلك من قبيل تقييد الحريات .
وكذلك الزواج فله أحكامه التي تدخلها المرأة بحريتها ومحض إرادتها ولا يملك أحد إجبارها على الدخول فيه، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تُنْكَحُ الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلاَ الْبِكْرُ إِلاَّ بِإِذْنِهَا ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِذْنُهَا قَالَ « أَنْ تَسْكُتَ ». متفق عليه ، وإذا وجدت المرأة سوء تصرف من زوجها في استعماله للقوامة واستبداداً فمن حقها طلب الفراق والطلاق إذا وجد سببه الصحيح.
إخواني القراء : إن اليقين الجازم الذي ينبغي أن لا يفارق قلوبنا وعقولنا هو صلاحية جميع أحكام الشرع للبشرية على امتداد الزمان واختلاف الأجيال، لأنها من لدن حكيم خبير، عليم بما يصلح العباد ويحقق لهم المعيشة الهانئة والحياة السعيدة.
وفقني الله وإياكم لكل خير .