مسألة: الجلوس للتعزية و إعداد الطعام
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده و رسوله , أما بعد ,
فهذا بيان لمسألة شائعة عند المسلمين بسبب عدم معرفتهم بما كان عليه أشرف المرسلين و صحابته رضي الله عنهم أجمعين , تكلم فيها السلف و الأئمة وسأذكر هديه صلى الله عليه وسلم في التعزية وما كان عليه الصحابة وأقوال الأئمة المجتهدين .
و التعزية : هي التسلية , و الحث على الصبر بوعد الأجر، والدعاء للميت و المصاب , وهي مستحبة على الوجه الشرعي الذي سنّهُ النبي صلى الله عليه وسلم , كما في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال : " : أرسلت ابنةُ النبي صلى الله عليه وسلم إليه : إن ابنا لي قبض ، فأتنا ، فأرسل يقرئ السلام ، ويقول : " إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل عنده بأجل مسمى ، فلتصبر ، ولتحتسب " " ([1]), وكما في حديث تعزيته لآل جعفر حيث قال لهم :" اللهم اخلف جعفراً في أهله , وبارك لعبد الله في صفقة يمينه " ([2])وعبد الله هذا هو ابن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما
وأما الدعوة إليها , و الجلوس لها , و إعداد الطعام وذبح الذبائح للمعزين , فكل هذا مخالف للشرع الحنيف , و ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شيء , بل عدّه الصحابة من النياحة .
فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : " كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت , و صنعة الطعام من النياحة ";"([3]), و المسنون عن النبي صلى الله عليه وسلم صنع الطعام لأهل الميت , لا صنع أهل الميت الطعام للمعزين .
فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال : لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم).([4])
ولذلك فقد كره أكثر العلماء الجلوس للتعزية كراهية تحريم , وكذلك كرهوا الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه وصنع أهل الميت الطعام للمعزين .
وأقوالهم في ذلك كثيرة منها :
-
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه "الأم" :( وأكره المآتم , و هي الجماعة , وإن لم يكن لهم بكاء , فإن ذلك يجدد الحزن , و يكلف المؤنة ) . ([5])
-
وقال النووي رحمه الله تعالى في "المجموع شرح المهذب" : وأما الجلوس للتعزية : فنص الشافعي و المصنف و سائر الأصحاب على كراهته , قالوا : يعني الجلوس لها , أن يجتمع أهل الميت , فيقصدهم من أراد التعزية , قالوا : بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم , فمن صادفهم عزاهم , ولا فرق بين الرجال و النساء في كراهية الجلوس لها " . ([6])
-
وقال الرافعي رحمه الله تعالى في "شرح الوجيز" في باب التعزية: (هي سنة و يكره الجلوس لها) . ([7])
-
وقال موفق الدين ابن قدامة رحمه الله تعالى في "المقنع": (يستحب تعزية أهل الميت , و يكره الجلوس لها ).([8])
-
وقال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى في " المبدع شرح المقنع" قوله ( ويكره الجلوس لها ) : نص عليه , أي الإمام أحمد , واختاره الأكثر لأنه محدث , مع ما فيه من تهييج الحزن. ([9])
-
وقال أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى في " الإفصاح عن معاني الصحاح" (اتفقوا على تعزية أهل الميت , فأما الجلوس للتعزية فقال مالك و الشافعي و أحمد : هو مكروه ولم نجد عن أبي حنيفة نصاً في هذا ).([10])
-
وقال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى في "زاد المعاد" : (كان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت , ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء , و يقرأ له القرآن , لا عند قبره ولا غيره , وكل هذا بدعة حادثة مكروهة ). ([11])
وأما صنع أهل البيت الطعام للمعزين :
-
فقال النووي رحمه الله تعالى في "روضة الطالبين " : قال صاحب الشامل : ( وأما إصلاح أهل الميت طعاماً , و جمعهم الناس عليه , فلم ينقل فيه شيء ) , قال :( هو بدعة غير مستحبة ) , وهو كما قال.([12])
-
وقال الكمال بن الهمام رحمه الله تعالى في " شرح الهداية":( هي بدعة قبيحة ).([13])
-
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( صنعة أهل البيت طعاماً يدعون الناس إليه , فهذا غير مشروع و إنما هو بدعة ) انظر "مجموع الفتاوى".([14])
-
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في "زاد المعاد" : (وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن أهل الميت لا يتكلفون الطعام للناس , بل أمر أن يصنع الناس لهم الطعام يرسلونه إليهم , وهذا من أعظم مكارم الأخلاق و الشيم , والحمل عن أهل البيت , فإنهم في شغل بمصابهم عن إطعام الناس ).([15])
-
وعقد ابن الحاج رحمه الله تعالى فصلاً في كتابه "المدخل" في إنكار هذه البدعة , فقال : ( ويستحب تهيئة طعام لأهل الميت ما لم يكن الاجتماع للنياحة و شبهها , لما روى الترمذي وأبو داود عن عبد الله بن جعفر قال : لما جاء نعي جعفر قال النبي صلى الله عليه و سلم (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم ) , ولأن ذلك من التقرب إلى الأهل و الجيران و البر لهم , فكان ذلك مستحباً , ولذلك قال أصحاب الشافعي رحمة الله عليهم : ينبغي لقرابة الميت أن يعملوا لأهل الميت في يومهم وليلتهم طعاماً يشبعهم , قالوا : وأما إصلاح أهل الميت طعاماً وجمع الناس عليه فلم ينقل فيه شيء , وهو بدعة غير مستحبة ). ([16])
قال : ( وقال أزهر بن عبد الله : من صنع طعاماً لرياء و سمعة لم يستجب الله لمن دعا له , ولم يخلف الله عليه نفقة ما أنفق , وإذا كان هذا في وليمة العرس و الختان , فما بالك بما اعتاده بعضهم في هذا الزمان من أهل الميت يعملون الطعام ثلاث ليال , و يجمعون الناس عليه , عكس ما حكي عن السلف رضي الله عنه , فليحذر من فعل ذلك , فإنه بدعة مكروهة ) انتهى كلامه .
قلتُ : ولكن عامة المسلمين اليوم لا يراعون مثل هذه الضوابط الشرعية , فتراهم ينفقون الأموال الطائلة على إقامة السرادقات لاستقبال المعزين , و استئجار من يقوم بصنع الطعام لهم , ومعلوم ما يجره مثل هذا الفعل على أهل الميت من خسارة مادية , وقد يكون من ذريته قُصَّرٌ , فتضيع أموالهم في غير منفعة ظاهرة إلا التفاخر المذموم ,
فحسبنا الله ونعم الوكيل ، والحمد لله .
كتبه : إبراهيم عبدالله المزروعي
(([1]) متفق عليه : أخرجه البخاري حديث:1237وأخرجه مسلم حديث:1582
([2])رواه أحمد و أًله عند أبي داود (4192)
([3])رواه أحمد وابن ماجه
([4])رواه أبو داود و الترمذي
([5])(1/248)
([6])(5/306)
([7])(الروضة :2/8144)
([8])(المبدع :2/285)
([9])(2/285)
([10])(1/193)
([11])(1/527)
([12])(2/145)
([13])(1/473)
([14])(24/316)
([15])(1/528)
([16])(3/275)