وقفات مع من أصيب بالسّحر


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد :

فإن الله يبتلي عباده بالآفات والأمراض ونحوها إما رفعا للدرجات وزيادةً للحسنات، وإما تكفيرا للمعاصي والسيئات؛ فيكون ذلك من تعجيل العقوبة، فالواجب في حال البلاء الصبر، ويحسن بالعبد الرضى، وأكمل المراتب في ذلك أن يشكر الله تعالى على البلاء كما يشكره على النعماء.

ومن هذه الآفات أمر السحر، فهو مما عمّ وانتشر، وذلك بسبب الجهل الذي يعيشه الناس والبعد عن الاعتقاد الصحيح، والذي بسبب ذلك لجأوا إلى السحرة والمشعوذين الدجالين.

وهذه وقفات يسيرة لمن أصيب بسحر، لعل الله أن يجعل فيها نفعا وتذكيرا:

الوقفة الأولى : السحر بلاء من الله : فيبتلي الله عباده بما شاء من أنواع البلاء، يبتلى بالمرض والعافية ويبتلي بالفقر والغنى كما قال تعالى {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. فإذا أصيب العبد بالسحر فعليه هنا أن يسعى في أمرين:

الأول: الصبر على هذا البلاء، وعدم التسخط على أقدار الله تعالى فالله وعد الصابرين بالخيرات والرحمات ، قال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.

ثانيا : العمل بالأسباب المشروعة من الرقية والأذكار والوضوء ونحو ذلك. وإذا وجد السحرَ نفسَه معقودا أو مكتوبا أتلفه بالطرق الصحيحة في ذلك.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله :"إذا وجد ما فعله الساحر من تعقيد خيوط أو ربط مسامير بعضها ببعض أو غير ذلك فإن ذلك يتلف؛ لأن السحرة من شأنهم أن ينفثون في العقد ويضربون عليها وينفثون فيها لمقاصدهم الخبيثة، فقد يتم ما أرادوا بإذن الله وقد يبطل، فربنا على كل شيء قدير سبحانه وتعالى. وتارة يعالج السحر بالقراءة، سواءً قرأ المسحور نفسه إذا كان عقله معه سليم أو قرأ غيره عليه، فينفث عليه في صدره أو في أي عضو من أعضائه، ويقرأ عليه بالفاتحة، وآية الكرسي، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، وآية السحر المعروفة من سورة الأعراف وسورة يونس وسورة طه، ومن سورة الأعراف" ا-هـ.

الوقفة الثانية: ليست الإصابة بالسحر هي نهاية الأمر، وانغلاق باب الأمل، بل لابد أن يتعامل المسحور مع هذا الابتلاء بأنه نوع من أنواع الأمراض كما يتعامل مع غيره، فيمضي في عمله وسعيه، مع بذله للسبب في التداوي، ولا يقطعه ذلك عن مصالحه وأمور حياته اليومية، ولا ينبغي له أن يعتزل الناس ويعيش في همّ وضيق وكربةٍ لا تنقضي ولا تنتهي، فذلك مقصد للشيطان وهو بلاء ربما أشدّ من بلاء السحرِ نفسِه.

الوقفة الثالثة: السحر أو المس يضعف بالمداومة على العلاج والرقية وقراءة القرآن، ويقوى بهجر القرآن وهجر الذكر، وكما يجد الإنسان صعوبة في استعمال العلاج المصنّع من الأدوية أحيانا كذلك يجد مشقة في العلاج بالقرآن بسبب كيد الشياطين وانزعاجهم من ذلك، فلا بد أن يصبّر نفسه على ذلك أو ينظر من يرقيه من أهله أو قرابته وغيرهم إن كان يعجز عن ذلك.

الوقفة الرابعة: كثير من الناس يصاب بالوسواس فيجعل كل علامة تظهر من بدنه أو في نومه دليل على السحر؛ ولا شك أنّ هذا الباب لو فتح سيجعل الإنسان يعيش في دوامة من الهمّ لا تنقضي. والشيطان يؤز العبد إلى ذلك ويحثه عليه، {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

قال العلامة العثيمين رحمه الله :" من الواضح جداً في عهدنا القريب أن الناس كثر فيهم الأوهام والوساوس، فإذا أصيبوا بشيءٍ عادي قالوا: هذا جن، أو هذه عين، أو هذا سحر. ونحن لا ننكر أن الجن قد يسلط على الإنسي ويتلبس به، ولا ننكر أن الإنسان قد يصاب بالعين، ولا ننكر أن الإنسان يسحر. ولكننا نريد أن لا يكون هذا وهماً بين الناس، فإذا قدر أن أحداً أصيب بذلك- نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين العافية- فإنه يبحث عن العلاج".

الوقفة الخامسة : إياك ممن يستخدم الرقية سبيلا للنصب والاحتيال:

كثير من الرقاة ربما يظهر منهم في أول الأمر قراءة القرآن والرقية بالأدعية الواردة كل ذلك حتى يمرروا على الناس باطلهم، ولا يلبث الأمر حتى يتكشف الحال عن خزعبلات وخرافات وأدعية غير مأثورة فيها تمتمات وكتابات لا برهان لها.

فأقول : أنت راقٍ لنفسك، فلا تسعى في الرقية عند غيرك بما أنك قادر على ذلك، ولا تجعل قلبك ينصرف إلى فلان من الناس ظانا أنه يملك علاجك وشفاءك، فكل ذلك من الله تعالى، ولا تكن ضحية للخرافيين ولا للمتاجرين بأمراض الناس العابثين بعواطفهم.

الوقفة السادسة: البلاء نعمة : فلعل الله قدّر عليك هذا السحر يمتحن تسليمك للقدر وصبرك على البلاء فلا يرى الله منك إلا ما يحب، ولو عافاك لربما كان في هذه العافية ابتلاء لك، فيبتليك بالسحر لتقرب منه، وتتعبد له، فيكون إذ ذاك هذا البلاء نعمة من الله ، وفي الحديث «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».

الوقفة السابعة : إياك والعلاج بالأمر المحرم: فالله تبارك وتعالى ما أنزل من داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله، كما في الحديث :" ما أنزل الله داء، إلا قد أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله "، ولا يجوز أن يكون العلاج بأمر محرم فضلا عن أن يكون بشرك، قال صلى الله عليه وسلم :" لا بأس بالرقي ما لم تكن شركاً ".

وعلى هذا فلا يجوز الذهبا للسحرة والمشعوذين لطلب فك السحر أو إخراج المس، فبقاء هذا البلاء مع التوحيد والعقيدة الصحيحة خير من ذهابة مع نقص الدين أو اضمحلاله.

الوقفة الثامنة: لابد في الانتفاع من الرقية من صلاح الراقي وتقواه وانفعال المرقيّ، وأعظم ما يكون به صلاح الراقي أن يكون موحدا لربه قائما بطاعته بعيدا عن مظاهر الشرك وأفعال أهل الفسق، قال ابن القيم رحمه الله :"قُوَى الرُّقْيَةِ وَتَأْثِيرَهَا بِحَسَبِ الرَّاقِي، وَانْفِعَالِ الْمَرْقِيِّ عَنْ رُقْيَتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ طَبِيبٌ فَاضِلٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ ".

الوقفة التاسعة: التسلي بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من إصابته بالسحر:

فأعظم الخلق وأحبهم إلى الله أصيب بالسحر ، كما جاء في الصحيح عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: " يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ » الحديث.

ثم شفاه الله تبارك وتعالى بالرقية الشرعية من القرآن.

فإذا كان خير الخلق ابتلي بهذا الأمر – وإن لم يكن ذلك مؤثرا في تبليغه للشريعة – فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم من هو دونه.

الوقفة العاشرة: ليست الدنيا بدار السلامة من الآفات والمصائب، بل هي دار الابتلاء، ومن أراد في هذه الدنيا نعيما لا تنغيص فيه وسعادة لا شقاء فيها؛ فقد أخطأ الطريق، فإنما هذا يكون في الدار الآخرة كما قال تعالى {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

أما الدنيا فنعيمها زائل، وعافيتها إلى ذهاب، وماعند الله خير وأبقى وأختم هنا بقصة لعل فيها تسلية لمن أصيب بشيء من السحر أو الصرع أو غيره من الآفات, فعن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ» فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا".

أسأل الله أن يكتب الشفاء على المرضى, وأن يعافينا جميعا في ديننا ودنيان، وأن يستعملنا في طاعته إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

  وكتبه: محمد بن غالب العمري

  22/05/1440