أحكام عشر ذي الحجّة وأيام التشريق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد :
فإن من فضل الله تعالى على عباده أن أنعم عليهم بالمواسم العظيمة والأيام الفاضلة لتكون مغنماً للطائعين وميداناً لتنافس المتنافسين. ومن هذه المواسم عشرُ ذي الحجّة وأيام التشريق بعدها، حيث أن هذه الأيام كانت محلاً لأمّهات العبادة، من الصلاة والصيام والصدقة والحج والأضحية والتكبير … وغيرها. والمسلم مطالب بأن يعمر هذه الأيام بأنواع القربات، وعليه أن يتعلم الأحكام الشرعية المتعلقة بها ليُحسن استغلالها كما ينبغي.
· وأهم مسائل البحث ما يلي :
1- فضل عشر ذي الحجة.
2- ما يجتنبه في العشر من أراد الأضحية.
3- الأعمال والطاعات في العشر ومنها الحج والأضحية .
4- فضل يوم عرفة والتكبير فيه.
5- فضل يوم النحر وأحكامه.
6- فضل أيام التشريق وآدابه.
1- فضل عشر ذي الحجة :
إن الله U فضّل بعض الشهور والأيام والليالي على بعض ليكون ذلك عوناً للمسلم في زيادة العمل والرغبة في الطاعة وتجديد النشاط ليعظم أجره ويحظى بنصيب وافر من الثواب. وقد فضل الله تعالى عشر ذي الحجة على غيرها من الأيام، فعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبيr( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبّ إلى الله منه في هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)([1])، (ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجراً من خيرٍ يعمله في عشر الأضحى )([2]) وهذا دليل على فضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة لأن رسول r شهد بأنها أفضل الأيام للعمل الصالح وحثَّ فيها على العمل الصالح وأمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير في قوله ( ما من أيام أعظم عند الله ولا أحبّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)([3])، ومما يدل على فضلها أيضاً أن فيها يوم عرفة ويوم النحر وفيها الأضحية والحج . قال ابن حجر- رحمه الله - ( والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمّهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ، ولا يتأتى ذلك في غيره )([4]) .
2- ما يجتنبه في العشر من أراد الأضحية :
دلّت السنّة على أن من أراد الأضحية يجب عليه أن يُمسك عن الأخذ من شعره وظفره وبشرته منذ دخول العشر إلى أن يذبح أضحيته . قال رسول اللهr:( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يُضحي ) وفي رواية ( فلا يمسّ من شعره وبشرته شيئاً )([5])، وهذا أمر للوجوب ونهي للتحريم على أرجح الأقوال لعدم وجود الصارف لهما .
-فإذا تعمد الأخذ من شعره وأظفاره، عليه أن يستغفر الله ، ولا فدية عليه والأضحية بحالها .
- ومن احتاج إلى أخذ شيء من ذلك لتضرره، فلا بأس ولا شيء عليه.
- ومن أخذ من شعره أو ظفره لعدم إرادته الأضحية ثم أرادها ، أمسك حينها .
- والحكم متعلق بالمُضحي والوكيل لا يتعلق به نهي فمن ضحى عن غيره بوصية أو وكالة فهذا لا يحرم عليه أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته.
- وظاهر النهي أنه يخص صاحب الأضحية ولا يعم الزوجة والأولاد وغيرهم .
3- الأعمال والطاعات في العشر من ذي الحجة وأيام التشريق :
وقد مرّ معنا الحديث (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه العشر)، فجميع الأعمال الصالحة والقُربات يُستحب الإكثار منها في هذه الأيام، ولا شك أن الحج والصلاة والصيام والصدقة والأضحية من أهم هذه الأعمال .
-فالحج فريضة على كل مُكلّف مستطيع وهو فرضٌ مرّة في العمر، لحديث (الحج مرة فمن زاد فهو تطوع)([6]) فمن حج الفريضة يُستحب له الحج مرة أخرى.
- والأضحية واجبة على الراجح للقادر عليها، ووقتها من بعد صلاة عيد الأضحى إلى آخر أيام التشريق الثالث عشر من ذي الحجة، وهي من أفضل الأعمال الصالحة في العشر.
- والصيام من أفضل الأعمال الصالحة، فيستحب له أن يكثر من الصيام في هذه الأيام وخاصة يوم عرفة، ففيه ثواب عظيم كما سيأتي قريباً، وفي الصيام المطلق جاء الترغيب فيه كثيراً ومن ذلك ما رواه النسائي وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : (قلت يا رسول الله دلني على عمل أدخل به الجنة قال:"" عليك بالصوم لا مثل له)([7])
- ومن الأعمال الصالحة : التكبير، فيستحب التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر، وإظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات وغيرها.قال الله تعالى ]لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ[[الحج:29]، وجمهور المفسرين على أن الأيام المعلومات هي أيام العشر من ذي الحجة، وقد مر معنا قوله r:(فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)([8])، والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة فينبغي الجهر به ولا سيما في أول العشر. وقد ثبت عن السلف ذلك ومنهم عبد الله بن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما ،ففي الحديث (أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما)([9])
- ومن الأعمال الصالحة التي ينبغي الإكثار منها في هذه الأيام تلاوة القرآن وقراءة كتب السُنّة والتوبة النصوح وصلوات التطوع وغيرها من الأعمال. وليحرص المسلم على مواسم الخير وليقدم لنفسه عملاً صالحاً يجده في حسناته .
4- فضل يوم عرفة :
يوم عرفة من الأيام الفاضلة في هذه العشر وهو يوم التاسع من ذي الحجة
فقد أكمل الله تعالى دينه يوم عرفة عندما نزلت الآية
]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم ْدِينَكُم ْوَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم ْنِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَم َدِينًا[ [المائدة:3]، قال عمرt ( قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبيr وهو قائم بعرفة يوم
الجمعة )([10])
- وفي يوم عرفة يعتق الله Uمن النار كثيراً من عباده كما أخبرنا رسول الله rبقوله )ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة)([11]) وفي حديث آخر يقولr :(إنّ الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم : انظروا إلى عبادي جاءوني شُعثاً غُبراً )([12])، وقد ذكر ابن رجب- رحمه الله –(أن العتق من النار عامٌ لجميع المسلمين)([13]) ـ
- ويستحب صيام يوم عرفة حيث أن رسول الله r سُئل عن صوم عرفة فقال :( يُكفر السنة الماضية والسنة القابلة) ([14])، وهذا يُستحب لغير الحاج وأما الحاج فلا يُسن له صيام هذا اليوم وفطره أفضل تأسيّاً برسول الله r، فقد ترك صومه .
- وللدعاء يوم عرفة مزية على غيره فإن النبي rقال (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)([15]) فليحرص المسلم على الدعاء في هذا اليوم العظيم .
- ويشرع التكبير من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق لثبوت ذلك عن السلف الصالح. قال ابن تيمية- رحمه الله - ( أنه أشهر الأقوال وهو الذي عليه العمل )([16])، ( وكان ابن عمر رضي الله عنه يكبر بمنىً تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً )([17])، ويكون التكبير بدون تحديد عدد معين ولا بصوت جماعي واحد ولا في وقت محدد .
5- فضل يوم النحر وأحكامه:
يوم النحر يوم عظيم لأنه يوم الحج الأكبر وهو أفضل أيام العام كما ثبت عن رسول الله r أنه قال :(إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر)([18]).
- (وفي هذا اليوم الخروج إلى المصلى لصلاة العيد، وهي واجبة على القول الراجح ) كما قال ابن تيمية رحمه الله ([19]) .
- وفي يوم النحر ذبح الأضحية وتوزيعها والأكل منها وذلك بعد صلاة العيد إلى آخر أيام التشريق وهي واجبة على القول الراجح.
- ويشرع التهنئة بالعيد مثل قول المسلم لأخيه : تقبل الله منا ومنكم ، كما ثبت عن السلف.
- ثم الإكثار من الأعمال الصالحة في هذا اليوم الذي هو من العشر ذي الحجة .
5- فضل أيام التشريق وآدابها:
- أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة . سُميت بذلك لأن الناس يشرقون فيها لحوم الأضاحي والهدايا، أي ينشرونها .
- وهي من الأيام الفاضلة التي أمر الله تعالى عباده بذكره فيها فقال تعالى ]وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ[[البقرة:203]،قال البخاري رحمه الله: قال ابن عباس رضي الله عنه( الأيام المعدودات أيام التشريق )([20])، وقال ابن رجب رحمه الله ( هذا قول ابن عمر وأكثر العلماء )([21]) .
وهي أيام ذكرٍ وأكلٍ وشربٍ، عن رسول اللهr قوله :
( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل )([22]).
- وفي أيام التشريق تقع بقية أعمال الحج كالرمي والطواف وغير ذلك .
وقد مر أنه يشرع التكبير إلى آخر أيام التشريق والجهر به في الطرقات وبعد الصلاة وغير ذلك .
- لا يشرع صيام أيام التشريق إلا للمتمتع إذا لم يجد الهدي، على القول الراجح لظاهر قوله تعالى ]فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ[[البقرة:196]، وقوله في الحج يعم ما قبل يوم النحر وما بعده فتدخل فيه أيام التشريق، وقد ورد عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنها أنهما قالا ( لم يُرخص في أيام التشريق أن يُصَمن إلا لمن لم يجد الهدي )([23]). وهذا له حكم الرفع، قال الشوكاني رحمه الله
( وهذا أقوى المذاهب )([24])
- وأيام التشريق بالإضافة إلى يوم النحر هي أيام ذبح للأضاحي والهدي، على الأرجح .
خاتمـــة :
هذا ما تيسر جمعه في فضائل وأحكام عشر ذي الحجة وأيام التشريق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
([1])رواه أحمد(1978) و البخاري وأبو داود وغيرهم
([2])رواه الدرامي- إرواء الغليل (3/398)
([3])رواه أحمد وقوّاه بشواهده الألباني- الإرواء (890) (3/398)
([4])فتح الباري (2/460)
([5])رواه مسلم من أربع طرق (13/146)
([6])صحيح سنن أبي داود (1721)
([7])رواه النسائي وغيره , صحيح الترغيب (986)
([8])إرواء الغليل (890)
([9])صحيح البخاري- فتح الباري (2/457)
([10])متفق عليه – البخاري (45)
([11])رواه مسلم (1348)
([12])رواه أحمد وابن خزيمة (4/263)-
([13])كتاب اللطائف صـ315
([14])رواه مسلم (1662)
([15])رواه مالك والترمذي - الصحيحة للألباني برقم (1503)
([16])تفسيره(1/358)
([17])قال البخاري- فتح الباري (2/462)
([18])صحيح سنن أبي داود
([19])الفتاوى(23/161) -وابن القيم(كتاب الصلاة صـ29) - الشوكاني ( السيل الجرار) (1/315) وغيرهم
([20])رواه البخاري - فتح الباري (2/458)
([21])لطائف المعارف صـ329
([22])روى مسلم في صحيحه (1141)
([23])رواه البخاري (1894) وفتح الباري (4/243)
([24])نيل الأوطار (4/294)