استعرضنا فيما سبق بعض مواقف الصحابة، رضي الله عنهم، في التصدي لفتنة التطرف والإرهاب، وكيف تكللت جهودهم برجوع المئات من ذوي الأفكار المتطرفة إلى جادة الصواب، ونكمل ما بدأناه فنقول:
بعد المحاورات العلمية ورجوع المخدوعين إلى رشدهم بقيت باقية من المعاندين، يرفعون الشعارات البراقة بأفهام سقيمة صائحين: إن الحكم إلا لله، متهمين الصحابة بالكفر والردة، لأنهم بزعمهم أخلُّوا بحاكمية الله، ومع ذلك فلم يزل عليٌّ، رضي الله عنه، ممسكاً عنهم، لا يبادرهم بالمناجزة، إمعاناً في حفظ الدماء وتعظيمها من جهة، ولكي يستبين أمرهم للعامة فلا يغترَّ بهم مغترٌّ من جهة أخرى، حيث كان فيهم عُبَّادٌ كثيرون قد ينخدع بهم بعض من لا يعرف حقيقتهم، واشترط عليهم ألا يقطعوا سبيلاً أو يسفكوا دماً، ولكنهم لم يسمعوا، إلى أن وصل بهم الأمر في التطرف أن قتلوا الصحابي عبد الله بن خبات رضي الله عنهما، حيث أضجعوه وذبحوه، وقتلوا امرأته وبقروا بطنها وكانت حبلى، وقتلوا من كان معها من النساء، فطلب منهم عليٌّ رضي الله عنه، أن يسلِّموه القتلة، فقالوا:
كلُّنا قتلناهم! وكلُّنا مستحلٌّ لدمائهم ودمائكم!! فظهر بذلك إفسادهم العظيم في الأرض، وبان أمرهم لكلِّ مغترٍّ، ولم يبق إلا حسم شرهم بالقوة العملية الرادعة. ولما حان وقت الحزم الذي لابد منه اصطف الخوارج للقتال، فلجأ عليٌّ رضي الله عنه، إلى إضعافهم وحقن ما يمكن حقنه من الدماء، فأمر بعقد لواء الأمان لمن ترك القتال منهم، فرجع منهم فئة، وبقي المصرُّون المعاندون، ومع ذلك فلم يبادرهم عليٌّ رضي الله عنه، بالقتال.
بل أمر بالكفِّ عنهم حتى يكونوا أول من يبدأ، حتى إذا أطلق الخوارج صيحاتهم وأقبلوا بسيوفهم ورماحهم وهم يصيحون: إن الحكم إلا لله! لم يجد عليٌّ رضي الله عنه، ومن معه بدّاً من دفع صولتهم، وحسم شرهم بقوة السلطان وبلغة السيف والسنان، فأناخوا سيوفهم الظالمة الجائرة في لحظات، فكانوا كأن لم يكونوا، جثثاً هامدة نخرت فيها المعتقدات الفاسدة قبل أن يكونوا صرعى خامدين.
هذا العرض لقصة الصحابة، رضي الله عنهم، مع الإرهاب تلهمنا للمواقف الصحيحة التي بها نعالج التطرف، حيث ارتكز علاجهم على جانبين رئيسين مهمين:
الجانب الأول: استخدام لغة العلم والحجة ابتداء لإبطال الأفكار المتطرفة وإضعافها لغلبة الظن بوجود البسطاء والمغرر بهم.
ومن صور ذلك:
(1) تعزيز دور العلماء وطلبة العلم لنشر العلم النافع الذي يرسخ الوسطية وينقض فكر الإرهاب، وتعزيز الثقافات الإيجابية التي تحقِّق هذا المقصد، وتسخير المثقفين الأكفاء للإسهام الفاعل في هذا الباب، والاستفادة من وسائل الإعلام المتنوعة لخدمة هذا الهدف النبيل.
(2) قيام حملة العلم الشرعي برد الشبهات التي يبثها المتطرفون في المجتمعات الإسلامية..
وتحرِّي الحجة الناصعة، واللغة الواضحة، والمنطق القوي الرزين، الذي يجلِّي الصواب، ويُقنع الناس به، ويكشف زيف الشُّبه، والاعتماد في ذلك على أدلة الكتاب والسنة.
(3) استخدام أسلوب الحوار العلمي مع الشباب المغرَّر بهم الذين يُرجى أن ينتفعوا بالمحاورة والمجادلة..
وذلك من قِبَل المتمكِّنين من العلم الشرعي.
(4) وضع البرامج الإصلاحية العلاجية للمقبوض عليهم من المتطرفين، وتسخير ذوي الكفاءات العلمية لإزالة اللبس من عقولهم بالحجج الشرعية الناصعة.
(5) رصد التيارات والتوجهات الفكرية ورموزها التي تعزز فكر الإرهاب وتجفيف منابعها وإضعاف تأثيرها وتسخير الخطاب الديني المعتدل لنقدها ونقضها بموضوعية.
الجانب الثاني: استخدام لغة الحزم والحسم والقوة، وذلك من قِبَل ولاة الأمور، وتقرير حقِّهم في ذلك. ومن صور ذلك:
(1) تعزير أهل الفتن وأصحاب الفكر المتطرف، لتأديبهم ووقاية المجتمع من شرهم، كما فعل عمر، رضي الله عنه، مع صَبيغ بن عِسل، وكان من أثر هذا التعزير العُمَري أنه لما دُعي صبيغ للالتحاق بالخوارج قال: هيهات! قد نفعني الله بموعظة الرجل الصالح. (2) سن القوانين الرادعة التي تدين الإرهاب وتجرِّم أصحابه، فإنه إذا وُجِدت القوانين التي تزجر المتطرفين وتردعهم وتحاصر فكرهم في كلِّ بلد لم يجدوا لهم متنفساً..
ولقد رأينا وللأسف بعض البلدان الغربية التي تساهلت في هذا الأمر، حتى أوى إليها المتطرفون، وأتيحت لهم فيها المنابر، فكان من ثمرات ذلك أننا رأينا بعض من يحملون جنسيات هذه الدول في صفوف داعش يقاتلون ويذبحون. وإننا نشيد في هذا المقام بجهود دولتنا في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف، ومن ذلك ما أصدره صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، من قانون اتحادي رقم 7 لسنة 2014 لمكافحة الجرائم الإرهابية...
وما أصدره من مرسوم بقانون اتحادي رقم 5 لسنة 2012 لمكافحة جرائم تقنية المعلومات.
(3) إلزام المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي بحذف المعلومات المكتوبة والمرئية والمسموعة التي تعزز فكر داعش وتدعو إليه، وتقديم أي موقع يخالف ذلك للعدالة، ووضع آلية لإغلاق حسابات الفيسبوك وتويتر التي تدعو لفكر داعش، وتجريم الأشخاص أو الجماعات أو الدول التي يثبت دعمها للإرهاب.
نسأل المولى سبحانه أن يحفظنا من شرور الإرهاب والتطرف وأن يديم علينا نعمه، وأن يوفقنا لكل خير ورشاد.