فضل عشر ذي الحجة


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات
القسم: 
القسم: 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد ثبت من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: (افعلُوا الخيرَ دَهرَكُم، وتَعرَّضُوا لِنفَحَاتِ رحمةِ الله، فإنَّ للهِ نفحاتٍ من رحمتِه، يُصيبُ بها من يشاءُ من عباده..) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وفي رواية عنده في المعجم الأوسط بسنده عن محمد بن مسلمة مرفوعًا: (إنَّ لله في أيام الدهر نفحاتٍ فتعرَّضوا لها؛ فلعلَّ أحدَكم أن تُصِيبه نفحةٌ فلا يشقى بعدها أبدًا). ومن تلك النفحات التي يُرجى فيها القبول عند الله عزّ وجلّ وينبغي للمسلم التعرض لها موسم الأعمال الصالحة؛ ألا وهو عشر ذي الحجة، وعشرُ ذي الحجة هي الأيام التي ثبت فضلها في القرآن والسّنة.

أما القرآن فقد جاء في قول الله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، قال ابن كثير رحمه الله: "المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغيرهم". وقال ابن سعدي رحمه الله: "وهي على الصحيح: ليالي عشر رمضان أو عشر ذي الحجة، فإنها ليالٍ مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في غيرها...، وفي أيام عشر ذي: الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله لعباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة، مستحقة لأن يقسم الله بها".

وأما السّنة فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: (ما من أيامٍ العمل فيهنّ أفضل من العمل في عشر ذي الحجة)، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهادُ في سبيلِ الله؛ إلا رجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ، فلَم يرجِع من ذلك بشيءٍ)، أخرجه البخاري، وفي رواية: (إلا من عُقر جوادُه وأُهريق دمُه). وعند الطبراني في المعجم الكبير عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام الدنيا أيامٌ العملُ فيها أفضل من أيام العشر)، فقال رجلٌ: وما مثلها في سبيل الله؟ فأعادها ثلاث مرات، فقال له  صلى الله عليه وسلم في الثالثة: (إلا لمن لا يرجع).

وقد كان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يُقدَرُ عليه.

قال ابن حجر في الفتح: "والذي يظهر أنّ السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره".

الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجة:

وبعد أن عرفت أيها المسلم فضل عشر ذي الحجة، وشرف العمل الصالح فيها، فحري بك أن تجاهد نفسك لاستغلالها، وتغتنم أيامها ولياليها بالأعمال الصالحة، وهاك أُخيَّ جملةً من أبرز تلك الأعمال التي ينبغي أن تحافظ عليها:

1 - أداء الحج والعمرة:

لا شك أن الحج من أفضل الطاعات وأعظمها، وهو أشرف عمل يؤديه المسلم في هذه الأيام، لما فيه من الأجر الجزيل، والثواب العظيم، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  (من حج لله فلم يرفث  ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه). وعنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور  ليس له جزاء إلا الجنة) وهو عند البخاري أيضًا.

فالواجب على المكلف ممن توفرت له شروط الحج أن يبادر إلى فريضة الحج قبل أن تظهر له من الشواغل ما يمنعه، والإنسان لا يدري ما يعرض له في المستقبل.

2- صيام يوم عرفة:

صيام عرفة من أفضل الصيام في هذه الأيام الفاضلة، ويُستحبُّ صومه لغير الحاج، وهو التاسع من ذي الحجة، لما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده).

 والصوم عمومًا في أيام عشر ذي الحجة من جنس الأعمال الصالحة، ويكفي فيه فضلا أن الله عزَّ وجلَّ اصطفاه لنفسه كما في الحديث القدسي: (كلُّ عملِ ابن آدم لَه، الحسنةُ بعَشرِ أَمثالها إلى سبْعِمائَة ضِعفٍ، إلا الصومَ فإنَّه لِي وأنَا أَجزِي به)، فالصيام إذن من جملة الأعمال التي ينبغي الحرص عليه في هذه الأيام الفاضلة؛ لأنه داخل في عموم العمل الصالح الوارد في الحديث. قال النووي رحمه الله عن صوم أيّام العشر أنّه مستحب استحباباً شديداً.

3- التسبيح والتهليل والتكبير:

يُعد التسبيح والتهليل والتكبير من الذِّكر المشروع في أيام عشر ذي الحجة، يرفع الرّجلُ فيه صوتَه، وتُسِرُّ به المرأة، في كل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، في المساجد، والأسواق والمنازل وغيرها، حيث يقول الله تعالى في ذلك: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ والأيام المعلومات هي أيام العشر؛ لما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (الأيام المعلومات: أيام العشر. والأيام المعدودات: أيام التشريق). وهو قول أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم.

وفي السنة فقد ثبتت مشروعية هذا الذّكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل فيهن أفضل من أيام العشر، فأكثروا فيهن التسبيح والتهليل والتكبير) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير. وعن ابن عمر، عن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيامٍ أعظمُ عند الله عزّ وجلّ ولا أحبُّ فيهن إليه العملُ من هذه الأيام أيام العشر، فأكثروا فيهن من التحميد والتهليل والتكبير) أخرجه أحمد.

وقد ثبت أن ابن عمر، وأبا هريرة رضي الله عنهم كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما..

صفته أن تقول: [الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد].  قال الإمام الصنعاني  رحمه الله: "وفي الشرع صفات كثيرة، واستحسانات عن عدة من الأئمة، وهو يدل على التوسعة في الأمر، وإطلاق الآية يقتضي ذلك".

متى يكون التكبير؟؟ يكون الذكر مطلقَا، ومقيدًا؛ فالمطلق في كل حال: في الأسواق، والمنازل، والطُّرق وغيرها. ووقته من دخول عشر ذي الحجة، حتى انتهاء الإمام من خطبة صلاة العيد.

 

4 - صلاة عيد الأضحى:

صلاة العيد يوم النحر من أبرز شعائر الإسلام الظاهرة، وهي سُنَّة مؤكدة عند أكثر العلماء، بل اعتبرها بعضهم واجبة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، وغيرهم..

 

5 - الأضحية:

وهي من الأعمال الصالحة والمشروعة في أيام العشر، بدليل قول الله تعالى:  ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ والمراد بالنحر ذبح المناسك، لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد، ثم ينحر نسكه.

وفي السنة: عن أنس رضي الله عنه قال: (ضَحَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعا يده على صفاحهما، يسمي، ويكبر، فذبحهما بيده) أخرجه البخاري.

وقد أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية، وأنها من شعائر الدين الظاهرة؛ بل اعتبرها بعض الأئمة من باب الواجبات..

لذا كان حريا بك أيها المسلم أن تحافظ على هذه الشعيرة ما استطعت إلى ذلك سبيلا.

وأخيرًا، فإن مقتضى ما ورد في فضل هذه الأيام يدلنا على أنَّ العمل في هذه الأيام أحب إلى الله تعالى من العمل فيما سواها من الأيام، ويشمل ذلك إضافة إلى ما تقدم: الصلاة، فيحافظ عليها في أوقاتها، ويحرص على النوافل ويكثر منها، فهي من أفضل القربات.

ومن الأعمال الصالحة أيضًا: قراءة القرآن، والذكر، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وعيادة المريض، وغير ذلك مما أمر الله تعالى به.

نسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لحسن عبادته، وأن يوزعنا شكر نعمته، وأن نعمل صالحًا يرضاه، وأن يدخلنا برحمته في زمرة عباده الصالحين.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.