الدفاع عن السنّة (ج 2) ( السنّة النبوية وحي من الله )
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد
فمن نعمة الله على البشرية أن أرسل إليها النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ومبشراً ونذيراً، ليدلهم على ربهم وخالقهم فيوحدوه بالعبادة، ويعرفهم الطريق الموصل إليه، والجزاء الذي يكون للطائعين، والعقاب المتوعد به المخالفين، قال تعالى : " كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" [البقرة:151].
ولأجل تحقيق هذا المقصد أيّد الله سبحانه وتعالى نبيه بالوحي، وأنزل عليه القرآن الكريم، الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، بواسطة جبريل عليه السلام، وجعل هذا الكتاب هادياً لأفضل الطرق وأقومها ، فقال سبحانه عنه : "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا" [الإسراء:9 ] وقال سبحانه : "الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" [إبراهيم: 1] .
وتعهد الله بحفظ هذا القرآن من التحريف والتبديل والتغيير، فقال سبحانه : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " [الحجر:9 ].
وأوكل الله أمر بيان القرآن وتبليغه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" [المائدة:67].
فبلّغ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كما نزل، وأمر بكتابته وحث على حفظه في الصدور، كما بيّن صلى الله عليه وسلم الأحكام والعقائد التي نزلت فيه بأقواله وأفعاله وتقريراته، متبعا في ذلك الوحي الإلهي، لا يحيد عنه ولا يخالفه.
فأنزل الله في القرآن قوله تعالى : "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة:285] .
وينزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ويأتيه بصورة بشر ليسأله عن مراتب الدين الثلاث، الإسلام والإيمان والإحسان، وعن علامات الساعة ووقتها، وليبين للصحابة وللمسلمين أن ما ورد في الآية وفي غيرها من مثلها هو من أركان الإيمان بالله، والحديث رواه مسلم في صحيحه.
وأنزلَ الله في كتابه الأمر الرباني : " فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا" [النساء:13] وقول الله تبارك وتعالى : " أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" [الإسراء:78].
ثم يَنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ليبين له أوقات الصلوات الخمس في يومين متتاليين، فروى الترمذي وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَمَّنِى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ..."
ويُنزل الله سبحانه وتعالى الأمر بالصلاة في القرآن الكريم، فقال سبحانه : "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ" [البقرة:43]
ويَنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً أحكام هذه الصلاة وصفتها وشرائطها ومبطلاتها، فروى النسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبريل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفه والناس خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ..." الحديث ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري.
ويصلي النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهو لابس نعليه، وفي أثناء الصلاة خلعهما، فلما قضيت الصلاة قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا ، إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا".
ويُنزل الله الأمر بالحج في القرآن الكريم في قوله تعالى : "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" [آل عمران:97].
ويَنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم يبين له مناسك الحج، ومن ذلك ما رواه البخاري عن عمر رضى الله عنه قال سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ"
وفي أمر التلبية ورفع الصوت قال صلى الله عليه وسلم : " أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ" رواه أحمد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للجموع الغفيرة التي حجت معه : " لِتَأخُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ" رواه مسلم.
ويُنزل الله سبحانه وتعالى تحريم الخمر في القرآن الكريم فقال سبحانه: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" [المائدة:90-91 ]
ويَنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً عظيم إثم شارب الخمر، وأنه مطرود من رحمة الله، فروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَعَنَ الْخَمْرَ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَمُسْتَقِيَهَا "
ويأتيه صلى الله عليه وسلم الوحي من السماء ليُعلمه بفضائل بعض سور القرآن، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيه عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ"
ويَأتيه صلى الله عليه وسلم الوحي من السماء ليبين له الطريقة التي يُتلى بها كتاب الله سبحانه وتعالى، فروى أحمد في المسند عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أَتَانِي جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ، قَالَ: اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلِّهَا شَافٍ كَافٍ، مَا لَمْ تُخْتَمْ آيَةُ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ، أَوْ آيَةُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ"
والأمثلة على ذلك تطول، ولكنها تبين وبصدق قول الله تبارك وتعالى: " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم:3-4]، فما كان صلى الله عليه وسلم ليعمل عملاً، أو يقول قولاً، أو يُقر أمراً دون وحي من الله سبحانه وتعالى.
ومما يدلنا على أن السنة وحي من الله إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور مستقبلية وقعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وإنما هو إخبار من الله سبحانه وتعالى له عنها، ومن ذلك :
- إخباره صلى الله عليه وسلم عن خروج الخوارج وصفتهم، وقد وقع الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
- إخباره بما سيقع لعمر ولعثمان رضي الله عنهما من القتل، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فروى أحمد وغيره عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ، لَوْ كَانَ عِنْدَنَا مَنْ يُحَدِّثُنَا؟ " ... قَالَتْ: فَإِذَا عُثْمَانُ يَسْتَأْذِنُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَنَاجَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: " يَا عُثْمَانُ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى أَنْ تَخْلَعَهُ، فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ، وَلَا كَرَامَةَ " يَقُولُهَا: لَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا".
- إخباره بما سيقع من أشراط الساعة الصغرى، والتي قد وقعت وتحققت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كفتح بيت المقدس، وولادة الأمة ربتها، والتطاول في البنيان، واتباع سنن الأمم الماضية.
وغير ذلك كثير يصعب استقصاؤه في مقال واحد.
وكل ما ذكرت لك أخي القارئ يبين لك أن السنة النبوية من أقوال وأعمال وتقريرات إنما هي بوحي من الله تعالى، كما قال تعالى : " قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ" [الأنعام:50]
ويتبين لك أنها مصدر من مصادر التشريع، لا يمكن الاستغناء عنها بحال، وقد بين الله في كتابه مكانتها في بيان القرآن فقال: " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل:44] ، فسمى الله السنة ذكرا، وبين المقصد منها وهو بيان ما أنزله الله إلى الناس من القرآن الكريم.
فإذا أردنا تطبيق الإسلام وفهم أحكام القرآن فيتعين علينا العناية بالمصدر الثاني من مصادر التشريع وهو السنة النبوية، لأنها وحي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
عن حسان بن عطية رحمه الله (توفي عام 310 هـ) : " كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن " رواه ابن المبارك في الزهد، والمروزي في السنة
وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه .