الأسرة السعيدة


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شُرورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أَعمالِنا، مَن يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، وَمن يُضْلِل فَلا هَادِي له، وأشهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أَنّ محمدًا عبدُهُ ورَسولُه.

[اهتمام الإسلام بالأسرة]

إنَّ الأُسرَةَ في الإسلامِ هي نَواةُ المجتَمَعِ، ولَبِنَتُهُ الأُولى؛ لأَجلِ ذلكَ حَظِيَتْ على عنايةٍ كبيرةٍ في شَرْعِنا، فَدعا إلى يُعزِّز تَرابُطِها لِيَنعم أفرادها بنعيم العيش في ظل تعاليم الإسلام، فقال -تبارك وتعالى-: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾[الروم:21].

فالأسرةُ المستقيمةُ الآمنةُ المطمئنةُ مبنيةٌ على رابطةِ المودَّةِ والرحمةِ بين أفرادها، ولا قوامَ لهذهِ المودةِ والرحمةِ إلا على أساسِ مراقبةِ الله تعالى وعبادِته، ومعرفةٍ بحدودِه، والتزامٍ لشرعِه، فبهذا الأساس تنمو الأسرةُ نُمُواً إيمانيًا سليمًا، وتترابطُ فيما بينها لتُشكّل نسيجًا اجتماعيًا متينًا.

[توجيه نبوي]

لقَد وجّه نَبِيُّنا -صلى الله عليه وسلم- كلَّ فَردٍ بِالحرصِ على أنْ يكونَ أهلُهُ أَولى الناسِ بالخيرِ مِنه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي » [رواه الترمذي].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وكانَ مِن أخلاقِهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه جميلُ العِشرةِ دائمُ البِشْرِ، يُداعِبُ أَهلَه، ويَتَلطَّفُ بِهم، ويُوَسِّعُهُم نَفَقَته، ويُضاحِكُ نساءَهُ، حتى إِنَّهُ كانَ يُسابِقُ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنينَ يَتودَّدُ إِليها بذلك([1]) ... وكانَ ينامُ معَ المرأةِ مِن نِسائِه في شعارٍ واحدٍ، يضعُ عن كتفيهِ الرداءَ وينامُ بالإزار، وكانَ إذا صلى العِشاءَ يدخلُ منزِلَهُ يَسمُرُ معَ أهلِهِ قليلاً قبلَ أنْ يَنام، يُؤانِسُهم بِذلك - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]"([2]) .

فما أحوجَ الأُسر -هذا اليوم- إلى الاقتداء بهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زمنٍ كثُرَت فيه الشواغل والملهيات، فيجلسُ الأبُ والأمُّ، والإخوةُ والأخواتُ متآلِفينَ مُتحابِّين في أجواءٍ عائليةٍ مُفعمةً بالمودَّةِ والرَّحمةِ، فليس البيت للمبيت فقط.

[تشاور الأسرة فيما بينها]

إنَّ مما يُقوي الرَّوابطَ الأسرية، أَنْ يتشاورَ الأبُ والأمُ والأولادُ فيما بينهم، ويتحاوروا في شؤونهم، فإنَّه مبدأ راسخٌ جليل، وله أثرٌ نافع جميل، يشيعُ في البيت التفاهم والتحابب ويعزز التواصل والتقارب، أشارَ إليه ربّنا - تبارك وتعالى- في محكم التنزيل فقال: ﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾[البقرة:233]، ففي هذه الآية إرشادٌ للزوجين بأن يتشاورا في مسألةِ فِطام الطفل قبل تمام الحول، ليخرجوا برأي يتفقان عليه، قال ابن كثير رحمه الله: "ولا يجوزُ لواحدٍ منهما أن يَستبدَّ بذلكَ مِن غيرِ مُشاورة" ([3]).

فإذا كان هذا التشاور في مسألة تغذية الطفلِ جسدياً؛ فمن باب أولى أن يكون التشاور في قضايا تغذية روحه وتزكية أخلاقه، والحرص على توجيهه وتوعيته، لينشأ الطفلُ على مبادئ الإسلام وثوابته.

[وعاشروهن بالمعروف]

إنّ من دواعي المودة، وحصول الألفة، ودوام المحبة؛ اتصاف كلٍّ مِن الزوجين بحُسن المعاشرة مع الآخر في الحياة الزوجية، وفي شرعنا نصوص كثيرة في الحثّ على ذلك، والترغيب فيه، والزجر والتحذير من ترك ذلك.

وقد أكد الله تعالى على الزوج القيام بحُسن العشرة مع الزوجة تأكيداً بالغاً حتى مع وجود ما يكرهه منها؛ فقال تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[النساء:19].

ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: « لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً ، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ » [رواه مسلم]

فالله تعالى يخاطب الأزواج فيقول لهم: طيِّبوا أقوالَكُم لهن، وحسِّنوا أفعالَكُم وهيئاتِكُم بِحسبِ قُدرتِكم، فكما تُحبُّ - أيها الزوج - من زوجتك أنْ تفعلَ ذلكَ لك؛ فافْعَل أنتَ بها مثله، قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 228].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي » [رواه الترمذي وابن ماحه].

 وقد قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى- لرجل استنصحه في زواج ابنته: "زوّجها رجلًا يتقي الله فيها؛ فإنه إن أحبّها أكرمها، وإن لم يحبها لم يظلمها" [شرح السُّنة للبغوي].

[خير النساء]

إن قيام الزوجة بحق زوجها في نفسها وفيما يخصّ شأنه من أعظم مقومات العِشرة الحسنة، فقد وصف النبي  -صلى الله عليه وسلم-  خيرَ النساء وصفاً بليغاً في ذلك فقال: «خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا » [رواه البزار].

والزوجة الصالحة تحتوي الخلاف مع زوجها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: « أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ الْوَدُودُ الْوَلُودُ الْعَؤُودُ عَلَى زَوْجِهَا، الَّتِي إِذَا آذَتْ أَوْ أُوذِيَتْ ، جَاءَتْ  حَتَّى تَأْخُذَ بِيَدِ زَوْجِهَا ، ثُمَّ تَقُولُ : وَاللهِ لَا أَذُوقُ غَمْضًا  -أي: لا أذوق نومًا- حَتَّى تَرْضَى ».[رواه النسائي في الكبرى]

[ولأهلك عليك حق]

لـَمّا آخَى النبيُّ  -صلى الله عليه وسلم-  بينَ سلمانَ الفارسي وبين أبي الدرداء ـ رضي الله عنهما ـ ؛ زَارَ سلمانُ أبا الدرداء، فرأى زوجته مُتَبَذِّلَةً يعني: لابسةً ثيابَ مهنةٍ غير متزينة لزوجها – وكان ذلك قبل فرض الحجاب-.

فقال لها سلمان: ما شأنُكِ؟

قالتْ: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في نساء الدنيا، يصوم النهار ويقوم الليل!

فَلمّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قدّمَ لسَلمَان طعاماً وقال: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ.

فقال له سلمان: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ - يريد أن يصرفه عن رأيه فيما يصنعه من جهد في العبادة وغير ذلك مما شكته إليه زوجته - فأكل أبو الدرداء، فلمّا كان من الليل ذهب ليقوم الليل، فقال له سلمان: نَمْ، فَنَامَ.

ثم ذهب يقوم فقال له: نَمْ، فلمّا كان من آخر الليل قال له سلمانُ: قُمِ الآنَ، فقام أبو الدرداء فَصَلَّيَا.

فقالَ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.

فَأَتَى أبو الدرداء t النَّبِيَّ  -صلى الله عليه وسلم- ، فذكر ذلك الذي قاله سلمان، فَقَالَ النَّبِيُّ  -صلى الله عليه وسلم- : « صَدَقَ سَلْمَانُ » [صحيح البخاري].

ففي هذه القصة من الفوائد:

-        حثُّ المرأة على التزيُّن لزوجها.و

-        وثبوتُ حقِّها على زوجها في حُسنِ العشرة، وحقّها في الوطء لقوله: (ولأهلكَ عليكَ حقاً).

-        وفيه كذلك النهي عن القيام بالمستحبات إذا خُشي حصولُ السآمة والملل، وتفويتُ الحقوق المطلوبة.

فإذا كان هذا التوجيه والنُّصح لمن انشغل عن أهله في طاعة ربه وعبادته له؛ فكيف بمن ينشغل عن أهله بفُضول المباحات، وكثرة الخروج من المنزل مع الأصدقاء، وقضاء الأوقات معهم بالساعات، وقد لا يرجع إلى المنزل إلا بعد منتصف الليل! فيُفوت على نفسه القيامَ بحق زوجته، فضلاً عن تفويتِ صلاة الفجر! فإلى الله المشتكى.

فينبغي على الزوج أن يتأسى برسول الله  -صلى الله عليه وسلم- ، ويستوصي بزوجته خيراً كما قال  -صلى الله عليه وسلم- : « اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ » [رواه الترمذي والنسائي]، أي: كالأسْرَى في أيديكم.

ولا يكن جافياً مع أهله، مُقَصِّراً في حقهم، فإن ذلك مدعاة إلى تقصير الزوجة في حقِّ زوجها، مما قد يؤدي إلى سوء العشرة، وذهاب الألفة، وانطفاء المودة بينهما.

[الزوجُ في بيته]

من توفيق الله للزوج أنْ يكون مرحاً مع أهله وأبنائه، يُلاعبهم ويمازحهم، من حين لآخر، ولا يكن عبوساً بائساً، قَالَ عمر بن الْخطاب - رضي الله عنه: "إِني لَيُعجبني أَن يكون الرّجل فِي أَهله مثلَ الصَّبِي، فإِذا بُغي مِنْهُ حَاجَةً وُجد رجلا".

وَقَالَ ثَابت بْن عُبَيْد: كَانَ زيد بْن ثَابت t مِن أفكه النّاس فِي بَيته، فَإِذا خرج، كَانَ رجلا مِن الرِّجَال، [شرح السُّنة للبغوي].

ومن حُسن عشرته مع زوجته أنْ يُعينها في تدبير المنزل، فذلك هو هدي النبي  -صلى الله عليه وسلم- ، قالت عائشة 1 لمن سألها: مَا كَانَ النَّبِيُّ  -صلى الله عليه وسلم-  يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟

قَالَتْ: « كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ » [رواه البخاري].

وقَالَتْ أيضاً: « كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ: يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ »، وقالت في لفظ آخر: « كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ »[رواه أحمد].

واعلم أيها الزوج أنه بقدر إحسانك لزوجتك، وسعيك فيما يُصلحها ويُصلح أبناءك من توفير سُبل العيش والقيام بخدمتهم؛ فإنك تُؤجر عليه إذا نويت به نية صالحة، قال النبي  -صلى الله عليه وسلم- : « دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ » [رواه مسلم]، لأنّ النفقة على الأهل واجبة، وهي صلةٌ لهم وصدقة.

 

 


 


 

([1]) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُسابِق عائشة رضي الله عنها على مرأى من الصحابة رضي الله عنهم وإنما كان فيما بينه وبينها، كما ثبت ذلك صريحاً في مسند الإمام أحمد وغيره.

([2]) تفسير ابن كثير.

[3]) تفسير ابن كثير..