مرَّت عليَّ أبياتٌ من الشِّعر أرسلها أحد الزُّملاء في شبكة التواصل الاجتماعي، فتأثَّرت بها، وجال في نفسي وأنا أطالعها بعض الأفكار والمشاعر، ذكَّرتني بمدى حاجة المرء إلى الأصدقاء الصَّادقين النَّاصحين، الذين يجد منهم المشاعر الطيبة التي تهبُّ عليه كنسائم الهواء العليل، ويحظى منهم بالمعاملة الطيبة كلَّما لقيهم، ويتذوق معهم حلاوة التواصل الاجتماعي الحقيقي، القائم على أصول الصداقة الزَّاهية الناصعة، ويحسُّ على موائد هذه العلاقة المتبادلة بقيمة هذه الصَّداقة وعمق أثرها في حياته. وأنشأت سؤالاً في ذهني: من هو الصديق الذي أفتخر به؟ وما هي صفاته؟
فكان جوابي من خلال الفكر والعاطفة الصادقة، أن الصَّديق الذي أفتخر به هو ذلك الصَّديق: الصَّادق في محبَّته، المخلص في وفائه، الذي يقدِّر قيمة هذه العلاقة حقَّ قدرها، ويحرص على توطيد أركانها في دواخل نفسه عبر المشاعر القلبيَّة الصَّادقة، ويبذل الوسع في ترجمة ذلك في سلوك ومواقف تنبئ عن حقيقة هذه المشاعر الكامنة، فهو صديقٌ ظاهرًا وباطنًا، وقد قيل: إنَّما سُمِّي الصَّديق صديقًا لصدقه، وقيل أيضًا: إنَّ الصَّديق هو الذي يُضمر في قلبه مثل ما يُظهره، فيكون صادقًا في وُدِّه سرًّا وعلانية. وأنَّ الصَّديق الذي أفتخر به هو الصَّديق:
المنصف العاقل، الذي يرضى منِّي بما أستطيعه من حقوق الصَّداقة، ولا ينتظر منِّي كمالاً يفوق ما جبل الله عليه البشر من الضَّعف والنُّقصان، فإذا رأى منِّي شيئًا من هذا الباب أغضى طرفه، واعتبره نقصًا يسيرًا مغفورًا في جانب سائر أخلاقي وشيمي التي يرتضيها، وأيقن أنَّ به مثل ما بي من جنس هذا النَّقص وإن اختلف النَّوع واللون، فعامَلَني بمثل ما يحبُّ أن أعامله به، وإن عاتبني على شيء فهو عتابٌ لطيفٌ معتدل.
وقد قيل: إنَّ كثرة العتاب سببٌ للقطيعة، واطِّراحُ جميعه دليلٌ على قلَّة الاكتراث بأمر الصَّديق، فهو يتعامل معي في هذا الباب بإنصاف واعتدال. يقول الحافظ ابن عبد البر رحمه الله، مؤكِّدًا على مثل هذا المعنى في باب الصَّداقة والأخوَّة: «أجمعوا على القول بأنَّ الله تعالى تفرّد بالكمال، ولم يُبرِّئ أحدًا من النُّقصان»، ويقول الشاعر:
وأن الصَّديقُ الذي أفتخر به هو الصَّديق: المتسامح الناصح، الذي يتجاوز عن خطئي، ويستر زللي، ويقبل معذرتي، وقد قيل: أيُّ عالمٍ لا يهفو، وأيُّ صارمٍ لا ينبو، وأيُّ جوادٍ لا يكبو، ولذلك قال الشَّاعر:
إذا اعتذرَ الصَّديقُ إليك يومًا * من التَّقصير عُذْرَ أخٍ مُقِرِّ
وهو مع ذلك يبذل النُّصح لي بالحسنى، ويسعى في تكميلي ورقيِّي، ويكون لي في ذلك كالمرآة النقيَّة النَّاصعة، ممتثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِن»، قيل: معناه: كن لأخيك كالمرآة، تريه محاسن أحواله، وتعينه على الشُّكر، وتمنعه من الكِبر، وتريه أخطاءَهُ بلينٍ في خُفية، تنصحه ولا تفضحه، فإن تكامَلَتْ عنده آدابُ الإسلام رأيتَ نقصَك في صفاء حاله، وقصورَك في حسن شمائله، فكان لك مرآةً صافيةً ترتقي بالنَّظر فيها إلى معالي الأمور وعالي الخلال. وأن الصَّديقُ الذي أفتخر به هو الصَّديقُ : سليمُ الصدر نقيُّ القلب الحريص على حفظ الوُدِّ، الذي إن رآني في سرورٍ وفرحٍ سُرَّ واستبشر.
وإن رآني في حزنٍ وغمٍّ واساني وسلاَّني، فلا تلقى منه حسدًا ولا غلاًّ ولا حقدًا ولا شماتة، بل هو يحبُّ لي ما يحبُّ لنفسه، وإن ذَكَرَني أحدٌ في غَيبتي بما أكره سارع إلى الذبِّ عنِّي وحفظ عرضي، وقد قيل: لا يكونُ الصَّديق صديقًا حتَّى يحفظ الصَّديقَ في غَيبته، وإن رأى منِّي شيئًا يستشكله أحسن الظَّنَّ بي، وإن بلغه عنِّي خلاف المعهود تثبَّت واستوضح بالكلمة الطيبة الرائقة، فهو يحرص على حفظ ودِّي بكلِّ طريق، ويضع بين يدي هذه الصَّداقة سدودًا متينة من حسن الظَّنِّ والتثبُّت والكلمة الطيبة تحفظها وتقيها من أيِّ سهام مغرضة. قال بعض الحكماء: لا يُفسدك الظَّنُّ على صديقٍ أصلحك اليقينُ له، وقيل أيضًا: لا يغلبنَّ عليك سوءُ الظَّنِّ فإنَّه لا يترك بينك وبين حبيبٍ صُلحًا، وقد قال الشَّاعر:
لكلِّ شيءٍ عَدِمْتَهُ عِوَضٌ * وما لفقدِ الصَّديقِ من عوضٍ
وأنَّ صديقا هذه صفاته هو الذي أفتخر به وأتشرَّف أن أُعرف بصداقته بين الناس، لأنه جميلُ المعشر، حَسَنُ الخلق، محافظ على ما عليه من حقوقٍ تجاه دينه ووطنه ومجتمعه، وقد قيل: الصَّديقُ إنسانٌ هو أنت، إلاَّ أنَّه غيرك، ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ».