قطع العلاقات مع المعتدين حقٌّ تكفله السياسة الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد؛
فإن من أعظم ما تقوم به مصالح الـمُلك، وتعزيز أواصره، وتثبيت دعائمه: إقامة العلاقات الدولية التي كفلتها الشريعة الإسلامية. وإن من أعظم أواصر العلاقات بين الدول؛ ما يكون بين الدول الإسلامية.
والشريعة الإسلامية قد كفلت حقَّ تكوين العلاقات مع الدول وإقامة المعاهدات؛ وفق الضوابط والأحكام الشرعية، وبما لا يعود بالإضرار على بلاد المسلمين.
ومن حُسن سِيرة أهلِ الـمُلك أن يتَّخذوا منها ما يضمن حصول مصالح المسلمين، والحفاظ على بيضة الدين، وقطع أطماع المتربصين. وبِضِدِّه؛ فإنَّ من أعظم العجز والـخَوَر في سيرة أهل الـمُلك؛ أن يتَّخذوا منها ما يكون فيه الفساد لمصالح المسلمين، وضياع دينهم، وفتح أبصار عدوُّهم للتربُّص به وبأهله.
وقد جاءت الشريعة الإسلامية بالنهي الصريح عن اتخاذ البطانة من الفاسدين والمنافقين وأضرابهم؛ لما في ذلك من إطلاعهم على شؤون الـمُلك، وتجييش الجيوش، وغيرها مما يكون عوناً لأهل الزيغ والباطل، وفي ذلك يقول المولى -عز وجل- : ((يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكِم لا يَأْلُونَكُم خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّم)). وهذا المعنى وإن كان في البطانة، فإنه يجتمع في العلة فيما يترتب عليه من ضرورة اطِّلاع الدول الأخرى على ما يكون من شؤون الدولة، واستغلالهم ذلك في فتح الثغور على بلاد الإسلام.
وإنَّ من أعظم ما يكون سبباً لخلع تلك العلاقات وبينونتها: لبس ثوب الغدر والخيانة من الدول، والسعي في ترويج الفتن والمؤامرات، والكيد لأهل الإسلام، والوقوف مع أهل الضلال والفتن، ولا شك ولا ريب أنَّ من قبيح الخصال والشِّيَم؛ أن يمتهن مسلمٌ ثوب الغدر والخيانة مع أخيه المسلم، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من صفات أهل النفاق؛ فقال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذا خَاصم فجر» متفق عليه.
وكذلك قد وقع النهي عن تقوية أعداء الدين بأي نوع من الوسائل، وهذا مما اتفق عليه الفقهاء بلا خلاف، وقد تكلَّم الفقهاء -رحمهم الله- على ما يكون من المعاملة مع أهل الحرب من غير المسلمين، ونصُّوا على حرمة التجارة والمعاونة في السلاح، قال ابن نجيم الحنفي -رحمه الله- :((النبي – عليه السلام – نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم ولأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين)) [البحر الرائق 5/86]، وقال الحافظ ابن عبد البر المالكي -رحمه الله-:((ويمنعون من شراء كل شيء فيه قوة لهم على المسلمين من السلاح والخيل والسروج والنفط والحديد الذي يعمل منه السلاح، وكل ما كان عدة من عدد الحرب)) [الكافي 1/481].
وعليه؛ فلو أنَّ دولةً ما قد كانت تستعين بالتجارة مع المسلمين لضرب مصالحهم، أو تقويض دعائم الحكم في بلادهم، أو كانت تُعمِلُ أموال المسلمين لإفساد دينهم أو دنياهم، فإن وليَّ الأمر له أن يُجمِعَ شأنه على قطع التعامل مع هذه الدول حفاظاً على بيضة الإسلام وأهله، فإنه لا يستقيم الأمر في ذلك إلا بما تمليه عليه المصلحة الشرعية والدنيوية، وله أن يمنع التجارة إلى تلك البلاد، أو يمنع المسلمين من دخولها؛ لقطع المطامع لكل ما فيه تقوية شوكة عدوِّهم.
قال ابن رشد -رحمه الله- : ((فواجب على والي المسلمين أن يمنع من الدخول إلى أرض الحرب للتجارة ويضع المراصد في الطرق والمسالح لذلك، حتى لا يجد أحد السبيل إلى ذلك، لا سيما إن خشي أن يُحمَلَ إليهم ما لا يَـحِلُّ بيعُه منهم مما هو قوة على أهل الإسلام لاستعانتهم به في حروبهم)) [المقدمات الممهدات 2/154].
فإن قال قائل: هذه الأحكام إنما يُعنى بها دول الكفر، وليس دول الإسلام. فالجواب أن الحكم يدور مع علَّته، والغرض من ذلك هو حماية البلاد، ورَدُّ كيد الأعداء عنها.
ومن تأمَّل في قصة حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- وشأنه في إخبار المشركين ببعض شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وكيف أن ذلك لو تمَّ لكان فيه إفسادٌ عظيم لدولة الإسلام؟ وإنْ كان حاطب -رضي الله عنه- لم يصنع ذلك عداوةً للإسلام وأهله، ولا نكايةً في دين الله، ولذا قال -رضي الله عنه- : ما فعلتُ كفراً ولا ارتداداً، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد صدقكم».
ولذا استدلَّ بهذا الحديث أهل العلم في التحذير من الجواسيس، ومن يكون من الحاقدين على شؤون الدولة وأهلها. ووليُّ الأمر يُحمَدُ على قطعِ أسبابِ التَّربُّص بـمُلكِ البلاد ودينها وأهلها، ومن تلكم الأسباب: قطع العلاقات مع الدول التي تتربَّص ببلاده، والتي تكيد لأهله، فإنَّ الحاكم إذا كان مأموراً بإقصاء من يُفسِدُ على الناس دينهم ودنياهم من الأشخاص؛ فَلَأَنْ يكون مأموراً بإقصاء مَنْ يُفسِدُ عليهم دينهم ودنياهم من الدول من باب أولى. وإذا كان الحاكم مأموراً بحماية الدولة من العدو الداخلي المتربِّص؛ فَلَأَنْ يكون مأموراً بحماية ثغور الدولة من العدو الخارجي الذي يستبيح بيضة الدين والدنيا من باب أولى.
وإن من المتقرر عِلمُه: أنَّ ما ورد في القرآن والسنة من دفع العدو وحماية الثغور، لا ينحصر في العدو الكافر؛ بل يدخل فيه العدو المسلم إذا كان صنيعه من صنيع العدو الكافر، وعلى وليِّ الأمر دفع شرِّه بما ظهر له من سياسة الـمُلك مما يكون أصلح لبلده، وليس لأحدٍ أن يُنازِعَه فيه، فإنْ لم يندفع شرُّه بالأقل؛ دُفِعَ بما هو أكبر منه، وهذا من تمام أداء الأمانة التي أوجبها الله تعالى على الحاكم المسلم.
ثم اعلم -بارك الله فيك- أنه ليس من العيب على الحاكم: الأناة في النظر قبل اتخاذ قراره، وجمع أمره، وحزم شأنه، فإن نفاذ البصيرة عند الولاة تقتضي حسن النظر في العاقبة. ورُبَّما حمل ذلك بعض العامة على استنقاص رأي الحاكم، وما ذاك إلا لقلة البصيرة بمدارك شؤون الحكم، التي يعزُبُ فهمها عنهم. قال القلعي -رحمه الله-في بيانه لضرورة تأني الحاكم في شأنه: ((اعلم أن الأناة إنما قُصِدَت للاستظهار والاستبصار، والنظر في العواقب، وانفساح المذاهب، وبَصَرِ أحسن الأمرين، وأنهج المسلكين، وعند العجلة والمغافصة يفوت ذلك. فالخواطر كالبروق الخواطف، ليس لها ثبات، فربما لاح له رأي وخطر له فكر، فعمل به قبل التثبُّت والتأمُّل، ثم يتبيَّن له أن الصواب كان في غيره فيندم حين لا يغني الندم، ولا ينفع السدم. فأما ما وضح فيه وجه الصواب والسداد، وأمن في عواقبه دواعي الفساد؛ فينبغي أن ينتهز فيه الفرصة عند إمكانها، ويبادرها قبل تعذرها وفواتها)) [تهذيب الرياسة وترتيب السياسة ص223].
وختاماً أقول: كم من دولة أقيمت معها العلاقات، ثم ما تلبث أن تكون من أَلَدِّ الأعداء؟ وكم من مُغرِضٍ قد يتلمَّسُ حسن ظن ولاة الأمر به، وقد زَوَّرَ في نفسه غدرةً وغيلةً لهم؟ فمن تمام الحصافة بذل الوسع في مبادرة انتفاء شَرِّه، وصدق الوزير أبو القاسم الحسين بن علي المغربي -رحمه الله- حين قال: ((فَرُبَّما دَهَمَهُ من مُجاوِريه إلى غفلة؛ ما يَوَدُّ لو سَبَقَ به علمه لو أنفق الأموال الجزيلة عليه)) السياسة ص58.
كتبتُ هذا على عجالة، لا على سبيل الاستقصاء، فاللهَ أسأل أن ينفع به، وأن يصلح به الحال والمآل.
حامد بن خميس الجنيبي
10 رمضان 1438 هـ / 5 يونيو 2017م